القاهرة 1 يونيه 2019 الساعة 02:38 م
د. محمد سمير عبد السلام - مصر
"نوفيلا" رواية حديثة للروائي المصري المبدع أيمن رجب طاهر، صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 2018؛ ويطرح الخطاب السردي – في النص – إشكالية الكتابة، واقترانها بحالة التناغم الداخلي في الشخصية الفنية؛ فالسارد يتناول تطور عملية الكتابة – داخل الشخصية، وخارجها – في سياق ثقافي، واجتماعي نسبي، ومحدد؛ ويدل على ثراء ما هو هامشي في الحياة اليومية، وإمكانية حضوره الآخر في عالم الكتابة الخيالي، أو الافتراضي الذي يسهم في تطوير الشخصية الفنية بصورة دائرية داخلية، أو بصورة جدلية؛ تنتقل فيها الشخصية من موقع نفسي أو اجتماعي إلى نقيضه عبر السرد القصصي، ودلالاته الثقافية، والجمالية.
نعاين –إذا- نوعا نسبيا من الكتابة؛ يسهم في تأكيد التوازن، والتجانس الداخلي، أو الهارموني / التوافقية التكوينية، والجمالية في مواجهة لحظات من التمزق، والانقطاع، والصمت في واقع شخصية الكاتب / راضي؛ وتمنحنا إشارات السارد – في رواية أيمن رجب طاهر – توصيفا جماليا للشخصية يقوم على الجمع بين البساطة، والهامشية؛ فراضي يعيد اكتشاف علامات الحياة اليومية الهامشية، وآليتها العبثية أحيانا من منظور جمالي؛ يؤكد استمرارية الأصالة، وإمكانية تجاوزها لبنيتها الأولى في العوالم الخيالية المنتجة بواسطة الكتابة؛ فالكاتب نفسه ينتقل من لحظات تسلط زوجته / سيدة، واستغلال السمسار / محمود الشريف، واضطهاد الابن العاق / سيف لوالدته العجوز / سمكة، إلى ما هو متاح لديه من كتب، وروايات، واستماعه – مع أصدقائه – للمختصين في ندوات قصور الثقافة، أو حضوره لبعض العروض المسرحية الشبابية، أو مشاهدته لفيلم الأرض؛ وكأن السارد يومئ إلى أن مثل هذه الكتب، والعروض الفنية، والندوات قد تكون عاملا في تحوير وعي الشخصيات الهامشية التي تتمتع بالأصالة من جهة، وإلى أن الاتساع – في العروض والكتب – يؤسس لوعي ممكن مختلف وفق تعبير لوسيان جولدمان، ورصده لرؤية العالم من داخل العلاقة بين الوعي القائم، والوعي الممكن من جهة أخرى.
إننا نعاين نوعا من التناقض – في الوعي القائم - بين شعور البطل / راضي بسطوة الهامشية، وآليتها، وتنامي إحساسة – في الوقت نفسه – بالأصالة، والإيجابية، والتحقق الذاتي في نطاق الفن؛ بينما تعلو مساحة الفعل أو الأداء الجمالي - في الوعي الممكن لراضي – حين ينشر عمله الأول نوفيلا، وحين يعاين تطوره الداخلي – ككاتب – من استلهام مادة الإبداع من قسوة اليومي إلى تحرر النوازع الخيالية التي تنبع من اتساع رقعة الجمالي بداخله؛ فهذا الاتساع الجمالي الذي أحدثه انتشار الأعمال، والعروض الفنية قد حور وعي الشخصية، وشكل درجة قصوى من التناغم الداخلي الذي يرتكز على فاعلية الأصالة الفنية داخل الشخصية، وخارجها؛ وأرى أن الخطاب السردي قد أسهم في إحداث نوع من التناغم في واقع راضي نفسه؛ فهو على درجة من التوافق والود – في نطاقي الواقع اليومي، والمؤسسة الثقافية – مع صديقه الشاعر حمزة، ومع شخصيات من قصور الثقافة، والحي؛ وقد أسهم هذا التوافق في تحقيق قدر من الخلاص – في واقع الشخصية – من استغلال السمسار محمود الشريف، واستيلائه المزيف على منزل راضي بالتعاون مع سيدة، وتجلى ذلك التوافق الإنساني في تطليقه لسيدة، وشروعه في الزواج من أخت زميله زكريا، واستمراره في الكتابه؛ وانتقاله النوعي – فيها – من تمثيل الواقع إلى التحرر الخيالي / الذاتي.
وتؤكد عتبة العنوان / نوفيلا أهمية الإبداع كموضوع في حياة الشخصية الفنية الرئيسية – في رواية أيمن رجب طاهر – ودوره في تطوير العالم الداخلي الروحي للبطل، ومعرفته بالعالم؛ فضلا عن تأكيد أصالة الفعل الذاتي في الحياة اليومية نفسها؛ وكأن النوفيلا قد أسهمت في تحوير واقع الشخصية، وتحقيقها لدرجة أكبر من الإيجابية، والأصالة التي قد تعلو لحظات الانقطاع، والصمت، والآلية، أو تفكك مركزيتها.
وقد قام السارد بتشكيل مجموعة من التعارضات البنائية، أو بعض التقاطبات بين مجموعة من الثيمات، أو الشخصيات الفنية المشكلة للعمل؛ مثل التقاطب بين ثيمتي البحث عن الأصالة الجمالية الداخلية، ومنطق التبادل الآلي، والسمسرة، والاستغلال، أو بين ثيمتي الموت، والحياة المحتملة في النص، أو في العالم الافتراضي، أو بين الهارموني أو التوافق الجمالي، ولحظات الصمت، والقسوة الآلية؛ وتتعارض مثلا صورة أمنية ابنة راضي التي تمثل التناغم الداخلي في وعيه، ولا وعيه مع صورة سيدة / زوجته المتسلطة، ويعزز السارد من التقاطب بين مجموعة المثقفين، وزملاء راضي، وبعض جيرانه؛ مثل حمزة، والأستاذ أيوب، وزكريا، ومجموعة من الشخصيات تمارس القهر، والاستغلال؛ مثل محمود الشريف، وسيف، وسيدة؛ ومن ثم يظهر السارد تباين الثيمات، والرؤى، والشخصيات التي تشكل نشوء الإبداع، وتطوره الداخلي، وصيرورته الممكنة في المستقبل في وعي، ولاوعي البطل / راضي.
لقد تطورت شخصية راضي دائريا – وبصورة داخلية – من داخل حبه للأصالة الجمالية الإبداعية؛ وإن انتقل من تمثيلاته الخيالية الإبداعية المتعلقة بصورة أمنية ابنته، وبقراءاته البسيطة لروايات ثروت أباظة؛ مثل هارب من الأيام إلى حالة الأداء الإبداعي / الكتابة، وفوزه بالنشر في مشروع النشر الإقليمي، ثم رصد السارد لطفرة تحوله من استلهام ثراء الواقع اليومي الهامشي / البسيط، إلى الوهج الخيالي في الكتابة الإبداعية الروائية.
ويختلف هذا التطور الشخصي الدائري – في الخطاب السردي – عن تطوير السارد لشخصية سمكة تطويرا فنيا جدليا من الموقع الهامشي إلى نقيضه / المتن في المخيلة الروائية، وأحلام اليقظة في وعي البطل راضي؛ وكأن موتها كان علامة تشير إلى نشوء آخر، أو حياة نصية أخرى محتملة في فعل الكتابة.
وقد كان لعروض الفن أثر في تطوير وعي، ولاوعي راضي، وتجدد تشكيله لهويته الجمالية في خطاب السارد التفسيري؛ يقول السارد:
"فتح عينيه على نهاية حلم هربت فلوله، لكنه استطاع أن يلملم شتات أحداثه الأخيرة التي رأى فيها نفسه يقف وسط الممثلين الشباب الذين لعبوا أدوارهم في المسرحية، ولا يدري أي دور قام به، دخلت الفتاة التي أدت دور السيدة العجوز، ففوجئ بأنها أمه، يقف قبالتها، ويدين حواجزها التي بنتها حول حريته، واختلاطه بأهل الحارة". ص 117.
يكشف خطاب السارد التفسيري للحلم – في رواية أيمن رجب طاهر – عن الإعلاء من ثيمتين متعارضتين في وظائف المتوالية السردية؛ هما التمثيل الرمزي للقيود التي ارتبطت بتاريخ راضي، وعلاقته بأمه، والولادة الإبداعية المحتملة في علاقته بأعمال الفن، وبالإبداع؛ وكأنه يبحث – في لغتي الحلم والنص – عن نشوئه الإبداعي المحتمل.
ويعزز الخطاب هنا من التبئير الداخلي للشخصية وفق تعبير جينيت؛ إذ يلج السارد وعي الشخصية، وأخيلتها، وأحلامها، وذكرياتها، كما يؤكد الحلم استبدال الوظائف كما هو في تصور فرويد لمنطق الحلم، وآليته؛ وإن أكد الخطاب التحول الإبداعي للشخصية في مستويي الوعي، واللاوعي؛ فراضي قد بدأ يشكل أثره الفني، ووجوده الآخر من داخل الاتساع الثقافي لأعمال الفن في واقعه البسيط.