القاهرة 21 مايو 2019 الساعة 02:16 م
كتب: فتحي بنمعمّر - تونس
ماذا في كنانة هذاالرجل وفي جعبته؟ وهل أستطيع أن أجيب اليوم وأنا ابن الخمسين ربيعا أو أزيد؟ ماذافي جرابه غيرُ ما يُضحكنا ويُسلّينا ويُفرحنا حتّى وإن أخافنا أو أزعجنا أوأبكانا؟ ماذا في صوته وحركاته غيرِ المنظورة وعرائسه التي نراها ونرى خيوطاتحرّكها ونسمع صوتا نُدرك مصدره ومع ذلك نغيب غيابا جميلا في غيابات الحَكْيِ غيرُبديع يُغوينا فنصير غواة نتّبع منشئ الحكاية كما يُتّبعُ الشّعراءُ في الثّقافةالعربيّة الإسلاميّة؟
أذكر فيما أذكر وأناابن أربع سنوات، أنّنا كنّا قد خرجنا في سياحة عائليّة ومعنا جدّتي لأمّي. وكنتببراءة طفل أصنع من أعواد ما يصوّره لي خيالي وقتئذ على أنّه حصان، وكنت ألعبقربها وأصوّت محاكيّا صهيل الفرس وأقفز وأجري وأدور حولها محاكيا هرولته وعدوه.أذكر أنّها أخذت منّي تلك الأعواد بلطف وطفقت تحرّكها بحركة يديها ذات اليمين وذاتالشّمال وبين الفوق والتّحت بارتعاش أحيانا وبثبات ووقار أحيانا أخرى مراوحة بينسرعة فائقة تخطف بصري وبين تُؤدةٍ تسحرني. وما كنت في تلك الدّقائق أرى غيرَ خيالالفرس يتمثّل أمامي لحما ودما وصهيلا وخنفرة وعرقا يغطّي لَبَانَه. وأكاد أجزمالآن أنّي كلّما قرأت بيت امرئ القيس
مِكَرٍ مِفرٍ مقبلٍ مُدبِرٍ معا .... كجلمود صخر حطّه السّيل من علٍ
حضرت في ذهني تلكاللّحظات مع الجدّة رحمها الله. بل أكاد أجزم أنّي ما فهمت البيت الشّعري إلاّ منخلال تلك المشهديّة العجيبة التي صنعتها امرأة أُميّة لا علم لها بفنون التمثيلوالمسرح والحكي سوى ما ألقتها في روعها التّجربة وما انبعث فيها من فنّ يرمي إلىإمتاع حفيد لا يشبع خياله ولا يقنعُ. هو ذاك بالضبط ما يَفعله السُّرادُ جميعا وفيكلّ الثقافات سواء كانوا حُكاة بسطاء لا سلاح لهم سوى فنّ الحَكْي وطبقات الصّوتوبعض حركات اليد وتقاسيم الوجه وبديع الأحداث أو الخرافة أو كانوا من محترفي فنّالفرجة بمختلف أنواعها ومدارسها وتقنياتها.
"الأراجوز"كما رأيناه أبدع صوره في فيلم "الأراجوز" بأداء متميّز لعمر الشّريف هوسليل مثل هذه اللّقطات الحكائية البسيطة الممتعة وهو النسخة المتطوّرة بتمظهراتمختلفة للحكاية في أبسط مظاهرها وللوظائف التي تحدّث عنها فلادمير بروب في معرضحديثه عن ميكازمات الحكاية العجيبة. غير أنّ الأراجوز يتوسّل بالعرائس التييحرّكها كيفما يشاء بحريّة مقيّدة محكومة بمضمون القصّة وتضاريسها الفنيّة ممزوجةبأصوات يقتضيها المقام وتستدعيها تعرّجات السّرد وتحوّل المخاطبات الحوارية منشخصيّة إلى أخرى بتنغيم مخصوص في ميكساج بدائي لم يتعلّمه في مدارس الفنونالسّمعيّة البصريّة, غير أنّه ميكساج صادق ممتع نابع عن تفاعل بل عن تماهٍ مطلق معمختلف الشّخوص، تماهٍ لا يُلقّاه إلاّ ذو حظّ عظيم في روح الفنّ وصِدقيّة الأداءوعلو الكعب في شتّى المواهب ودراية ديداكتيكيّة طبيعية لم تُلقّنه إياها المدارسولا النّظريات العلمية أو المعرفيّة.
ولئن بدا الأراجوزألصق بالمسرح والفنون الفرجويّة فإنّه لا شكّ من جوهر الأدب بمختلف أجناسه وضروبهكما أنّه على صلة بمختلف الفنون ولاسيما التّشكيليّة, أليس الفنّان التّشكيلييُعيد هو الأخر تشكيل العالم وسرد الحكايا والخرافات ويحقّق وظائف بروب أو يكادبعرائس الألوان التي يُشكّلها كيفما يشاء في حرّية مطلقة مقيّدة بما تقتضيهاالفكرة وما الفكرة إلاّ حكاية وتمثّلا كتلك التي تلبّست بطفل الأربعة أعوام, فماذايفعل الأراجوز غير أنّه يروي بروح الطّفولة الإنسانية، ويُمتع بروح الأحلامالإنسانيّة، ويسحر بحبور الإنسان المحتفل بالحياة فيشكّل الوجود كيفما يريد أوكيفما تتمثّله تجارب الإنسان في قالب باهر مُثير ساحر.
إنّه ببساطة ينحتمن كبده ما به يُمتع ويُفيد ويُحيي النّفوس وهي رميم, وتلك لعمري أعظم رسالة للفنّوأقدس طقس من طقوسه.