القاهرة 11 مايو 2019 الساعة 03:53 م
د. حسين عبد البصير*
كان من المثير للدهشة أن تم تقديس وتأليه بعض الملوك الفراعنة في حياتهم في مصر القديمة، وكذلك امتد ذلك التقديس إلى بعض الشخصيات المبجلة بعد مماتهم. وفي هذا السياق، تعد ظاهر تقديس وتأليه الملوك الفراعنة في حياتهم من أكثر الظواهر إثارة للجدال حول طبيعة ومفهوم تقديس البشر الأحياء في ديانة مصر القديمة. وبالرجوع إلى النصوص المصرية القديمة، نجد أنها أطلقت على الحاكم لفظة ملك "نسو" ولفظة إله "نثر". وقد قُدس الملك في العبادة المصرية القديمة في حياته وبعد مماته وفقًا لهذا المفهوم ولتلك النظرة المقدسة للملك المصري القديم. وعلى الرغم من أن دراسة طبيعة ومفهوم الملكية في مصر القديمة توضح أنه إذا كان ملك مصر ينعت عادة بلفظ "إله"، فإنه في نصوص أخرى كان يُعامل على أساس غير إلهى مقدس بالمرة. فما قصة تأليه الحاكم في مصر القديمة؟
في واقع الأمر، فإن أصل الحقيقة يرجع إلى أن الملك في مصر القديمة كان يحوز ويحافظ على الألوهية المقدسة نتيجة لعدد من الطقوس الملكية المهمة والتي كان من خلال ممارسته لها تتحقق له ألوهيته الرمزية والفعلية على السواء، وكان من بين أهم تلك الطقوس، تتويج الملك الإلهي على عرش مصر المقدس والذي كان يُنظر إليه على اعتباره الطريقة المثلى التي من خلالها كان يمكن للملك أن يتحد مع "الكا" ( أو "القرين" الخاص به) الملكية المؤلهة الخاصة به، وكانت تمثل تلك "الكا" الملكية "قوة الحياة الموروثة"، وكانت أيضًا تعبر عن "الروح المبدعة الخالدة للملكية المؤلهة" في مصر القديمة. وكان هذا الاتحاد ذا أهمية قصوى، إذ كان يقوِّي من حكم الملك ويدِّعم مفهوم وأسّس ملكيته المقدسة. ومن هذا المنطلق، كان الملك يستقبل طقوس العبادة باعتباره مقدسًا مثل "الكا" الملكية المؤلهة الخاصة به. وأصبحت تلك الطقوس بارزة في عصر الدولة الحديثة وتحديدًا منذ بداية حكم ملك الشمس "أمنحتب الثالث"، والد فرعون التوحيد الملك "أخناتون". وكانت تماثيل الملوك الفراعنة تستقبل القرابين مثلها مثل تماثيل الآلهة وذلك من خلال طقوس تقديم الخدمة اليومية داخل المعابد المصرية القديمة العديدة. ولعل أبرز الآثار التي خُصصت لعبادة الملك الحي هو معبد الملك الشهير نجم الأرض رمسيس الثاني بـ«أبو سمبل» بمحافظة أسوان في جنوب مصر. وهناك عدد من المناظر يصور الملك المؤله في حياته يقدم القرابين لذاته المؤلهة. وفي هذا السياق، فإن الملك لا يعبد نفسه بقدر ما يعبد ويكرس ويقدس مفهوم الملكية المؤلهة في "الكا" الملكية المؤلهة التي يمثلها وفقًا لمفهوم الملكية عند المصريين القدماء.
واستمرت عبادة الملك المؤله بعد وفاته. وترجع أهمية الملك في مصر القديمة إلى عظم الدور الذي كان يقوم به في المجتمع المصرى القديم سواء من الناحية الدينية أو من الناحية السياسية وحفظ النظام الكوني. ومن هذا المنطلق، فقد كان الملك المصرى القديم شخصًا مقدسًا في أغلب الأحوال، وكانت عبادة الملك من أهم الملامح الحضارية في مصر القديمة. وتظهر عبادة الملك جلية في الآثار الملكية العظيمة والعديدة مثل المجموعات الهرمية في عصري الدولتين القديمة والوسطى والمعابد الجنائزية في عصر الدولة الحديثة على الشاطئ الغربي لنهر النيل العظيم بمدينة الأقصر الخالدة. ومنذ بدايات التاريخ المصري القديم، احتوت المقابر الملكية على مكان لتقديم القرابين المادية الخاصة بالطعام والشراب لروح الملك المتوفى. واحتوت المجموعات الهرمية الخاصة بملوك عصر الأسرة الرابعة وما بعدها على معبد جنائزي كان يقع في الناحية الشرقية من المجموعة الهرمية وكان مخصصًا لعبادة الملك المتوفى من خلال تمثال يمثله ويستقبل نيابة عنه الطقوس ويتسلم القرابين. وبنى ملوك الأسرة الثامنة عشرة من عصر الدولة الحديثة ما يطلق عليه اصطلاحًا "معابد تخليد الذكرى"، وأعني ذكرى الملوك المصريين القدماء من الموتى المبجلين. وبُنيت تلك المعابد على الجانب الغربي بحذاء شاطئ النيل كي تستقبل زوار تلك المعابد في الأعياد والمناسبات التي كان يتم فيها تقديم القرابين وزيارة الملوك الموتى والعناية بأرواحهم الطاهرة. وفي تلك المعابد الكبيرة الخالدة التي كانت تُدار بواسطة الدولة والكهنة المكرسين لخدمتها والعمل على خدمة أرواح الملوك الموتى، استمرت أرواح الملوك الموتى في استقبال القرابين مثلها في ذلك تمامًا مثل الإلهين الشهيرين "آمون" و"رع حور آختي". وكذلك بنى ملوك الدولة الحديثة العظام ما يطلق عليه "معابد ملايين السنين" كأماكن مخصصة لـ "الكا" الملكية المؤلهة قبل وبعد موت أولئك الملوك. وكذلك امتدت عبادة الملوك الموتى لمعابد غير تلك التي كانت تديرها الدولة مثل ما فعله العمال والفنانون المهرة بناة المقابر الملكية وغيرها، الذين كانوا يقطنون في منطقة دير المدينة والتي تقع على الشاطئ الغربي لنهر النيل بمدينة الأقصر الساحرة، حينما بنى أولئك العمال والفنانون العظام بعض المقاصير وخصصوها لتقديس وتكريم الملك المقدس "أمنحتب الأول"، ابن طارد الهكسوس "الملك أحمس الأول" العظيم، وأمه الملكة الخالدة "أحمس نفرتارى" اللذين قدسهما أولئك العمال والفنانون باعتبارهما المؤسِّسين والراعيين الحاميين للمدينة ولهم بالتبعية. وفي هذا ما يُذكِّر بمثل الصنيع الذي فعله عمال المناجم في عصر الدولة الوسطى في شبه جزيرة سيناء حينما قدسوا وأقاموا العبادة للملك المؤله طويلاً "سنفرو" العظيم، والد الملك "خوفو" صاحب الهرم الأكبر بالجيزة.
إن طبيعة الملك الحاكم في مصر القديمة كانت تختلف تبعًا لطبيعة العصر الذي عاش فيه الملك خصوصًا في عصور القوة والثراء وامتداد الحكم. وقد أضفت تلك العصور بالضرورة على ملوكها المهابة والقداسة، فمال بعضهم إلى تقديس ذاته في حياته، مثل سنوسرت الثالث ورمسيس الثاني وغيرهما. وكانت طبيعة الملك تختلف وفقًا لطبيعة وشخصية الملك نفسه؛ فكان منهم ملوك مؤلهون في حياتهم، وكان هناك آخرون عاديون في حياتهم ومقدسون بعد وفاتهم. غير أنه، في الأغلب الأعم، كانت القداسة تحيط بأغلب ملوك مصر الفرعونية؛ لأنهم كانوا أبناء الآلهة على الأرض الذين يحكمون مصر والعالم نيابة عن آبائهم المقدسين.