القاهرة 07 مايو 2019 الساعة 10:53 ص
كتب: عاطف محمد عبد المجيد
تمثل العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين حقبة فريدة من أروع الحقب في تاريخ العلم، وفي ملحمة العقل البشري بأسرها، فقد شهدت ثورة الكوانتم والنسبية التي حق اعتبارها أخطر انقلاب في مسار العقل العلمي, لم تكن محض إضافات تتراكم فوق ما سبق، بل هي شق لطريق جديد يقوم على أسس إبستمولوجية وميثودولوجية، أي معرفية ومنهجية، مختلفة تمامًا، سرعان ما باركتها المنجزات والحصائل المتوالية بمعدلات متصاعدة غير مسبوق, هذا ما جاء على لسان د.يمنى طريف الخولي في كتابها "العلم والاغتراب والحرية..مقال في فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية" والذي صدرت حديثًا طبعته الرابعة عن الهيئة العامة للكتاب.
التقدم العلمي:
الكاتبة ترى أن كتابها هذا هو محاولة فلسفية لرصد وتعيين ماهية الانقلاب الجذري الذي طرأ، كما يتبلور في الانتقال من التصور الحتمي لطبيعة العلم وطبيعة العالم، إلى التصور اللاحتمي لكليهما، الأرحب والأعقد والأكثر دهاءً، والواعد بآفاق لا محدودة للتقدم العلمي المستقبلي المتتالي, الخولي تقول هنا إن الحتمية العلمية، وكما هو معروف، كانت ذات ثقل وبيل وانعكاسات عميقة التأثير في بنية الفلسفة الحديثة بأسرها، مثلما ترى أن الحتمية واللاحتمية العلمية مقولة كبرى مترامية الأطراف، مضيفة أن كتابها هذا يقدم معالجة أساسية شاملة ومتكاملة لقضية الحتمية واللاحتمية العلمية، وهي قضية مركزية من قضايا التفكير العلمي وفلسفة العلم والفلسفة إجمالًا، وما زالت محاطة بالغيوم والالتباسات.
هنا تذكر الخولي أن الهدف النهائي البعيد من هذا الكتاب يتبلور في الاغتراب، تلك الأزمة الحضارية الساحقة الماحقة، والتي أطبقت فكّيها بشراسة على العقلية المعاصرة، وقلّ أن ينجو من قسوتها الإنسان المعاصر، محاولةً هنا أن تقف على الأبعاد البعيدة والأعماق العميقة للاغتراب.الخولي ترى أن الحتمية العلمية خلقت اغتراب الإنسان عن العالم حيث جعلته غير متوافق مع قدس أقداس التجربة الإنسانية: الحرية، عالمًا غير صالح لحياة الإنسان، ولا يليق إلا بالجماد تروس الآلة الكونية العظمى.
باختصار، تقول الكاتبة، ليس هذا هو عالمنا، لا ننتمي إليه ولا ينتمي إلينا، كلانا غريب عن الآخر ومغترب عنه, كذلك ترى أن ثمة مشكلة في كيفية التوفيق بين العلم والحرية، خاصة وهما يبتعدان ولا يلتقيان.
الوجودية:
هنا نقرأ كذلك أن العلم كان يعطي حرية بيمناه، ويسحب بيسراه أخرى هي الأساس، خالقًا بهذا وجهًا من وجوه التناقض وثنائية الاقتراب, إن روعة العلم العقلية النظرية والعملية التطبيقية جعلت الرأي الذي يميز عقيدة التنوير المتفائلة مؤداه أن العلم الإنساني والحرية سوف يتقدمان متآزرين معًا ليدخلا منطقة من إمكانية الكمال الإنساني غير المحدود، وتحسب الكاتبة أن سعي التنويريين قد خاب إذ لم يتآزرا قط، بل تناقضا من كل الوجوه التي أدت إلى الشيزوفيرينيا.
الخولي تطرح هنا سؤالًا مهمًّا يقول هل انتهت الشيزوفيرينيا، أو توقف نموها السرطاني بانتهاء عصر التنوير؟ وتجيب بالنفي إذ سارت اشيزوفيرينيا حتى وصلت إلى سدرة المنتهى حين تمخضت عن الحركة الرومانتيكية، وهي المقدمة المباشرة لمأساة الاغتراب المعاصرة.
كذلك تسأل الكاتبة من هم جند الصف الأول، من حيث الحرية، المستبسل في الفكر المعاصر؟ وكيف وصلت الوجودية إلى كل هذه الدرجة من الاغتراب؟
إلى جانب هذا ترى أنها من حقها أن تحكم بأن الحتمية العلمية قد أصابت الفلسفة بالشيزوفرينيا، وفصمت الكون إلى عالمين، والإنسان إلى كائنين، فتمخضت في الفكر المعاصر عن مأساة الاغتراب، متساءلة هل يجدي البحث عن بؤرة دار الاغتراب في غير معاقل الحتمية العلمية؟
أزمة أليمة:
في كتابها / بحثها / مقالها هذا تقول الخولي: إن الاغتراب أزمة أليمة ذات نتائج حضارية وبيلة على الفرد والمجتمع، وما دمنا نبحث عن عالم أفضل، فلا مندوحة عن أن يأخذ الاغتراب دلالة سلبية غير مقبولة تتمثل في انفصال الإنسان عن ذاته وعن العالم، انفصالًا لا يصبح معه قادر على التناغم والانسجام، لا مع نفسه ولا مع العالم على حد قول محمود رجب في كتابه الاغتراب.
الخولي متحدثة عن كيفية تفشّي الاغتراب، وليد العلم الحتمي، في الحياة وفي العقلية المعاصرة تقول إن هناك تقاعسًا ثقافيًّا بين العلم وبين الثقافة الشعبية,كما تقول إنه من غير المقبول أن تشكو العيس في البيداء الظمأ والماء فوق ظهورها محمول، وترى أنه من غير المقبول أيضًا أن ننشغل بالكل النائي فيلهينا عن الجزء الحميم, مثلما ترى ما يراه صلاح قنصوة الذي يؤكد أن اغتراب العلم يفضي إلى نتيجتين، إما أن تفرض الحتمية، أو إلى القول بثقافتين منفصلتين، العلمية والإنسانية.
هنا أيضًا تخلص الكاتبة إلى القول بأن اغتراب العلم ما هو إلا مقدمة لاغتراب العقلية المعاصرة بأسرها، وإن الطريق إلى قهر الاغتراب الضاري الشامل يبدأ بقهر اغتراب العلم، وقهر اغتراب العلم يأتي من فلسفة العلم, هنا كتبت الخولي عن مبدأ الحتمية وضروبها ولماذا ساد مبدأ الحتمية العلمية، كما كتبت عن أزمة العلم الحتمي وعن الخروج وتحطيم العالم الحتمي وعن ثورة العلوم الرياضية.