القاهرة 30 ابريل 2019 الساعة 01:38 م
كتب: د.محمد السيد إسماعيل
اختار كرم صابر لروايته الصادرة حديثا عن دار " ألف ليلة وليلة " عنوانا لافتا هو " زبلة " الذى يحيل إلى اسم بطلها العجيب – جسدا وروحا – والذى يذكرنا بعجائبية أفعاله وأسطوريتها, بالقصص الشعبية التى تدور حول شخصية " عقلة الإصبع " وما يأتى به من عجائب رغم جسمه الصغير, والجسد " المشوه " أو صاحب العاهة الذى يمتلك قوة روحية فاعلة يذكرنا بشخصية " أحدب نوتردام "..
لكن " زبلة " – هذا الاسم الذى يطلق فى الأوساط الشعبية للسخرية وللدلالة على ضآلة الجسم – يفترق عن الشخصيات السابقة فى أنه يستند إلى رصيد اعتقادى راسخ فى الوجدان العام حول كرامات الأولياء, الذين تأتى قوتهم الحقيقية مما بداخلهم من نقاء وإيمان وهالات نورانية تنعكس على ملامحهم.
ويمثل "موسى " العجلاتى و" زبلة " ثنائية الولي والمريد في العرفانية الصوفية, رغم أن الرواية لا تطرح هذه الأجواء بصورة مباشرة بل من خلال ما يسمى بوحدة الوجود بوصفها أحد مقومات الرؤية الصوفية للعالم, ولا يكتفى السارد بهذه العلامات فحسب بل يجعل من بطله جزءا من الكون بأسره : الطيور والورود والحيوانات ويجعل طفولته شبيهة بطفولة " حى بن يقظان " الذى رعته وأرضعته إحدى الظباء.
كذلك فإن زبلة " حين تضعه " لواحظ " على الأرض أثناء مضاجعة زوجها تلحس هنية وجهه برفق فيزحف إلى بطنها ويرضع من ثديها مشاركا كلابها فى الحليب, ويشارك الوزة العجوز بقايا الأكل, وحين يقع على الأرض "تجرى بلهفة وتسنده بفمها الطويل حتى يقف مرة أخرى وسط صغارها", وفى تطور لاحق – أثناء صباه – تصبح لديه القدرة على إعادة الحياة للعصافير المذبوحة بمجرد أن يضع رأسها على جسدها مرة أخرى؛ الأمر الذى يذكرنا بالمسيح!
ويمكننا القول أننا أمام سارد ينتمى إلى حضارة محددة يستطيع توظيف معارفها واعتقاداتها, والحقيقة أن ميلاد هذه الشخصية تقترب – على سبيل المحاكاة – من ميلاد أبطال الملاحم المرتبط بالأساطير؛ مما يعنى أننا فى عصر بطولة الإنسان البسيط فى كفاحه اليومي وعذاباته المعيشية, ولنتأمل هذا المشهد :" أثناء نزوله من بطن أمه شاهد نفسه كائنا ضئيلا فى حجم عقلة الإصبع يتساقط من السحب إلى شاطىء بحر تتصاعد منه أبخرة وسكون ".
تأخذ هذه الشخصية إذن بعدها المفارق للمألوف والطبيعي أيضا – طبقا للاعتقاد الدينى من تأكيد علاقة الأرض بالسماء أو لنقل علاقة طينة الجسد بنورانية الروح حيث نظر – بمجرد نزوله من بطن أمه ,كما لو كان امتدادا لروح المسيح – إلى "البراح الممتد وشاهد بقعة بعيدة تخرج منها يدان ممدودتان نحو جسده سحبته وأدخلته وسط نورها ليذوب ويتلاشى فى ضيائها" .
" الأرض " جسر عبور وليست مكان إقامة فالبيت الحقيقى الدائم فى " السماء " هكذا علم " العجلاتى " جيرانه قيمة التسامح و"ظل يحكى بصوت مسموع عن بيت خشبي وسط السماء ينتظر وصوله لينعم فيه ويستريح".
هذا اليقين الداخلى الذى اكتسبه " زبلة " من وليه " موسى " انعكس على قوته الروحية وعوضت عجز جسده, هذا ما كان يلاحظه المارة أثناء ركضه خلف الباصات "لأن قدمه اليسرى رغم عجزها تعطيه هالة تجعلهم مبهورين برؤية عزيمة كتلة من اللحم تتدحرج على الأرض" وتتوازى مع ثنائية الأرض والسماء – وهى هنا ثنائية تكاملية – ثنائية أخرى لا تعكس تناقضا بين طرفيها هى " الموت والحياة "؛ حيث يخرج الموت من الحياة, والحياة من الموت فى دورات متتابعة.
هذه الرؤى التى تعكس محبة الآخر ومحبة الكون بأسره من خلال ما أشاعه " موسى " و" زبلة " بوصفه امتدادا له بعد موته جعلت – أى هذه الرؤى – من الحارة واحة للمحبة, واللافت حقا أن السارد لم يعاد الجسد واحتياجاته بل جعله موازيا لقوة الروح فى شخصية بطله العجيب؛ فبعد أن يقهر " زخارى " اللص بقوة روحه المتجسده فى نظرته الثاقبة ذهب إلى حجرته وأخفى "محاسن فى أحضانه وضاجعها عدة مرات ولم يهتم أن جنينها قد أوشك على النزول", لقد بدأ " زبلة " وكأنه يكتشف جسده بعد رؤية العايقة وزوجها " الفرماوى " فى علاقة حميمة؛ ففوجئ بانتفاخ " عضوه " وبلل بنطاله على غير إرادته, لكن السارد لا يدخلنا فى حالة شبقية حتى عندما يصور نظرات زبلة إلى صاحبات أمه فهو – فى النهاية – " يضم أرواحهن كأخوات ", فيبتهجن متناسيات آلامهن.
ولا تعود قوة زبلة إلى نظرته الثاقبة فحسب, بل فيما يحفظه من " تعاويذ " تعيد الحياة للميتين وتزيل الحزن من القلوب, ولعل الإصرار على قوة النظر والكلمة يفسر حرص السارد على تصوير فقدان الجسد لاكتماله, كما يبدو فى فقدان بطله لإحدى عينيه على يد أبيه, وقطع الفرماوى لإحدى يديه, حتى كاد يكون نصف شخص عاجز ضاع منه نصفه السليم, وهو ما يصوره السارد فى هذا المشهد الدال " شاهد نفسه مقسوما إلى نصفين على الضفة النظيفة, وينادى بنصف لسانه كي يعود نصفه العاجز إليه .. لم يكن يدرى أيهما هو زبلة الحقيقى لكنه شاهد نصفه العاجز يبادر بهمة ويلقى بنفسه فى المياه راغبا الوصول إلى الضفة الأخرى ليلتحم بنصفه السليم ويكمله ".
ولعل هذا هو مسعى الرواية بصورة عامة أن يلتحم نصف الإنسان العاجز – هل هو الجسد ؟ - مع نصفه السليم الذى يوازى الروح؛ ومن هنا نستطيع أن نفسر سر هذه الأفعال التى أتى بها العجلاتى فى حياته وبعد موته من طيران النعش واختفاء الجثة أو ما أتى به زبلة حين حكى عن "سرب الحمام الذى نادى عليه..فلبى نداءه وسار داخل ظله المرسوم على الأرض كدائرة مشى بداخلها لتحميه من ركام السيارات وأقدام الباعة وحين اختفى الظل توقف ونظر إلى السماء فلم يجد أثرا للحمام", أو إعادة الحياة إلى قطة دهستها عجلات توكتوك, أو فى انتقالاته المتتابعة بين الأماكن الأرضية والأماكن التحليلية.
وإذا كان يقال أن السرد – غالبا – ما يبدأ بحركة طائرة أو قطار يقلع, فإن روايتنا تنتهي بهذه الحركة في دلالة رمزية لتيمة السفر التي توازى رحلة الإنسان من الحياة إلى ما بعدها.