القاهرة 30 ابريل 2019 الساعة 01:14 م
كتبت: د .فايزة حلمي - مستشار نفسي وتربوي
كثيرا ما نسمع عن أهمية التراث الثقافي.. ولكن ما هو التراث الثقافي؟ ولمَن التراث الوطني ، على سبيل المثال ، لمَن تنتمي موناليزا ليوناردو دافنشي؟ هل هي فرنسية أم إيطالية؟
بادئ ذي بدء دعونا نلقي نظرة على معنى الكلمة: "التراث" هو مِلكية شيء موروث ينتقل من الأجيال السابقة, وفي حالة "التراث الثقافي"، لا يتألف التراث من أموال أو ممتلكات، ولكن من ثقافة وقيم وتقاليد, التراث الثقافي ينطوي على رابطة مشتركة، إنتمائنا إلى المجتمع, إنه يمثل تاريخنا وهويتنا؛ رباطنا بالماضي والحاضر والمستقبل.
التراث الثقافي المادي وغير المادي:
غالبًا ما يعيد التراث الثقافي إلى الأذهان التحف الفنية (اللوحات والرسومات والمطبوعات والفسيفساء والتماثيل) والآثار والمباني التاريخية والمواقع الأثرية, لكن مفهوم التراث الثقافي أوسع من ذلك، وقد نما تدريجياً ليشمل جميع الأدلة على الإبداع البشري والتعبير: الصور الفوتوغرافية والوثائق والكتب والمخطوطات والأدوات ، إلخ ، أما كأشياء فردية أو كمجموعات, واليوم، تُعتبر المُدن والتراث تحت الماء والبيئة الطبيعية أيضًا, جزءًا من التراث الثقافي, لأن المجتمعات تتعرف على أنفسها بالمساحات الطبيعية.
علاوة على ذلك لا يقتصر التراث الثقافي فقط على الأشياء المادية التي يمكننا رؤيتها ولمسها, ويتكون أيضًا من عناصر غير مادية: التقاليد، والتاريخ الشفهي، وفنون الأداء، والممارسات الاجتماعية، والحِرَف التقليدية، والطقوس، والمعارف والمهارات المنقولة من جيل إلى جيل داخل المجتمع.
وبالتالي يتضمن التراث غير المادي مجموعة مذهلة من التقاليد والموسيقى والرقصات مثل التانغو والفلامنكو, والمواكب المقدسة, والكرنفالات, وصيد الصقور, وثقافة المقاهي الفيينية, والسجاد الأذربيجاني وتقاليده في النسيج, ودُمى الظل الصينية, ومسرح كابوكي، والغناء المجسم لآكا وسط أفريقيا (على سبيل المثال لا الحصر).
أهمية حماية التراث الثقافي:
لكن التراث الثقافي ليس مجرد مجموعة من الأشياء الثقافية أو التقاليد من الماضي, إنها أيضًا نتيجة لعملية اختيار: عملية من الذاكرة والنسيان تميز كل مجتمع بشري يشارك باستمرار في الاختيار, لأسباب ثقافية وسياسية, ما الذي يستحق الحفاظ عليه للأجيال المقبلة وما هو غير ذلك.
وتساهم جميع الشعوب في ثقافة العالم, لهذا السبب من المهم احترام وحماية التراث الثقافي، من خلال القوانين الوطنية والمعاهدات الدولية, لأن الاتجار غير المشروع بالقطع الأثرية والثقافية، ونَهْب المواقع الأثرية، وتدمير المباني والمعالم التاريخية، يتسببان في أضرار لا يمكن إصلاحها للتراث الثقافي لبلد ما, لذا اعتمدت اليونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة)، التي تأسست في عام 1954، إتفاقيات دولية بشأن حماية التراث الثقافي، لتعزيز التفاهم بين الثقافات مع التأكيد على أهمية التعاون الدولي.
وحماية الممتلكات الثقافية هي مشكلة قديمة, وواحدة من أكثر القضايا المتكررة في حماية التراث الثقافي, هي العلاقة الصعبة بين مصالح الفرد والمجتمع، والتوازن بين الحقوق الخاصة والعامة, حيث أثبت الرومان القدماء أن العمل الفني يمكن اعتباره جزءًا من إرث المجتمع بأسره، حتى لو كان مِلكًا للقطاع الخاص, على سبيل المثال، تم التعرف على المنحوتات التي تزين واجهة مبنى خاص باعتبارها ذات قيمة مشتركة ولا يمكن إزالتها، لأنها كانت موجودة في موقع عام ، حيث يمكن لجميع المواطنين رؤيتها.
في كتابه "Naturalis Historia" ذكر المؤلف الروماني "Pliny the Elder " بليني الأكبر" (23-79 هـ), أن رجل الدولة الجنرال أغريباس "Agrippa" وضع" أبوكسيومينوس ، تحفة للنحات اليوناني الشهير ليسيبوس Lysippos"" ، أمام حماماته الحرارية, التمثال يُمَثّل رياضيًا يقوم بتجريف الغبار والعرق والزيت من جسمه بأداة معينة تسمى "strigil", وقد أعجب الإمبراطور تيبيريوس" Tiberius" بشدة بالنحت, وأمر بإزالته من المشهد العام ووضعه في قصره الخاص, وانتفض الشعب الروماني وقام بإجباره على إعادة Apoxyomenos إلى موقعه السابق ، حيث يمكن لكل فرد الإعجاب به.
إن حقنا في التمتع بالفنون والمشاركة في الحياة الثقافية للمجتمع, مُدْرَج في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948.
لِمَن التراث الثقافي؟
يستحضر مصطلح "التراث الثقافي" عادة فكرة وجود مجتمع واحد والتواصل بين أعضائه, لكن الحدود الثقافية ليست بالضرورة واضحة المعالم.
يتعلم الفنانون والكتاب والعلماء والحرفيون والموسيقيون من بعضهم البعض، حتى لو كانوا ينتمون إلى ثقافات مختلفة، بعيدون في المكان أو الزمان, فقط فكر في تأثير المطبوعات اليابانية على لوحات بول غوغان؛ أو الأقنعة الأفريقية على أعمال بابلو بيكاسو, أو يمكنك أيضًا التفكير في الهندسة المعمارية الغربية في المنازل الليبرية في إفريقيا, عندما عاد العبيد الأمريكيين من أصل أفريقي المحررين إلى وطنهم، قاموا ببناء منازل مستوحاة من الطراز الكلاسيكي الحديث للقصور في المزارع الأمريكية, تأثر الطراز الكلاسيكي الحديث الأمريكي بدوره بمهندس عصر النهضة أندريا بالاديو ، الذي تأثر بالعمارة الرومانية واليونانية.
ولنأخذ مثالاً آخر، مثال الموناليزا التي رسمها ليوناردو دافنشي في أوائل القرن السادس عشر، وعرضها في متحف اللوفر في باريس, مِن وجهة نظر حديثة، لأي تراث وطني تنتمي الموناليزا؟ حيث كان ليوناردو رسامًا إيطاليًا مشهورًا جدًا، ولهذا من الواضح أن الموناليزا تُعتبر جزء من التراث الثقافي الإيطالي, وعندما ذهب ليوناردو إلى فرنسا، للعمل في بلاط الملك فرانسيس الأول، ربما أحضر معه الموناليزا, ويبدو أنه في عام 1518، استحوذ الملك فرانسيس الأول على الموناليزا، والتي انتهى بها الأمر إلى المجموعات الملكية, لهذا السبب من الواضح أنها جزء من التراث الوطني الفرنسي، أيضًا, وتم تعريف هذه اللوحة على أنها أكثر الأعمال الفنية شهرةً والأكثر زيارةً والأكثر كتابًة عنها, وأكثر الأعمال شهرة في العالم .. لذلك فهي تنتمي إلى التراث الثقافي للبشرية جمعاء.
وأخيرا, يجب الحفاظ على التراث الثقافي المنقول إلينا من آبائنا من أجل مصلحة الجميع, في عصر العولمة، يساعدنا التراث الثقافي على تذكّر تنوّعنا الثقافي، وفَهْمه يُطوّر الاحترام المتبادَل, والحوار المُتجدد بين الثقافات المختلفة.
المرجع:
Elena Franchi.(2019): what is cultural heritage. khanacademy.org