القاهرة 16 ابريل 2019 الساعة 10:25 ص
بقلم: يعقوب الشاروني
استكمالا للحديث حول واقع ومستقبل كتاب الطفل والقراءة فى عالمنا العربى المعاصر فى ضوء المتغيرات العالمية يمكن قراءته وتحليله من خلال عدة محاور وحقائق منها ..
* حدود أثر تقديم الكتاب المرئى المسموع على الشاشات :
وقد ثار تساؤل : هل يكفى للطفل أن يرى ويسمع الكتاب ، وقد تم نقله كما هو برسومه وكلماته على الشاشات ؟
شركات الإلكترونيات والكمبيوتر والأجهزة الرقمية المختلفة ، مع إمكانياتها التكنولوجية الهائلة ، تشكو من أنه لا خبرة لها فى مجال النشر عمومًا ، والنشر للأطفال على نحو خاصٍّ .
لذلك فإنها ، مــن خــلال ندوة مُوسَّعـةٍ أقيمــت أثنــاء إحــدى دورات معــرض بولونيــا الدولى لكُتب الأطفال بإيطاليا ، طلبت التعاون مع دور نشر كُتب الطفل فى مُختلف بلاد العالم ، لوضع وسائل الاتصال الرقمية الجديدة فى خدمة ثقافة الأطفال وكُتب الطفل .
- فالمسألة ليست مُجرَّد تسجيل الكتاب على شريط أو أسطوانة مدمجة ( C.D ) ، بل وجدوا ضرورة استخدام " اللغة الخاصة " لهذه الوسائل وإمكانياتها ، من حركة وموسيقى ومؤثرات صوتية وأساليب إخراج وتمثيل وعرائس ورسوم متحركة ، وتصوير خارجى ومقابلات مع شخصيات مشهورة أو مُحببة للأطفال وغيرها من وسائل، لتقريب المواد التى تحتوى عليها الكُتب الرقمية إلى الأطفال ، وجعلها أكثر تشويقًا وجاذبية ، فتصبح أكثر تأثيرًا على مشاعرهم وعقولهم واتجاهاتهم وقيمهم ومعارفهم ، وذلك مثلما يفعل كاتب السيناريو السينمائى ومخرج الفيلم عند تحويل عمل أدبى إلى فيلم .
- ويتطلب هذا ظهور جيل جديد من الكُتـَّاب والخبراء والفنانين ، يُتقنون فنون تقديم الكتاب المرئى والمسموع ، ويستخدمون مهارات وخبرات مُختلفة فى كثير جدًّا من النواحى عن خبرات مؤلفى ورسامى ومخرجى كُتب الأطفال الورقية الحاليين مهما بلغت مواهبهم وقدراتهم .
** " الكتابة " بالحواس الخمس :
وهناك تطور آخر برز بوضوح أخيرًا ، ذلك هو " الكتابة للأطفال ( وللكبار أيضًا ) بالحواس الخمس " ، فلم يعد الكاتب يرسم الصور وحدها بالكلمات ، بل هو يحمل القارئ على معايشة عالم الرواية من خلال اللمس والشم والتذوق الأصوات أيضًا .
إن الخبرة الإنسانية لا تصل إلى الطفل القارئ عن طريق البصر وحده ، بل عن طريق الحواس مجتمعه فى كل لحظة من لحظات الحياة ، لذلك تنبه المؤلفون إلى أهمية نقل العالم للقارئ الصغير عن طريق حواسه كلها ، وليس فقط بالصورة المرئية بالعين .
كنا نقول " علينا أن نرسم بالكلمات " .. لكننا نقول أيضًا : " علينا أن نسمع بالكلمات ، وأن نلمس ونتذوق ونشم أيضًا بالكلمات " .
فإذا كان تركيز الكاتب على ما هو إنسانى من مشاعر وأحاسيس ، وأفكار وانفعالات وعواطف ، فكل هذا إنما يتم نسجه كرد فعل ، ليس فقط لأحداث خارجية أو مواقف شخصيات ، بل أيضًا استجابة لما تتلقاه مختلف حواسنا من تأثيرات وخبرة نتيجة التفاعل مع تلك الأحداث والشخصيات .
- ومن الأمثلة المشهورة فى هذا المجال رواية " العطر " التى كتبها ( للكبار ) كاتب ألمانى ، جعل فيها الرائحة الإنسانية بطلاً رئيسيًّا للعمل . كذلك تلك الروايات التى تكتبها بعض الروائيات من أمريكا الاتينية ، وفيها أصبحت روائح الطعام تحتل مركز الصدارة فى نسيج العمل .
- ولعل النموذج الكلاسيكى للكتابة بالحواس نطالعه فى السيرة الذاتية التى كتبتها " هيلين كيلر " تحت عنوان " قصة حياتى " .
إنها واحدة من أبرز الشخصيات فى التاريخ ، فقد تمكنت من قهر الإعاقة المزدوجة بفقد بصرها وسمعها ، لكنها نجحت فى أن تنقل إلينا العالم من خلال كتبها ، فعشنا معها ما كانت تلمسه وتشمه وتتذوقه .
كانت تتواصل مع الآخرين بلمسات الأصابع وأبجدية الأيدى ، لأنها كانت تفتقد المقدرة على السمع والرؤية والنطق .. ولا ننسى كيف بدأ تواصلها مع العالم من خلال إحساسها بذلك السائل البارد الذى يتدفق على يدها من طلمبة الماء .
لقد حُرمت من السمع والبصر والكلام قبل أن تتم الثانية من عمرها ، لكنها استطاعت أن تعبر عن خواطرها وأفكارها التى تكونت من خلال خبراتها المتنوعـة التى تلقتها عن طريق بقية حواسها ، فأصبحت كاتبة مرموقة ومحاضِرة مسموعة ، تحث الناس على الاستمتاع بما حولهم من مختلف متع الطبيعة : ملمس أوراق الشجر .. استقبال بشرتها هواء الصباح المنعش .. استمتاعها باستنشاق روائح الحديقة المتنوعة الثرية .
تقول : " كنت أتحسس طريقى ( إلى الحديقة ) على السور المكون من الأشجار القاسية الملمس المربعة الشكل ، مهتدية بحاسة الشم ، وأطوف فيها سعيدة حتى أصادف كرم عنب فأعرفه من ملمس أوراقه وأزهاره وبراعمه ، وأجد وردًا ينعش الفؤاد ، يمتد معلقًا على هيئة أقواس نصر ، فيملأ الهواء عطرًا لا تختلط معه أية رائحة أرضية ، وإذا طاله الندى فى الفجر بدا رقيقًا صافيًا ... كنت لا أدع شيئًا إلا لمسته بيدى ، ولا حركة إلا أحسست بها ".
** إعطاء الطفل دورًا أكثر إيجابية فى التعامل مع الكتاب :
وإذا كانت شاشات الكمبيوتر والوسائل الرقمية تتيح مجالات متعددة للتفاعل والمشاركة لمن يتعامل معها ، فإن كتاب الطفل لم يتراجع أمام هذا التحدى ، بل أصبحت كتب الأطفال تعتمد هى أيضًا على إعطاء الطفل أدوارًا إيجابية فى التعامل معها ، وذلك لتحقيق التوازن بين علاقة الطفل بالكتاب وعلاقته بشاشة الكمبيوتر .
بل إن الطفل فى حاجة إلى هذا التفاعل وهذه المشاركة ويبحث عنهما [ فهما مثلاً أهم أسباب إقبال الطفل على اللُّعبة والألعاب ] ، وبالتالى أصبح أهم الأسباب فى إقبال الأطفال على مثل هذه الكتب الموجهة إليهم .
فلم تعد هذه الكُتب تكتفى بما يتلقاه الطفل بحواسه منها ، بل أصبحـت تطلـب منـه القيام بنشاط أو عمل ما ، أو تُلقِى عليه أنواعًا من الأسئلة لكى يبحث عن الإجابة عنها .. أى أن الطفل أصبح يتفاعل مع الكتاب ويُضيف إليه بتدخُّل منه ، حتى يكتمل استقباله لما فى الكتاب .
ثم على الطفل أن يقوم بعد ذلك بعمل إيجابى ، مرة أخرى ، ليتأكد من صحة وسلامة إجاباته واستنتاجاته ، وهو ما يساعده على تنمية قدراته على التعلم الذاتى، كما يجعله ، فى مستقبل حياته، قادرًا على وراغبًا فى البحث عن إجابات لأية أسئلة تواجهه ، عندما يعتاد الرجوع إلى المراجع الرئيسية مثل دائرة المعارف والقاموس والمعجم وكتاب الخرائط ( الأطلس ) .
* كُتب تقديم " المعلومات " بالحواس الخمس لأصغر الأطفال :
كما أن التكنولوجيا الجديدة لكُتب صغار الأطفال ، عن طريق " القراءة بالحواس الخمس " ، أصبحت تُقدّم ، بجانب القصص والصور ، كثيرًا من المفاهيم وكُتب المعلومات ، التى تُبْدِع فى تنوّع مُدهش مُختلف الأساليب الجديدة ، لكى تُناسب أطفالاً لا يقرءون الكلمات ، لكن لديهم الاستعـداد العقلى للتعرّف والبحث والمُقارنة والاستنتاج عن طريق الحواس والتفاعل الإيجابى مع الكتاب .
* إن التكنولوجيا الجديدة لكُتب صغار الأطفال ، قد أصبحت تُشكّل ثورة حقيقية ، فقد أصبحت تتعامل مع حواس الطفل الخمس ، كما أصبحت تـُعطى للطفل أدوارًا إيجابية مُتنامية من خلال المشاركة والتعامل التفاعلى مع الكتاب .
( يُراجَع كتابنا " القراءة مع طفلك " ، سلسلة " إقرأ " - دار المعارف )
** تقريب الكتاب إلى المجلة :
- كذلك لوحظ أن برامج التليفزيون والكمبيوتر ، التى تتسم بتنوع موضوعاتها ، وتعدد مَن يكتبونها ويقومون بالأداء فيها وتقديمها ، قد أصبحت أقرب إلى المجلة ، بينما ابتعدت عن شكل الكتاب ذى الموضوع الواحد والمؤلف الواحد .
- كما لوحظ فى مكتبات الأطفال ، أن إقبال القراء الصغار على قراءة المجلات قد يزيد حوالى عشرة أضعاف عن إقبالهم على قراءة الكتب .
* لذلك حدث تطور مهم فى كتـب الأطفــال جعلهــا أقــرب إلى شكل المجلة ، وذلك بتطوير إخراجها وأساليب عرض موضوعاتها ، لتستفيد من عناصر الجاذبية والتشويق التى تتمتع بها المجلات.
ومن أهم ملامح هذا التطوير :
1 - استخــدام أسلوب الرســوم المسلسلة ( الاستربس ) فى كتب الشباب الصغير ، ( وهو ما كان يقتصر فيما سبق على مجلاتهم وللسن الصغيرة فقط ) ، مع الحرص على أن نقدم للطفل نصًّا أدبيًّا متكاملاً لا تكون فيه الرسوم بديلاً عن العبــارات والألفاظ ، حتى إذا قرأ الطفل النص بدون رسوم تظل له قيمته الأدبية . وأفضل الأساليب لتحقيق ذلك ، أن يوضع النص المكتوب " خارج الرسوم " وليس فى "بالونات " داخل كادر الرسوم .
2 - استخدام أساليب الإخراج الصحفى ، وخاصة التوسع فى استخدام العناوين بمقاسات الحروف المختلفة ، والتوسع فى استخدام الصور الفوتوغرافية بالإضافة إلى الرسوم الملونة ، وتقديم الموضوع الواحد بأساليب مختلفة ، وتقسيمه تحت عناوين فرعية ، أو وضع بعض المعلومات الأساسية تحت الصورة أو بجوارها عند التعريف بالصورة أو الرسم . مع استخدام أشكال الإخراج الصحفى التى تتعاون فيها كل العناصر السابقة فى تقديم صفحات جذابة حتى لا تبدو الموضوعات طويلة . مع الحرص على تفادى الرتابة بتنوع شكل إخراج كل صفحة عن الأخرى مع تحقيق نوع من الوحدة بينها .
3 - تناول الكتاب لأكثر من موضوع واحد ، فيشارك فى الكتاب الواحد أكثر من مؤلف وأكثر من رسام ، لتحقيق شكل من التنوع .
ومن أبرز الأمثلة على ذلك ، أجزاء " موسوعة المعرفــة " للشباب ، التى كانــت تصــدر عن مؤسســة الأهـرام الصحفية بالقاهرة ، والتى صدرت فى حوالى (250 ) جزءًا ، كل جزء من ( 16 ) صفحة كبيرة المساحة ، وكل جزء يتناول عددًا متنوعًا من الموضوعات ، يكتب كل موضوع كاتب مختلف ، مع اهتمام متزايد بالصور والرسوم الملونة التى تحتل ثلث أو نصف مساحة الصفحات .
4 - صدور سلاسل من الكتب بصفة دورية ( مثل سلسلة " كتب الهلال للأولاد والبنات " ، التى تـَـصْدُر شهريًّا عن مؤسسة دار الهلال الصحفية بالقاهرة ) ، على أن يحتوى الجزء الأخير من صفحات كل كتاب على ما يشبه مجلة حقيقية ، لإمكان متابعة الأحداث الجارية ، والإجابة عن أسئلة الأطفال فى وقت معين ، مع تحقيق عنصر التنوع فى الرسم والتأليف .
5 - احتواء الكتاب على بعض الأنشطة ، مثل الكلمات المتقاطعة ، وإكمال بعض الرسوم أو تلوينها ، والمتاهات ، على أن تكون مرتبطة بموضوع الكتاب ، وذلك لتحقيق نوع من التفاعل والمشاركة بين الطفل والكتاب ، وهو ما أصبحت تحرص عليه حتى الكتب المدرسية فى معظم بلاد العالم المتقدم ، وأصبح أهم أسباب حرص الصغار على تلك الكتب .
6 - تقديم بعض الرسوم الكاريكاتيرية أو ما يشبهها من أساليب ، لإضفاء روح المرح على جو الكتاب ، حتى فى الموسوعات العلمية المقدمة إلى العمر أقل من 12 سنة . ( مثل موسوعة " عالم المعرفة بين يديك " التى قمنا بإعادة صياغتها بالعربية ، وهى من عشرة أجزاء ، موجهة إلى عمر مَن هم فى مرحلة المدرسة الابتدائية ) .
** تأثير التفاعل الذى يقود إليه العالم الرقمى على قصص وأدب الأطفال :
التفاعل والتواصل اللذان يقـود إليهما العالم الرقمى - وهو تواصل بين الشباب يتم بعيدًا عن رقابة الكبار فى معظم الأحيان - قد أصبحا يؤثران فى أسلوب حديث الشباب وكتاباتهم ، وفى أساليب تـَـعَلُّمِهم ، وفى نظرتهـم إلـى الطريقـة التى يفهمهم بها الراشدون والأسلوب الذى يفهم به الراشدون الشباب ، وهو ما ترك آثاره الكبيرة على " موضوعات " أدب الأطفال ، و " أساليب معالجتها " .
إن عددًا كبيرًا من الدارسين يؤكدون أن تواصل الأطفال والشباب الصغير عن طريق الإنترنت والوسائل الرقمية ، قد أصبح مؤشرًا يدل على أن الأطفال أهل لتحمل المسئولية ، يبحثون عن التواصل ، أكثر من أنهم أبرياء يحتاجون إلى الحماية .
لقد أثر النت فى شبابنا ومستقبلنا ، وأصبح مصدرًا أساسيًّا " لإعطاء السلطة " للشباب ، نتيجة حرية التعبير ، والتواصـل بين مجموعـات كبيرة استمدت القوة من تجمعها بغير قمع أو تسلط من الكبار .
وهكذا وجدنـا الراشدين الذين اعتادوا أن يقولوا عن الشباب إنهم " أصغر كثيرًا من أن يفكروا ، وأصغر كثيرًا من أن يعرفوا " ، قد تم إجبارهم على أن يروا وأن يعرفوا - ويحترموا - القدرات المتسعة المتزايدة للأطفال والبالغين الصغار ( الشباب الصغير ) .
وبعد أن كان الكبار يتصورون أن الشباب فى حاجة دائمة إلى حماية الراشدين ، أصبح الراشدون لأول مرة على مدى التاريخ يجدون أنفسهم فى حاجة إلى الشباب .
كما أن " المشاركة " وليس " التسلط " قد ظهرت بطرق مختلفة ، وبدأت القدرات الإنسانية للشباب فى الانطلاق بعد أن كانت مقيدة ، كما أصبح واضحًا أن المجتمعات التسلطية فى طريقها إلى التحول لتصبح مجتمعات ديمقراطية .
ولا شك أن هذا التغير العميق سيؤثر على نحو حاسم فى الموضوعات الأدبية الموجهة للأطفال والشباب الصغير ، وفى رسم الشخصيات ، فى علاقات الأجيال ببعضها ، وفيما يقوم بين أفرادها من صراع وأزمات تتركز حولهما العقدة فى كثير من الأعمال الأدبية والفنية .
** اتجاهات معاصرة فى " موضوعات " قصص الأطفال :
كما أدى هذا التفاعل والتواصل الخلاق ، إلى إثارة اهتمام الأطفال والشباب الصغير بموضوعات جديدة معاصرة فى الأدب الموجه إليهم ، مثل الموت ، وأبناء الطلاق ، ووجود أخ فى الأسرة معاق أو متخلف عقلِيًّا ، ومرض أحد الوالدين مرضــًا طويلاً يجعل الشخص عاجزًا عن خدمة نفسه ، وفَقْد الأب لوظيفته أو تعرضه لحملة تشهير ظالمة .. كل هذه كانت موضوعات محرمة فى أدب الأطفال ، لكن كُـتـَّـاب الأطفال وجدوا الطرق التى يستطيعون أن يكتبوا بها للأطفال مهما كان الموضوع حسَّاسًا أو شائكًا .
كان هذا هو أحد الموضوعات الرئيسية فى اللقاء الذى تم مع أعضاء رابطة كُـتَّاب الأطفال بنيويورك خلال عام 2009 ، حول الاتجاهات الحديثة فى موضوعات أدب الأطفال .
كما تناول اللقاء أساليب تقديم المستقبل للأطفال ، وتنمية قدراتهم على الإبداع والتخيل والابتكار ، وتنمية أساليب التفكير العلمى والمنطقى لديهم ، ووسائل زيادة التفاعل بين الطفل والكتاب لمواجهة تحديات عصر الكمبيوتر والإنترنت .
مع أهمية تناول موضوعات تدور حول المحافظة على البيئة ، والتسامح وتَـقَـبُّل الآخرين ، وأهمية العمل كفريق ، واللغة غير المنطوقة التى يعتمد عليها الأطفال فى الاتصال بالآخرين مثل ملامح الوجه وحركات الجسم ونغمات الصوت .
* لقد أصبح أدب الأطفال قادرًا على تناول كل ما يخطر على البال من موضوعات ، وتكمن موهبة الكاتب فى طريقة وأسلوب هذا التناول ، بما يتناسب مع قدرة الطفل على الفهم والاستيعاب .
** الإقبال على القصص والروايات التى تدور فى أجواء واقعية معاصرة ، أوتتناول موضوعات اجتماعية :
لوحظ بالنسبة لإنتاج دور النشر العالمية ، إقبال متزايد من الشباب الصغير على الروايــات التى تدور فى أجواء معاصرة ، أو تتناول موضوعات اجتماعية ، بعد موجــة من الاهتمام بروايات الفانتازيا أو الخيال المنطلق التى تمثلها سلسلة روايات " هارى بوتر ".
- ولعل السبب فـى ذلك ، هـو طغيان أخبار الأحداث اليومية شديدة الإثارة - والمرتبطة بواقع الناس وحياتهم فـى مختلف بقاع العالم - على موضوعـات الصحف ونشرات الأخبار فى الإذاعــة والتليفزيون ،
وفى وسائل الاتصال الحديثة التى أصبحت فى " جيب " كل شاب صغير ( من عمر 9 إلى 18 سنة ) .
- كذلك فإن برامج تليفزيون الواقع - ومن أهم برامجه ، مثلاً ، برامج " عالم الحيوان" - قد طغت كثيرًا على برامج الخيال أو الفانتازيا ، واجتذبت أعدادًا غفيرة من الأطفال الشباب. بـل أصبحـت هنـاك قنـوات متخصصـة فى مثـل هـذه البـرامـج ، مثــل "ناشيـونــال جيوجــرافيــك " و " أنيمل بلانت " ( كوكب الحيوانات ) ، و " ديسكفرى " (الاكتشافات) .
- بالإضافة إلى تزايد اهتمام جماهير الناس فى مختلف المجتمعات ، وبالتالى الإعلام، بقضايا التنمية البشرية ، وحقوق الإنسان ، والعدالة الاجتماعية ، والصحة ، والتعليم ، والبطالة ، وأمثالها من قضايا معاصرة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بحياة الناس اليومية ومطالبهم الاجتماعية .
- يقول " برو جودوين " فى كتابه " كتب الأطفال " :
" على الرغم من أن عنصر الخيال يعد أحد جوانب أدب الأطفال الذى ظل سائدًا خلال السبعينيات والثمانينيات ( من القرن 20 ) ، فإن " الواقعية الاجتماعية " أصبحت هى الموضوع المهيمن على الكتابة ، فقد أصبح الكُتـَّـاب يتناولون فى قصصهم قضايا شخصية وأخرى عامة ، تتضمن الشئون العِرْقية والحرب والموت والإعاقة الجسدية والثورات الداخلية والقلق النفسى المصاحب لمرحلة المراهقة وكذلك الاضطرابات النفسية ... وذلك بشكل أكثر انفتاحًا من كُتَّاب الخيال " .
* " لقد أصبح الكُتـَّاب يكشفون عن قضايا هامة معاصرة ، قد يعتبرها البعض أكثر مناسبة لتكون موضوعات لقصص الكبار . إلا أن قصص الأطفال دائمًا ما كانت تعكس سمة من سمات العصر الذى تُكتب فيه ، والأطفال - شأنهم شأن الكبار - لا يقرأون لمجرد المتعة فقط ، بل أيضًا بغرض التعرف على سِمات مجتمعهم ، ولكى يفهموا أيضـًـا أسلوب حياة الآخرين بشكل أفضل" .
- كما يتركز اهتمام هذه الكتب على " رحلة الفــرد الداخليــة " التى يخوضهــا نحو فهـم ذاتـه بشكل أفضل ، وعلاقته بما يسود العالم من تعقيدات " .
- " وإذا نظرنا إلى قائمة المؤلفين الذين فازوا حديثـًـا بجائزة " كارنيجى " لأدب الأطفال ( وهى أهم جائزة لأدب الأطفال فى إنجلترا ) ، يتبين لنا أن الاهتمام بتلك الموضوعات الاجتماعية والمعاصرة يعد سمة من سمات الأدب المعاصر بالنسبة لصغار البالغين والأطفال الأكبر سنًّا ، وهو نفس الحال بالنسبة للروايات الفائزة فى أمريكا " بجائزة نيوبرى " لأدب الأطفال " .
- تقول " فالنتينا إيفاشيفا " فى كتابها " الثورة التكنولوجية والأدب " :
" الروايات الخيالية المعاصرة آخذة فى التناقص فى شعبيتها وتأليفها والاستمتاع بها .
إن جمهور قراء الروايات ذات الصبغة الخيالية قد أصبحوا ينظرون إلى هذه الروايــات نظــرة يشوبها عدم الثقة ، وقد انتزعت مكانتها وحلَّت محلها المؤلفات البعيدة عـن الخيـال Non-fictional مثل التراجم والمذكرات والكتب التاريخية " .
" ولكى يستمتع المؤلف حاليًّا بالنجاح الأدبى على أعلى مستوى جاد ، ينبغى أن تكون الرواية " غير خيالية " ولو بقدر معين ، فقد أصبح على الكاتب أن يؤلف كتابًا عن موضوع معين درسه دراسة مستوفاة ، ويضمنه تفصيلات واقعية بما فيه الكفاية ، ومع ذلك يُنْسِى القارئ أن الكتاب ليس من نسج خيال الكاتب" .
* وفى العالم العربى ، تغير أيضًا موضوع الأعمال الروائية والقصصية الموجهة إلى الأطفال والشباب الصغير :
ذلك أن كامل كيلانى ، ( 1897- 1959 ) الذى يمثل الجيل الأول من رواد أدب الأطفال فى مصر والعالم العربى ، قد أصدر حوالى (150) كتابًا ، تستمد موضوعات قصصها كلها مما كان الكيلانى يُطلق عليه " الأساطير " ، فقد قال : " ليس أروع من الأسطورة يتمثل بها الإنسان " .
- أما الجيل التالـى للكيلانى ، فقـد اهتـم بـأن يُعبّـر عن البيئـة المصريـة والطفـل المعاصـر وقضاياه، وهى قضايا لها جانبها الإنسانى العام ، مثل تنمية الإبداع، والتفكير العلمى ، والاهتمام بالمستقبل ، وبحقوق الإنسان والطفل ، وقبول الآخر ، وعدم التمييز بين الفتى والفتاة ، وتنمية الشعور بالانتماء إلى الوطن ، ودور العلم فى حياتنا ، والمُحافظة على البيئة ، وقضايا ذوى الاحتياجات الخاصة، والطفل العامل ، وأطفال الشوارع ، ومحو الأمية ، ودور المرأة فى التنمية ، وهى الموضوعات التى جعلها كاتب هذه الدراسة خلفية عدد كبير مما كَتـَبَه من قصص وروايات للأطفال والشباب الصغير . (يُراجع ما صدر له من قصص وروايات عن دار المعارف - مصر) .
تقول د . ماريا ألبانو أستاذ الأدب العربى بالجامعات الإيطالية : " والفضل الكبير للشارونى فى إدخال الرواية الاجتماعية فى أدب الأطفال فى العالم العربى. والهدف هو تنمية الإحساس فى ضمائر الأفراد تجاه المشكلات الاجتماعية " . ( يُراجع كتابها "القصة المصرية الحديثة للأطفال" ) .
- لكن هذا التحول إلى الاهتمام بالواقع الاجتماعى ، يسير حاليًّا - فى العالم العربى - جنبًا إلى جنب مع تقديم الحكايات الخيالية بحس معاصر .
** عليك أن تعرف ما تريد أن تكتب عنه :
وهناك تطور مهم آخر فى نوعية ما يكتبه مؤلفو أدب الأطفال حاليًّا فى العالم كله ، ( والمؤلفون للكبار أيضًا ) ، فقد كانت النصيحة ألا يكتب الكاتب إلا عمَّا يعرف ، أما الاتجاه الحديث فيؤكد للكاتب : " عليك أن تعرف ما تريد أن تكتب عنه " .
فالقصة أو الرواية لم تعد تدور فقط حول تجارب شخصية ، ولا حول مُجرّدِ الخيال المُنطلق ، بل على الكاتب ، بعد أن يستقر على موضوع عمله الأدبى ، أن يجمع أكبر قدر من المعلومات والخبرات من مُختلف المصادر حول الموضوع الذى سيكتب عنه .
إن النحلة ، لكى تقدم جرامًا واحدًا من العسل الذى فيه شفاء للناس ، لا بد أن تكون قد جمعت الرحيق من ثلاثة آلاف زهرة أو أكثر ، هذا الرحيق المجانىّ ، عندما تتم معالجته داخل أجهزة النحلة العبقرية ، يتخلق العسل والشهد بما لهما من قيمة فائقة .
هذه هى قيمة الخبرة والتجربة والمعلومات التى لا بد أن يحرص المبدع على الوصول إليها قبل أن يبدأ فى إبداع عمله الأدبى أو الفنى : ثلاثة آلاف قبل إبداع صفحة واحدة ..
- هنا تقوم الرحلات والزيارات للبيئات المُختلفة ، والتعرف إلى مختلف المجموعات البشرية وإلى مختلف أصحاب المهن والحرف والصناعات ، بــدور رئيسى فى تنمية الخبرة ، مثل الزيارات إلى الصحراء أو المناطق الساحلية أو المناطق الصناعية أو الريفية أو العشوائية .
كما أن زيارة متاحف الفن والآثار ، وتأمّل لوحات كبار الفنانين ، تـُـقدِّم ثروة من الخبرة حول تعبيرات الوجوه وطُرُز العمارة والأثاث والملابس ، خاصة عند كتابة عمل فى جو تاريخى .
كذلك فإن قراءة التاريخ والدراسات الأنثروبولوجية أو علم الإنسان ، تـُـقدِّم ثروة من المعلومات حول العادات وطُرق الحياة فى مُختلف المناطق ، كسُكان الصحراء والسواحل وما يُماثلها ، أو فى الدول الأجنبية .
وفى مصر ، بين أيدينا دراسات المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية ، ودراسات أقسام الاجتماع فى الجامعات المصرية ، حول الطفل العامل ، وأطفال الشوارع ، وسُكان العشوائيات ، والأم المعيلة ، وغيرهم من الفئات التى قد تكون موضوعًا لعمل قصصى أو روائى .
كــذلك فــإن حضـور المؤتمـرات والنـدوات التى تُقـام حـول مُختلـف قضايا الأطفـال ، تـتيــح الاستماع والحوار مع أصحاب الخبرات الشخصيــة مــن الخـُـبراء ، الذين يتصلون مُباشرة بفئات مُختلفة من الأطفال والبيئات ، وإن كان هذا لا يغنى عن الخبرة المباشرة للتعرف على هذه الفئات .