القاهرة 16 ابريل 2019 الساعة 10:14 ص
إعداد : أحمد مصطفى الغـر
في ذاكرة الشعوب ثمة جزء مهم وخالد يتجلى في أعمالهم وتراثهم القديم، هذا الجزء مع مرور الزمن والتطور والتبدل الذي يطرأ باستمرار على مختلف جوانب الحياة ودخول التقنية الحديثة إلى جوانبها المختلفة، يتراجع تدريجياً لتتحول منتجات الماضي إلى فلوكلور وتراث قديم، للأسف بعضه يندثر بسبب عوامل الإهمال والنسيان وعدم التعامل معه، نتحدث هنا عن الحرف والمهن التقليدية القديمة التي نشط بها العامل المصري على مدى عهود قديمة، وبرع فيها وتميز إلى أن وصلت إلى أقاصي البلدان الأخرى.
وبالرغم من حدوث فترات انقطاع حضاري بين العصور المتعاقبة مع موجات الاستعمار، لكن العامل المصري المبدع، سواء في الريف أو المدن، كان يملأ تلك الفجوات الحضارية بإنتاج أنماط فنية من إبداعه تلبي احتياجات حياته وعاداته ومعتقداته، وكانت تحظى بطلب كبير بالنظر إلى الإتقان والبراعة في صنعها والدقة والجمال، وكانت تشكل قاعدة صناعية وأحياء بكاملها يعيش فيها الحرفيون تحت نظام دقيق هو نظام الطوائف الحرفية، له قواعده وأصوله وأربابه وشيوخه، إلا أن الكثير من تلك المهن التي كانت في يوم من الأيام تمثل هوية حقيقية للمبدع المصري، نراها قد دخلت في عالم النسيان وبعضها لم يعد له وجود، وللأسف فإن ما تبقى ينتظر نفس المصير.
بالرغم من أن الصناعات الحرفية تعتبر ضمن الصناعات الصغيرة إلا انها تعد إحدى القطاعات الاقتصادية التي تستحوذ على اهتمام كبير من قبل دول العالم كافة والمنظمات والهيئات الدولية والإقليمية، وكانت الحرف التقليدية بمثابة الصناعة الوطنية الثقيلة في مصر، حيث كانت تشكل القوة الإنتاجية الثانية بعد الزراعة، لكن للأسف فإن عدداً من الحرف التقليدية قد انتهت تماماً منذ زمن طويل، ويعود ذلك إلى التحديات التي واجهتها تلك الحرف على مدى سنوات، وأدت إلى هجرتها وعدم الاستمرار بها من قبل المهنيين أنفسهم، وكانت تمتاز تلك المهن بأنها تشكل نوعاً من الابداع، مثل فنون الزخارف الحجرية والخشبية والخزفية، وكذلك صناعة المنتجات الزجاجية اليدوية والرسم على الزجاج الملون، وصناعة المنقوشات النحاسية ومنتجات القيشاني والمنتجات الفخارية والحفر والرسم على الخشب، وأعمال التطعيم بالعظام والمشغولات النحاسية والفضية والمنسوجات الحريرية والصوفية وأشغال التطريز والخيامية وعشرات الحرف الأخرى، ففي السابق كان المهني يعلم أبناءه أو عددا من العاملين لديه في الورشة، ويعطيهم أسرار المهنة ليضمن استمرارها وحضورها، لكن التقدم التكنولوجي ودخول الآلة وارتفاع تكاليف الإنتاج اليدوي وعدم جدواه أدى إلى اندثار تلك المهن بسرعة، وتحول العاملين فيها إلى مهن أخرى لتأمين سبل عيش جديدة لهم.
في العام 1517م، وُجهت ضربة قاسية للحرف اليدوية والتقليدية على يد السلطان العثماني "سليم الأول"، حيث أخذ مئات الحرفيين المهرة وشيوخ الصنعة لعشرات الحرف الفنية المتوارثة ونقلهم إلى اسطنبول، ليؤسسوا هناك منشآت وصناعات حرفية تماثل ما يوجد في مصر، وقد أحصى المؤرخ الشهير "ابن أياس" عدد الحرف التي توقفت بعد اقتلاع أربابها من مصر والذهاب بهم الى اسطنبول بـ 50 حرفة، ولا شك أن بصمات المبدعين المصريين لا تزال باقية فوق الصروح المعمارية والمنشآت المحتشدة بالتصميمات الجمالية في مدن تركيا حتى ألان. وللأسف فإن هذا الماضي ينسحب على الواقع الراهن، حين ينسحب على مختلف المهن التراثية التقليدية التي تُنتَج بأيدي حرفيين مهرة ورثوا الخبرة والحرفة عن الآباء والأجداد وتناقلوها عبر الأجيال، لكن مع تعاظم حجم التحديات التي باتت تواجه الحرفيين هذه الأيام، وفي ظل التكاليف المادية التي تحتاجها تلك المهن، حيث تتطلب مواد أولية مرتفعة الثمن، الأمر الذي يزيد في صعوبة بيع وتسويق المنتج، وخاصة للمستهلك المحلي، ومع تراجع التسويق والتصريف، ودخول التكنولوجيا والآلة قلص ذلك كثيراً من انتشار هذه المهن. فالحرف التراثية التقليدية تواجه جملة من التحديات والصعوبات التي أرهقت كاهل الحرفيين وأدت بالبعض إلى العزوف عن العمل والخروج من المهنة تماماً.
وهنا يمكننا الإشارة إلى نقطة ضوء في المسيرة المصرية للحفاظ على هذه المهن، حيث تمثل الصناعات التراثية والحرفية قيمة مضافة للاقتصاد القومي، لأنها تعتمد بشكل كبير على الخامات المحلية والإبداع البشري المصري، كما أنها تمثل مضمونًا ثقافيًا وفنيًا عظيمًا يعتمد على التراث المصري، ومن هنا تم إنشاء غرفة صناعة الحرف اليدوية بمقتضى القرار الوزاري رقم 964 لسنة 2015. وقرار وزارى رقم 59 لسنة 2016، وفى شهر سبتمبر 2016 تم إجراء أول إنتخابات لمجلس إداة الغرفة بالإقتراع الحر المباشر. ثم صدر القرار الجمهورى بالقانون رقم 2 لسنه 2017 الذى جعل الغرفة هيئة حكومية لها شخصيتها الإعتبارية كونها إحدى المؤسسات العامة. وتقوم هذه الغرفة بالحفاظ على التراث المصرى الحضارى من حرف تقليدية وذلك من خلال دعم وتطوير الصناعات الحرفية المصرية، وكذلك العمل على البعد الاجتماعى بدعم ورعاية كل المبدعين الحرفيين فى كافة القطاعات الحرفية من خلال توفير بيئة صالحة للعمل وتذليل كل العقبات والمشاكل التى تواجههم.
إننا في حاجة إلى دخول دماء شابة جديدة إلى تلك المهن والحرف التقليدية، ففي ظل عدم إهتمام أحد بتعلم تلك المهن بسبب تراجع الطلب عليها، واقبال الشباب على المهن أو الأعمال التي تؤمن لهم مصدر دخل يتناسب مع الواقع الحالي الذي يتطلب دخولاً مرتفعة جداً لتأمين مستوى عيش لائق؛ فإننا في حاجة إلى أن يحظى أهل هذه المهن باهتمام أكثر ويلقى الدعم والاحتضان والرعاية، ومن المهم إحداث مدارس فنية خاصة بالحرف التقليدية التراثية بكل محافظة، وإنشاء معاهد تعليمية خاصة للحفاظ على هذا الإرث الثقافي والحضاري لا تعتمد على الشهادة عاللمية فحسب، وذلك للاستفادة من الحرفيين المهرة ونقل خبراتهم إلى الأجيال الناشئة وتدريبهم عليها، وإيلاء اهتمام أكبر من اتحاد الحرفيين بأصحاب المهن الصغار والمغمورين وعصرنة الحرف وتطويرها وتطوير العاملين فيها.
كما يجب أن تحتوي المناهج الحديثة في مدارسنا على الجوانب المهمة لتراثنا الثقافي وتاريخنا وهويتنا المصرية، وذلك منعاً لاتساع الفجوة بين الأجيال الجديدة وتراثهم المهني وذاكرة مجتمعهم، لنصل إلى مرحلة تصبح تلك المهن والحرف التقليدية تراثاً منسياً، كما يجب توفير أسواق تجارية خاصة لأصحاب المهن الحرفية التقليدية ليعملوا فيها ويسوقوا منتجاتهم بشكل مباشر للزبائن دون أن يضطروا لبيعها لتجار بأسعار غير مناسبة وفيها ظلم لجهدهم وإبداعهم ومهارتهم.
ختاما نحن بحاجة إلى مشروع قومي يهدف إلى إحياء التراث واستعادة ألقه وعراقته التي تمتد إلى مئات السنين وتسليط الضوء على الحرف المصرية التقليدية المهجورة مع إعطائها صبغة حديثة تتناسب مع معطيات الحاضر دون المساس بروح الماضي والتراث.