القاهرة 26 مارس 2019 الساعة 03:02 م
كتب: أحمد رجب شلتوت
كان عبد القادر المازني مخلصا حينما نصح الروائي الشاب _ يومها _ نجيب محفوظ بأن يبتعد عن كتابة القصص الواقعي، "فالفكرة الشائعة عن الروايات أنها اعترافات شخصية" وهذا يجلب للكاتب متاعب ومنغصات كثيرة، هذه النصيحة تكشف عن معرفة المازني بطبيعة المجتمع الذي يتوجه له بالكتابة، كما توضح أحد أسباب ازدهار الرقيب الذاتي داخل نفوس الكثير من الأدباء، فالكثير ممن يتلقون الأدب في مصر وبلاد العرب عموما اعتادوا على الربط الآلي بين موقف الشخصية التي يرسمها المؤلف من الحياة و القضايا السياسية و الاجتماعية و الأخلاقية، و بين موقف المؤلف نفسه باعتباره صانعا لتلك الشخصية، فيعتقدون أنها تنطق بلسانه وتعبر عن أفكاره، فيحاسبونه عن انحرافها إن كانت كذلك، بل ويحملون الكاتب بمسئولية تأويلهم هم للنصوص دون افتراض لاحتمال خطأهم، ودون اعتبار لحق الكاتب في حرية التفكير والتعبير.
موت الشخصية
الدكتور حسام عقل أستاذ النقد الأدبي بجامعة عين شمس يرى في "الربط الآلي الذي يباشره بعض القراء إخلالا بالحقائق الحية للفن، فهل يمكن أن نعد نجيب محفوظ هو نفسه سعيد مهران في " اللص و الكلاب " و هو يقتص من الأثرياء المتمرغين في اللصوصية و النفاق و التلون ؟، و إلا لعد "بلزاك" صاحب ألفي موقف، بعدد الشخوص التي رسمها عبر ما ينيف على تسعين رواية. فالقاص حين يبدع شخصية، يمتاح من رصيد خبرات تم استقطارها من شخوص قابلها في الحياة، تبنى مواقف بعضها و شجب مواقف بعضها، فنسج من ذوب مواقفه، قبولا و رفضا، رؤية فنية منحوتة في فضاء تخييلي متنوع، لا يمثل بالضرورة ما يحب أو يبغض، و ما يقبل أو يدع، و المبدع يستقطر سمات متنوعة، يشكل جزء منها سيرتيه الذاتية و الغيرية لكن جزءا آخر يبقى تخييلا محضا ، و رؤى تمثيلية و ترميزية قد لا تمثله بالضرورة إيديولوجيا.
و من هنا فإن من الخطأ محاسبة شخوص المبدع أخلاقيا، و نماهي بين شخوصه و بينه بتسطيح لا يناسب الصورة التخيلية للفن، فمثلا البطلات المتحررات في روايات إحسان عبد القدوس لا يتطابقن مع رؤى الكاتب نفسه، الذي رفض أن تقوم زوجته بالتصوير في لقاء تليفزيوني شهير، و هو مزاج محافظ ، يختلف تماما مع الموقف التحرري الذي يمثله الراوي _ عبر بطلاته _ في معظم نصوصه، وهذه الاعتبارات ذاتها هي ما دفعت آلان روب جرييه إلى المناداة بما أسماه "موت الشخصية" لكسر حالة التماهي القائمة في بعض الأذهان بين مواقف المبدع و مواقف شخوصه، التي لا تمثله فعليا من الوجهتين الأيديولوجية و الأخلاقية في كثير من الأحيان.
مهمة النقاد
ويؤكد الدكتور تامر فايز الأستاذ بجامعة القاهرة على أن الإبداع بوجه عام، والإبداع الأدبي بوجه خاص، يقوم في جزء أصيل منه على التخيل الذي يحتاج معه المبدعون إلى نوع من الحرية التي تنعكس بالضرورة على حرية شخصياتهم داخل الأعمال الإبداعية؛ ومن ثمَّ، فإن فمساءلة المبدع عما تتفوه به شخصياته الإبداعية قد يمثل بالنسبة له نوعًا من أنواع القيود التي تعيق الإبداع بشكل أو بآخر, يضاف إلى ذلك أن ما تنطق به الشخصيات قد يعدُّ ضروريًّا للموقف الفني أو الأدبي داخل الأعمال الإبداعية، ويمكن التمثيل لذلك بفن المسرح. فهل يمكن محاسبة المبدع على كل ما تنطق به الشخصيات في حواراتها داخل المسرحية؟!
أما مساءلة المبدع عن مجمل الفكرة التي تناولها في إبداعه فهي مهمة يمكن أن يقوم بها النقاد واضعين في الاعتبار معيار الأدب الملتزم الذي يعبر عن انشغال المبدع بمجتمعه وقضاياه داخل إبداعه, لكن هذا لا يقتضي بالضرورة منح النقد صفة القاضي والحاكم على المبدع وإبداعه؛ كما حدث من بعض النقاد مع توفيق الحكيم في مسرحيته أهل الكهف، إنما ينبغي أن يمنح الناقدُ المبدعَ الحرية في اختيار وجهة النظر التي يرغب في التعبير عن موقفه من قضية ما عبرها أو من خلالها.
معايير الخيال
ومن جهتها تقول الروائية سلوي بكر "العمل الأدبي أشبه بحالة أيديولوجية خاصة تتفاعل فيها أفكار الكاتب، سواء نطقت بها شخصيات العمل أو حملها السرد الروائي أو جاءت علي لسان الراوي، وكلها أدوات لتوصيل رؤية الكاتب للعالم، وكل شخصيات العمل الأدبي تعبر عن رؤية كاتبها للعالم، لذا يحاسب عنها ولكن بالمعايير الأدبية ، لأن العالم الأدبي في مجمله متخيل، لذا يحاسب بمعايير الخيال لا الواقع ، وتشترط سلوى بكر أن يحترم المبدع عقائد الآخرين وقناعات الجماعة ، وأن يعبر عن أرائه بطرق سوية لا تزدري الآخر بل تحاوره للعثور علي إجابات صحيحة ومنطقية وحق الكاتب في التعبير لا يجب أن ينال من حقوق الآخرين.
أما الروائي عبدالنبي فرج فهو يرى أن الشخصية غير السوية هي مناط عمل الأديب، لأنه يحلل نوازع الشر فيها، فالأدب يزدهر عندما يحرث في حقل الشر والضغينة، وعندما ينتقل للحرس في حقول الفضيلة يتدهور، ويقول مضيفا "قد يبدأ الكاتب في رسم ملامح شخصية روائية وهي مجرد تهاويم داخل مخيلته، ثم يفاجأ هو نفسه بتخلق شخصية أخري بعيدة تماما عن تصوراته، فهناك منطقة غامضة في اللاوعي ينزح منها الكاتب، والأدب بطبيعته يتعامل مع الواقع الملتبس والنفوس الشريرة ويتتبع مساراتها ويستبطن أحوالها، باعتباره الكتابة فعل كشف، تعرية في إطار فني، ولا يمكن محاكمة الكاتب علي هذه الشخوص التي خلقها، ثم في النهاية الكتابة بنت الحرية، وإذا قمعتها تموت والمحك الأساس في التعبير الفني الرفيع لا أكثر، والمحاكمة القاسية للكاتب تأتي من القاري عموما، وقد ينير الناقد إذا كان بصيرا طريق القارىء نحو النص.
و أخيرا يقول القاص حسين عبدالرحيم الفائز مؤخرا بجائزة الدولة التشجيعية " شخصيات الروائي هي جزء ومتن أصيل في لاوعي السارد، حتى وإن أراد أن يتدخل في شخصياته، فهناك مايسمى دفقات التسيير الأولية في الكتابة الأولى، والتي يكون لسيطرة اللاوعي الجزء الأكبر حتى تأتي البروفات لتكبح تدخلات السارد، و ليست هناك محاسبة ما للكاتب في إبداعاته لأنه لايستنطق شخصيات رواياته وقصصه برغبته ووفق هواه، بل وفق متطلبات فنية وجمالية، وجد هذا كثيرا في سياقات سردية وإستنطاق شخصيات كان تنفسها وهذيانها طبيعي ومشروع جدا عند محفوظ وحنا مينا وحيدر حيد ومحمد وغيرهم.