القاهرة 19 مارس 2019 الساعة 01:07 م
كتب: د . إبراهيم أبو طالب - اليمن
إن الحديث عن أديب كبير، وكاتب متجدِّد قدير بحجم الأستاذ يعقوب الشاروني، هو حديثٌ عن البراءة بمعانيها المتجذرة في روح الطفولة، وأفقها المرتبط بالكتابة الجادَّة والمسئولة والمدهشة، وليست مجرد كتابة عابرة آنية أو كتابة لسدِّ فراغ في مجال الكتابة للطفل، كما قد يفعل بعض من يكتب في هذا الميدان لظروف تقوده إلى ذلك، أو لحاجة مسَّت اقتضى الأمر منها أن يكتب لغرض ما.ولكنه حديث عن كتابةٍ مستمرة، ورسالة صادقة، بذل الرجل فيها سبعينَ ربيعًا من عمره المديد، وهو يكتب (للطفل) إبداعًا وقصصًا وحكايات، ويكتب (عن الطفل) أدبًا ودراساتٍ ومقالاتٍ وكتبًا، ويكتب (حول الطفل) رسائل وصداقاتٍ ومؤتمراتٍ وتواصلاً ولقاءات، ويكتب (لأجل الطفل) استنهاضًا للروح الإبداعية، وبيانًا للحقوق الإنسانية عن مشكلات الطفولة واحتياجاتها، ودور الأسرة والمجتمع، والحكومات في الإسهام في تنمية الطفولة ورعاية الطفل وتجسيد متطلباته؛ مرةً يقدِّم ذلك في قالب قصة، وتارةً في دراسة، وأخرى في محاضرة، ورابعة في حديث إعلامي، وهكذا لا تجد أديبًا عربيًّا نذرَ حياته لأدب الطفل وعالمه وقضاياه كما فعل الأستاذ الشاروني، ومن هنا يكون بحقٍّ "رائد أدب الطفل العربي" بلا منازع، وكما وُصِفَ بأنه "نجيب محفوظ أدب الطفل" أقول أنا بأنه: "عميدُ أدب الطفل العربي".
وليس الأمرُ مجرد إطلاق ألقاب أو التنافس على مجاملات في مناسبات ثقافية، بل هي الحقيقة، وما بين أيدي الناس اليوم وما لدى القراء والمهتمين من نتاج هذا الأديب الكبير، شاهدٌ ودليلٌ على سعة عطائه، ونوعية ذلك العطاء وتجدده، وأهميته وجدواه، فبه نشأ ناشئ الفتيان العرب من المحيط إلى الخليج، وعليه تغذت عقولهم، وبه تفتَّحت مواهبهم وتطلعاتهم وقدراتهم، وعنه أخذ كُتَّاب الطفل العربي، ومنه تعلَّم الكثير من تجربته المتميزة، وإنتاجه الثري والمتنوع في كل المجالات.
ما تكاد تخلو مجلة متخصصة في الطفولة من دراسة متميزة بتوقيع الشاروني، ولا كتاب إلا وفيه مرجع أو قصة أو رواية أو مسرحية من إبداع الشاروني، ولا مهرجان عربي أو عالمي من حضور للشاروني، ولا جائزة تستحق الذكر ويشار إليها بالبنان إلا والشاروني يشرِّفها باسمه ويتوجها بعطائه، ولا تخلو جامعة من كليات رياض الأطفال أو أقسام التربية وعلم النفس أو علوم اللغة العربية وآدابها إلا ولأدب الشاروني فيها رسالة ماجستير أو دكتوراه، وذلك دليلُ عطاءٍ كبير، ومؤشر حضور يستحق التقدير.
ثم إنني في هذه العُجالة والسَّانِحة السريعة لن أتحدَّث عن الشاروني الأديب والقاص والروائي والناقد والكاتب، فذلك دونه المجلدات، ومكانه الجامعات والرسائل الأكاديمية، فهي أولى به، ولكنِّي أنتهز الفرصةَ للحديث عن جانب واحد فقط، وهو جانب إنساني يتميز به الأستاذ الكبير وهو (التواصل)، وأعني به تواصله مع أصدقائه، ومع متابعيه، ومع من يتعرَّف عليهم في حياته ولقاءاته- وما أكثرها، وأكثرهم- فهو يخرجُ من كلِّ لقاء بعددٍ من الصداقات، ولا يهملها، بل ينمِّيها، ويتابع بالبريد الإلكتروني- حديثًا- ومن قبلُ بالرسائل والبريد العادي، فيضيف إلى قائمة مراسلاته أصدقاءه الجدد، ولا يهمل القدماء منهم بالتأكيد، فيواصلهم برسائله، وتهنئاته في المناسبات، ويشاركهم نشاطاته وأخباره المتجددة والمتفردة، فأي روح إنسانية تكمن وراء هذا التصرف الراقي، وهذا الإنسان الجميل، بل أي معنى كبير في هذا التواصل يحتاج إلى اهتمام وإشادة ووقفة.
وهو يؤكد بفعله هذا أن الإنسان في مسيرته ثمرة معارفه، وخلاصة تجاربه، وتراكم خبراته، والشاروني أنموذج لهذا المعنى، وتجسيد حقيقي لهذه القيمة.
وهذا التواصل وحب الناس والاهتمام بالأصدقاء كأنَّه خاصِّية مميزة في هذه الأسرة الشارونية، كنتُ قد تعرفتُ على الأستاذ المرحوم يوسف الشاروني الأديب والمبدع الكبير، ومن لطفه ورقَّته حضر مناقشة رسالتي للدكتوراه في آداب القاهرة عام 2008، وقبلها أرسل إليَّ بالبريد عددًا من كتبه منها رواية (الغرق، الهيئة المصرية، 2006م)، فأدركتُ سمو هذا التواصل وجماله.
ولم أتعرَّف على الأستاذ يعقوب مباشرةً إلا في عام 2013 م، مع أني حضرتُ مع جمهوره الغفير ذات معرض للكتاب في القاهرة محاضرةً نوعيةً له، وعرفته من خلال قصصه، وكتبه، لكنَّ لقاءً طويلاً، وجلساتٍ، وحواراتٍ لم تتح لي إلا في مهرجان الشارقة القرائي للكتاب ومنها بدأت الصداقة، والتواصل الذي لم ينقطع بعدها من خلال رسالة عن نشاط أو ندوة أو مؤتمر أو كتاب أو دراسة يقوم بها الشاروني أو تقدَّم عنه، وذلك ديدنه الجميل، وسلوكه العذب الراقي مع الأصدقاء.
وسأشير هنا إلى واحدة من رسائلنا عبر البريد الإلكتروني التي جاءت بعد لقاء الشارقة، وفيها شاهدٌ على تلك الروح التي يتميَّز بها أستاذنا الكبير، ودليلٌ على ما أردتُ أن أقولَه في هذه الكلمة القصيرة عن جانب التواصل، وإليكم رسالته بما تحمله من رُقي، وإحساس، وصدق، واهتمام بالأطفال أيضًا- وهم عالمه الرائع- والسلام عليهم، يقول في رسالته:
عزيزي الشاعر والناقد المبدع الدكتور إبراهيم أبو طالب
تحياتى القلبية وكل عام وأنتم بخير،،،
مع سلامى إلى الأبناء الأعزاء أصيل، وسلوان، وهديل، ووجدان.
قضيت الأيام القليلة الماضية أستمتع بقراءة إبداعك الشعرى الغنائى الرقيق للصغار فى "أناشيد الطفولة" و " أغاريد وأناشيد للأطفال"، وأتذوق قدرتك المرهفة على معايشة عالم الأطفال، وتعبيرك الصادق عن رؤيتهم للعالم، ورؤيتك لعالمهم، وما يثير اهتمامهم من قيم دينية أو حياة مدرسية وحُب لعالم الحيوان .
كذلك استغرقنى تأمل هذا الكم المُفيد الهائل من المعلومات فى كتابك "ببلوجرافيا السرد فى اليمن"، وعلى وجه خاص ما يتعلق بأدب الأطفال، هذا الجُهد العلمى المُنظم الرائع والضروري لكل باحث أو دارس، والذى عاوننى على التعرف على عددٍ كبير ٍمن أدباء الأطفال فى اليمن، وحركة النشر للأطفال فى اليمن .
ومن أهم ما قرأت لك أيضًا، دراستك المُهمة "مختارات من القصة اليمنية القصيرة" و "الخطاب الروائى اليمنى- السيرة والمضمون"، وكم أتمنى أن أقرأ لك دراسات مماثلة حول أدب الأطفال فى اليمن، وكذلك دراسات نقدية حول أدب الأطفال العربى .
ومع تمنياتى لك بمزيد من الإبداع الشعرى المُتألق والدراسات الأدبية المُتميزة، وفى انتظار أخباركم،
أعبر لكم عن أصدق ودى وتقديرى .
المخلص: يعقوب الشارونى
وكان هذا ردي على رسالته:
الأستاذ الجليل وأديب الأطفال الكبير بما قدَّمه، وما يقدمه لعالم الطفولة من روائع الدُّرر، وعجائب الخيال، وجميل الأفكار، بعلم عليم عارف، وصدق خبير مُدرك، من له القدم الراسخة في أدب الأطفال بإصداراته المتعددة، وسلسلات قصصه الكثيرة الغزيرة والمتنوعة...
الأستاذ المبدع والأديب العربي الكبير يعقوب الشاروني
كل عام وأنتم بخير
ببالغ التقدير تلقيتُ رسالتك الرقيقة، وبلهفة المشتاق تناولتُ عباراتك الجميلة جمال روحك، النقية نقاء طفولةٍ ما زالت تجري في شرايين نقائك، وتعزف جمالاً في خلجات نبضك..
إنك أيها الأستاذ الكريم قد أثلجتَ صدري بما كتبتَ عن تجربتي المتواضعة.
وإنها لشهادة أحملها وسامًا على صدري من كاتب كبير بحجمك فلك الشكر والتقدير.
وما ذكرتَ في مجال أدب الطفل في اليمن وفي الوطن العربي من أبحاث ودراسات، فإنه هاجس يراودني كثيرًا كي أكتب عنه وفيه، وأستغرق وقتًا وجهدًا يستحقه، وإني لفاعل- إن شاء الله- لولا بعض مشاغل من حياةٍ تقتضي السفر والاغتراب أحيانًا، كما هو حاصل معي الآن حيث أقيم في المملكة العربية السعودية في مدينة أبها في تفرغ علمي، وأعمل أستاذًا للأدب والنقد في جامعة الملك خالد، ولكنك على البال خالد، وفي الوجدان مستقرٌ وماجد، وقد تركتُ ورائي مكتبتي بما فيها من أعمالك القيمة الجميلة التي أهديتني إياها في لقائي التاريخي- وأنا أعتبره كذلك- في مهرجان الشارقة القرائي للطفل في مايو من هذا العام 2013 م، ولكني قد قرأت أعمالك القصصية جميعَها في سباقٍ عليها أنا وأبنائي الأربعة، مضينا كُلٌّ يجد فيها بغيته، وينهلُ منها بحسب احتياجه، يجمعنا فيها جمال الفكرة، ويسحرنا عذب العبارة، ويحلِّق بنا خيالُك المليء بعوالم مدهشة لا توجد إلا في أفقك الرحب، المتناغم مع آفاق الخيال التوليدي لدى الأطفال، لذا أمتعتنا وأسعدتنا، وكذلك تفعل مع ملايين الأطفال في الوطن العربي الكبير وفي غيره، وسيظل مشروع الكتابة عنها من أولويات اهتمامي.
وأبشرك بصدور ديوان جديدٍ لي للأطفال بعنوان (هيا نغني يا صغار)، طبعته مشكورةً دائرة الثقافة والإعلام بحكومة الشارقة بالإمارات العربية المتحدة، هذا العام، وسيرسلون لي عددًا من النسخ، كما صدر قبلَه ديوان آخر بعنوان (أنا أحب عملي) هدية مع مجلة العربي الصغير الكويتية، ولعلك تابعتها في عددها رقم (250) رمضان الماضي 1434 هـ الموافق يوليو 2013 م.
أشكر رسالتك العذبة وأخلاقك الأعذب، وأمدَّك اللهُ بفيض العطاء، وموفور السعادة والخير،،، المخلص: إبراهيم أبو طالب في 23 /11/ 2013 م.
وفي ختام كلمتي هذه وبعد عرض نموذج من التواصل الذي يميِّز الأستاذ الكبير يعقوب، وهو الذي لا يغيبُ عن آفاقنا محبةً وعطاءً، ولا ينقطع عن حياتنا حضورًا وبهاءً، أرجو له وقد بلغ عيد ميلاده الخامس والأربعين (مرتين) بروح شابٍّ متدفِّق عطاءً وحيويةً، وبعيون فتىً متلهِّف للحياة والجمال، وبعقل حكيم ناضج بالخبرة والتجربة الفريدة، أرجو له دوام الصحة والسعادة، وتدفق الخير والتوفيق، وكل عام يا صديقي الكريم وأنتَ من البهاء أقرب، وعلى التألق والعطاء أقدر. والله يرعاك، والسلام.