القاهرة 19 مارس 2019 الساعة 12:54 م
كتب : عاطف محمد عبد المجيد
إذا قلنا أن المعرفة والثقافة هما عبارة عن دراجة طفل لها دولابان، ففي تلك الحالة لا يمكن أن يعملا إلا معًا من أجل أن تسير الدراجة، فإذا قسمنا هذه الدراجة نصفين لكي نحصل على الثقافة من جزء، وعلى المعرفة من الجزء الآخر، فنحن حتمًا سنشبه الدب الذي قتل صاحبه، وصحيح أيضًا أنه يمكنك السير على دولاب واحد كما في السيرك، لكنها في تلك الحالة ستكون مجرد أداة في سيرك، تجلب الضحك ولا تجلب التقدم المنشود.. هذا ما يقوله د. زين عبد الهادي في كتابه " المستقبل الشائك..تحديات الثقافة والمعرفة في الدول النامية " والصادر حديثًا عن الهيئة العامة للكتاب، والذي يوجهه إلى الدول النامية، محاولا قراءة أوضاعها الحالية في مجال الثقافة وعلاقة ذلك بالمعرفة، وكيف يمكن للثقافة أن تلعب أدوارها في إعادة بناء المجتمعات، ودعم اقتصادها وإعادة رسم الصورة الذهنية لكل دولة.
عبد الهادي يرى أن هذا الكتاب المختصر أقرب إلى تشريح مفهوميْ المعرفة والثقافة، والعلاقة التاريخية بين المصطلحين.
اللاعب الأول:
عبد الهادي يؤكد هنا أن مستقبل الثقافة والمعرفة مرهون دائمًا بمدى قدرة النظام على تسهيل وتوفير البيئة اللازمة لتطبيق مجموعة من القوانين الحاكمة لنمو المعرفة, بجانب دعم الحرية الكاملة للثقافة كي يمكن للمعرفة أن تتقدم.
كذلك يرى الكاتب أن المعرفة لا تتقدم أبدًا دون أن تكون الثقافة هي اللاعب الأول وربما الأخير الذي سيسمح لهذه المعرفة بالتوغل في أعماق العقل الإنساني، لتخرج بلورته المتوهجة بما يمكّنها من خدمة الإنسانية كلها، دون ذلك يمكن أن تتقدم المعرفة، لكن دون تأثير ما في العقل الجمعي، ومن هنا تتكون الفجوة الحضارية والثقافية والمعرفية. عبد الهادي رغم اتفاقه التام مع ما جاء في كتاب طه حسين " مستقبل الثقافة في مصر " إلا أن هناك تطورات حدثت في السنوات السبعين الماضية غيرت كثيرًا من المفاهيم المتعلقة بالثقافة، إذ لا يمكن نسيان تجربة مهاتير محمد في ماليزيا الذي نهَج نهْج وطريق طه حسين، وكذلك تجربة الصين منذ عام 1949، وكذلك كثير من تجارب الشعوب التي انتقلت من مصاف الدول النامية إلى الدول المتقدمة لأنها آمنت بالتعليم كوسيلة وحيدة لهذه النقلة الثقافية والحضارية.
مما يراه الكاتب أيضًا أن هناك تصلب ثقافة وتوافر أموال يؤدي لتلك الحالة من استيراد المعرفة، نزيف من الموارد الضخمة، دون أن تعمل المجتمعات الإنسانية بشكل عالمي على توفير بيئة علمية ومعرفية قادرة على الإبداع والخيال، وهو ما قد يحتاج لدراسات سوسيو معرفية وبوليتيك معرفية عميقة للغاية، يمكن معها توفير الحلول لكل ما تعاني منه المجتمعات المتخلفة في العالم. هنا يذكر عبد الهادي أنه مع التحولات الهائلة في نهاية الألفية الثانية وبعد الثورة العلمية، وظهور مجتمع المعرفة، حدث أن ظهر مثقف من نوع جديد لم تعرفه البشرية من قبل وهو الذي يسمى " المثقف الثالث " وفقًا لنظرية جون بروكمان؛ هذا المثقف يجمع بين العلم والتخصصية العلمية من جانب وبين الموهبة الفنية والأدبية من جانب آخر، وهو يلاحق ما يحدث من تطور ويستطيع أن يتكلم تلك اللغة العلمية، ومع ذلك هناك من يتحدث عن الدور التقليدي للمثقف، متسائلا كيف يمكن أن نتحدث عن هذا الدور في ظل تغير العالم وتحولاته, غير أن ذلك التحول لم يشمل العالم العربي في المرتين، فيما تغير نوع المثقف نفسه واهتماماته وميوله في العالم المتقدم، وربما انسحق المثقف التقليدي في العالم النامي، وربما تم قمعه بشكل أو بآخر، ولذلك لم يعد المثقف مسموعًا حين بدأ اختفاء عدد كبير من مثقفي القرن الماضي بالموت والانسحاب من الحياة الثقافية بحكم العمر أو محاولات استقطابه من جهات متعددة، وقد أصبح المثقف في حاجة لإعادة تشكيل نفسه في ظل ظهور أدوات جديدة للمعرفة، وفي ظل ارتفاع وعي جمعي نتيجة الاحتكاك الظاهري بالآخر وليس نتيجة ممارسة معرفية حقيقية.
أدوار جديدة:
هنا يطرح عبد الهادي أسئلة من قبيل من هو مثقف عصر المعرفة الجديد؟ وهل سيظل دوره هو الدور التقليدي، أي مراقبة المجتمع ومحاولة إصلاح عيوب كل أطرافه؟ والسؤال الأهم هو: هل وجود مجتمعان هما المجتمع الطبيعي ومجتمع الإنترنت يتطلب من المثقف أدوارًا جديدة؟ وهل عليه أن يكتب كل لحظة، وليس كل يوم أو أسبوع كما كان يفعل في العصر الصناعي وما قبل عصر المعلومات، وذلك لملاحقة الفيضان الهائل من الأخبار وليتطبع مع وسائل التواصل الاجتماعي وما فرضته عليه من تحديات واستجابات لابد منها، وإلى أي حد يمكنه أن يتمرد بعدما نجح استقطابه؟ في " المستقبل الشائك " يكتب زين عبد الهادي عن إشكالية العلاقة بين الثقافة والمعرفة، وعن تاريخ المعرفة وعلاقتها بالثقافة، وماذا نحتاج من الثقافة والمعرفة، وعن الفجوة الثقافية – المعرفية، وعن دور مؤسسة الثقافة في عالم المعرفة، مختتمًا كتابه هذا بملحق عن التنوع الثقافي ودوره داخل المجتمع.
وحسب رؤية عبد الهادي فإن الثقافة تفرض على المعرفة، أو المعرفة تفرض على الثقافة أن يندمجا معًا، كي يمكننا استخدام دراجة سليمة، يمكن للطفل أن يركبها ويقودها باستمتاع، هذا الطفل يمثل الإنسانية، والدراجة هي حاصل المعرفة والثقافة، وأحد دولابيْ الدراجة يمثل الثقافة، والآخر يمثل المعرفة.
عبد الهادي يظن أن أعظم العلماء حين يتحدث عن المعرفة، ينحاز حديثه للتخصص، أو لقراءات العالم وثقافته.الكاتب يقر هنا أن هناك فروقات واسعة بين المعرفة والثقافة، ومع ذلك هما مصطلحان متلازمان، بل إن المعرفة هي مكون من مكونات الثقافة، أو جزء منها. كما يرى أن الفن والعادات والتقاليد تلعب أدوارها في تقدم المعرفة وتخلفها، أو في إنشاء ما يُعرف بمضاد المعرفة.هنا يرى الكاتب أن مستقبل المعرفة يتركز على الكيفية التي يعاد بها بناء الأساطير في كل حضارة، وفي كل ثقافة، وصولًا للفكرة النهائية للمعرفة، كيف يمكن للإنسان أن يخلد، وكيف له أن يتجاوز الفضاء، وما تلك القدرات التي يجب أن يتحلى بها.
نهاية أقول إن " المستقبل الشائك " رغم صغره إلا أنه كبير الفائدة، حيث يتحدث عن قضية المعرفة والثقافة، وهما ساقان لا يمكن لأي مجتمع أن يسير دون إحداهما، إن كان يبحث عن التقدم ويتطلع إلى الرقي، وتجاوز حدود الدول النامية، أو بمعنى آخر الدول " النايمة في العسل ".