القاهرة 12 مارس 2019 الساعة 11:23 ص
كتبت : د. نادية هناوي
تنفرد أجناسية القصة القصيرة بأنَّ لها منزلة تتفاوت أهميتها من بلد إلى آخر ومن أمة إلى أخرى، فضلا عن كون الكتابة فيها لا تثبت عند قالب إلا لتغادره إلى آخر في ظل دوامية تجريبية لا نهاية لها.
ولقد أسهم الانفتاح الأجناسي بالتداخل والاندماج على جعل تلك الدوامية أكثر تحررًا واندفاعية نحو تجريب المزيد من التداخلات بالفنون والآداب على اختلافها؛ ومن هنا تعددت الاصطلاحات التي مدارها القصة كفن إبداعي يجمع السرد بالشعر والواقع بالخيال والصوت بالتشكيل واللوحة بالسينما والتركيز باللاتركيز, وهكذا دواليك من المتضادات والمتناقضات الكتابية.
وذلك الاختلاف في القصة القصيرة بين آداب الأمم المختلفة، وهذه التعددية في مسارات الكتابة التجريبية ومنعرجاتها، جعلا النقد الأدبي يخوض غمار نظر فكري يحاول بناء أطر أدبية يتمسرب فيها كل شكل قصصي ضمن مواضعات فنية متاحة ومنطقية، واصطلاحات محددة ومستقرة, وفي النقدين الأدبيين الأوربي والأمريكي كثير من الاختلاف حول اجناسية القصة القصيرة مفهوما وتقانات واصطلاحات؛ فالنقاد الأوربيون لا يرون في أجناسية الوصف بالقصة القصيرة أي اضطراب أو تباين, بينما يرى النقاد الأمريكان العكس فالقصة القصيرة عند فورست انجرام حلقة قصة قصيرة بينما هي عند روبرت لوشر كتاب مفتوح بحسب كتابه ( The short story sequence; an open book ) وفيه يرى" أن تفكك الروابط أعطى لمتوالية القصة القصيرة ـ وليس المتوالية القصصية ـ جاذبيتها لأنه يخلد الوعي الأكبر بالإمكانيات الشكلية والإيقاعية والموضوعاتية البديلة، ولأنه يلزم القارئ بخلق المعنى والتقريب بين الأجزاء.. يوجد في متوالية القصة القصيرة إذن حيز متسع للتفسير الذاتي والمشاركة النشطة وهكذا تصبح مهمة القارئ أصعب وأجدى في الوقت نفسه" ( ينظر: القصة، الرواية، المؤلف، دراسات في نظرية النوع ، بترجمة د. خيري دومة، ص95 ), وهو لا يوافق انجرام وصف القصة القصيرة بالحلقة، نظرًا لعلاقة القربى الوثيقة بالحلقات الملحمية ومتوالية السوناتا الشعرية, والذي ينتهي إليه لوشر هو أن وضعية القصة القصيرة بوصفها جزءًا دالًا من كل متطور لا تدمر استقلاليتها وإنما هي توسع من وظيفتها ودلالتها داخل كتاب مفتوح.
وتصف جينفر سمث القصة القصيرة بالدورة بينما تراها سوزان فرجسون غير ذلك فلا هي حلقة ولا دورة, وإنما هي ضد المتوالية في مقالها الموسوم ( المتوالية وضد المتوالية والدورات والروايات : القصة القصيرة في نقد النوع الأدبي) المنشور في مجلة القصة القصيرة بالإنجليزية العدد 41 العام 2008 ص103ـ117 وفرجسون ناقدة أكاديمية من جامعة كلفلاند في أوهايو ولها مقالات في التاريخ ونظرية القصة القصيرة وهي عضو في مجموعة القصص المترابطة ولها كتاب عن الشاعر الأمريكي راندال جاريل وحررت كتابا عن الجيل الأوسط من الشعراء.
والمصطلح ضد المتوالية ( anti – sequence ) الذي وضعته فرجسون يعني مكافحة المتواليات، مؤكدة أن أساس الحداثة بدأ مع حكايات كانتربري وديكامرون ثم تطور على يد جورج مور وشيروود اندرسون وفوكنر الذين كتبوا كلاسيكيات القص. ومع همنغواي وقصصه (في زماننا) أصبحت القصة القصيرة أكثر تعقيدا لأنها غدت تهتم بالواقع والأفراد الهامشيين، كما أن لجويس تجديدا في قصصه التي طبعها تحت اسم مسلسلات وعكس فيها تاريخ بلدته دبلن.
وتساءلت فرجسون عن نماذج الشخصيات التي يمكن أن توضع في دورات أو متواليات؟ كأنها بهذا التساؤل غير مقتنعة بتسمية فورست انجرام (حلقة القصة القصيرة) ووصفه لها بأنها كتاب قصص قصيرة تترابط لتنضم بعضها إلى بعض وذلك بحسب تجربة القارئ واختلاف مستواه في فهم طبيعة هذا الترابط.
وكذلك لم توافق روبرت لوشر تعريفه للقصة القصيرة ككتاب مفتوح، أي مقدار من القصص تجمع بعضها لبعض، يدعو القارئ للتفاعل مع القصص وإدراك ثيماتها الاجتماعية بوصفها كتابا مفتوحا open book .
أما تعريف القصة القصيرة بأنها دورة فإنه قادها إلى التساؤل عن أي وجهة سننظر هل سنركز في النظر على الزمن وتطوره أم على الانتقال من مكان إلى مكان؟ ووجدت أن السبب في جعل مجموعة خاصة من القصص دورة أو متوالية هو القارئ الذي ينبغي أن يأتي باستراتيجية لفهم العمل القصصي من أجل تحقيق أقصى استفادة منه.
ومن ثم لا بد لنا كقراء من قراءة مجموعة هذه القصص أولا قبل أن نبدأ بداية منطقية في عملية التقسيم أو التجميع للقصص بعضها الى بعض, سواء في تطورها وتقدمها إلى الأمام أو في فهم الازدواجية في الفعل ورد الفعل بدورات حداثوية مدركين فنية هذا المشروع.
ومثال فرجسون قصص شارلوك هولمز لمؤلفها كونان دويل, إذ على الرغم من أن السعي إلى قتل هولمز يتكرر ويتولد متسلسلًا في القص؛ فإنَّ الثيمات والشخصيات فيها تتكرر لا كتسلسل أو دورة وإنما كعمل واحد مثل تلك الكتب التي تجمع وتطبع تحت وحدة معينة بعد أن كانت قد نشرت منفردة في مجلات متنوعة.
وتعود سوزان فرجسون مجددًا لتتساءل لماذا هذا الاهتمام بالتسلسل أو الدورة ؟ وتتبع بعض الدراسات التي ظهرت عن النوع بعد دراسة فورست انجرام بعقدين من الزمن فتقف عند ما كتبته جيرالد كيندي في مقالة نظرية نشرتها عام 1988, وفيها حررتْ مجموعة من المقالات عن شعرية القصة القصيرة الأمريكية، كما تقف عند روبرت لوشر الذي أراد عام 2001 أن يضع لمسألة التسلسل/ الدورة حلا وفي العام نفسه ظهرت رواية مركبة لماجي دان وان موريس. ثم تنكفئ في تتبعها المعاصر لهذه الدراسات إلى التاريخ البعيد فتجد أن كلمة دورة أوcycle تعود إلى الإغريق الذين كانوا يستعملون مصطلح القصائد الدائرية ثم شاع في العصور الوسطى مصطلح المسرحيات الدائرية الانكليزية.
والمحصلة التي تخرج بها فرجسون هي اختلاف تعريف الدورة في الماضي، عما هو في الحاضر، من ناحية أن الكاتب والقارئ بالنسبة للوشر وانجرام هما اللذان يريان أن كل قصة في العمل هي وحدة مستقلة لكنها في جانب معين كالبنية أو الحركة أو الموضوع تشكل دورة، وكذلك في الرواية المركبة لدان وموريس اللتين كانتا تستعملان النصوص القصيرة لتتكامل كلها في عامل أساس واحد تدور حوله.
وهذا ما تراه خطوة مضادة لكل من انجرام ولوشر لكنه أمر لا يثير القلق بمجرد أن نعلم أن النوع في النقد الأدبي قد أزيل وانطمس منذ أنْ عالج أرسطو الأنواع الأدبية ونقدها نقدا بوطيقيا.
بهذا تنهي فرجسون بحثها مؤكدة أن نقد الدورات والتسلسلات له جانب آخر غير ما طرحه انجرام ولوشر يتعلق بالميل إلى التراكم داخل عمل الكاتب وتجارب الحياة الفردية؛ ولذلك تتبنى وجهة نظر تخالفهما مدافعة عن رؤية جديدة في عناصر الاشتغال السردي، خلاصتها أن لابد أن نحترم نوايا المؤلف الذي يقضي عشرين عامًا أو أكثر ينظم في الاستمرارية أو التماسك في تطوير القصة لنقرأها كقصة أو كرواية كما أنّ علينا كقراء أنْ نتساءل عن الاختلافات في القراءة التي تجعلنا نرى مجموعة قصص تسلسلا أو دورة بينما كاتبها تجنب فيها التسلسل أو الدورة, وتظل الأسئلة بحاجة إلى معالجة لأن في القصة القصيرة كثيرًا من القضايا المراوغة التي تحتاج منا إلى فهم وتفسير.
من هنا يتضح لنا كيف أن الاختلاف في النقد الأمريكي حول القصة القصيرة هو اختلاف يتعلق بالمصطلحات وإشكالية البناء للمفاهيم والأبنية من ناحية الاستقلالية في( التسلسل ـ الدورة ـ رواية مركبة ) ومعلوم أن المصطلح الأجناسي هو علامة على نوع حقيقي له حدوده المعينة، وهذا ما تجسد على صعيد النقد الفرنسي الذي وجد في القصة القصيرة أجناسية ليس التسلسل فيها دورة او حلقة سوى تقانة شأنها شأن التداعي والمونولوج والمفارقة .. الخ. حتى أن لوسيان غولدمان استعمل مصطلح التفسخ مدللا به على اتساع التنوع في الكتابة القصصية الباحثة عن قيم أصيلة في عالم غير أصيل، ناقلا عن جيرار جينيت رأيه في التفسخ كالآتي ( أن تفسخ العالم القصصي هو نتيجة لمرض وجودي متقدم قليلا أو كثيرا..) .
ومثل النقد الفرنسي النقد الانكليزي الذي يرى القصة القصيرة نوعا ينطوي على تقانات وأبنية شتى، كما في الدراسة الموسومة (أنماط لغوية في تحليل القصة القصيرة: طرائق للأدب) 1984 لجانت هولست من جامعة لندن والدراسة في الأصل بحث للدكتوراة، وفيها اعتمدت الباحثة على البنيويين تودوروف وغريماس في دراسة التركيب البنيوي للتوالي السردي، وكذلك تقسيم بارت للقصة والخطاب، متبعة ثلاثة مستويات للسردية هي: سردية النحو وسردية التركيب وسردية التدوير narrative cycle, وانتهت إلى أن القصة القصيرة في تواليها تتخذ الوضعية البنائية التي يمثلها المخطط الآتي:
حالة من النقص
إجراء تحسين
إجراء انحلال
حالة من القبول
ويظل مجال الاجتراح في بنائية القصة القصيرة متاحا بسبب سيولة هذا النوع من القص الأمر الذي يسمح بالتداخل بأنواع أخرى أو بالتداخل داخل النوع نفسه, وها ما أكده الباحث جوس فلافيو في بحثه الموسوم ( القصة القصيرة القصيرة shory short story نوع أدبي جديد) وهي دراسة أكاديمية بإشراف بروفسور توماس لي بورنز عام 2010 ولخص فحوى اجتراحه ( قصة قصيرة قصيرة ) بأنها وظيفة في النوع الشعري ما بعد الحداثي, انطلاقا من التصنيف النوعي والحدودي المتبع في وجهة النظر التاريخية والتحليلية للوظيفة القصيرة من القرن التاسع عشر الى القرن الحادي والعشرين, وبخاصة تحت تأثير الروسي تشيكوف الذي يعد الأب الحقيقي للقصة القصيرة الحديثة.
وتحليليا ينظر فلافيو للقصة القصيرة القصيرة كهندسة للأصل النوعي وأن ما فيه من شخصيات ولغة سردية يتكيف مع الأنواع الشعرية والكتابة الصحفية، متناولا مسائل أخرى تدور حول قضية النوع في القصة القصيرة ( الأصل والتطور) مدعما اجتراحه بالنظر في مسميات القصة والرواية والنوفيلا والحكاية tale ، متطرقا إلى تفاعل النقد الأمريكي حولها.