القاهرة 12 مارس 2019 الساعة 11:11 ص
كتبت. محمد على
فيلم بداية ونهاية والأثر السيميوطيقي به.
في عام 1949 صدرت الطبعة الأولى لرواية "بداية ونهاية" للكاتب نجيب محفوظ، إلا أنها قُدمت للسينما بعد عشرة أعوام، كما أنها كانت العمل الأدبي الأول لمحفوظ الذي يحول للسينما. وذلك بعد أن قام المخرج صلاح أبو سيف بشرائها من مدير التصوير عبده نصر والذي قد سبق وحصل على حقوق ملكيتها.
يقول أبو سيف: "قرأت الرواية عند أول ظهورها، وكنت أحلم بإخراجها ولكن لم أجد المنتج الذي يجرؤ على إنتاجها."
ويعد أبو سيف من أهم مخرجي فترة الخمسينيات، والتي هي بمثابة الأرشيف الذهبي لتاريخ السينما المصرية، حيث بلوغ قمة النضج الفني/السينمائي والحرفية في استخدام التقنيات الحديثة فيما يتناسب مع نوع الفيلم. ويري الناقد سمير فريد في كتابة "مدخل إلى تاريخ السينما المصرية": "إن أبا سيف كان أكثر سينمائي جيله تأثيرًا في أسلوب السرد السينمائي، مما ساهم في بلوغ التيمة السينمائية التي كان يرنو إليها؛ وهي الواقعية."
ويعد فيلم بداية ونهاية من أهم أعماله التي جعلته يبلغ النجاح الفني إلي أن أصبح رائد التيمة الواقعية بالسينما المصرية. وذلك من خلال الوعي الفني للآثار التي يخلقها عنصري الديكور والإضاءة، وذلك على حد سواء فيما بين الأماكن التي أعدت سلفًا للتصوير، وأماكن التصوير الخارجي.
ويتناول المقال الفيلم من وجهة نظر السيميوطيقا؛ وذلك من خلال تطبيق القواعد المنهجية الثلاث التي وضعها "باختين" في دراسته السين
مائية.
يقول أبو سيف: "قد تمت كتابة السيناريو على أساس أن تبدأ الأحداث من نهايتها؛ عندما يأتي الأخ الأكبر هاربًا ليختبئ عند أسرته، بينما يستعدي البوليس الأخ الأصغر......" ربما كان العدول عن الفكرة الاخراجية هذه، الأثر الكبير في ظهور المفردات المرئية بالفيلم بشكل أكثر ثراء وحرفية. فإذا تم تصدير الفيلم كما أعد السيناريو؛ ليس فقط كان سيظهر الاختلاف على التناول النقدى للفيلم، وإنما أيضًا يتلاشى التأثير الدرامي الذي يصاحب شخصية "حسنين" -الشخصية المحورية- في افتتاحية الفيلم.
لاحظ الافتتاحية: " تظهر المطرقة الضخمة وهي تنهال على الحديد الساخن، سريعًا يظهر حسنين وكأنه خارج من أسفل المطرقة" فمن خلال هذا المشهد الافتتاحي عبر عن الحالة الدرامية للشخصية، كما أكد على البعد الدلالي للفيلم. بتطبيق القواعد التي وضعها باختين:
•عدم فصل الإيديولوجيا عن الواقع المادي للعلامة.
•عدم عزل العلامة عن الأشكال المحسوسة للتواصل الاجتماعي.
•عدم عزل التواصل واشكاله عن أساسهما المادي.
وعلى ضوء ذلك سأقوم بمحاولة لتقديم رؤية نقدية مختلفة، بتطبيق تلك القواعد على بعض مشاهد الفيلم.
يستخدم أبو سيف العنصر المرئي "السلم" في ثلاثة أماكن مختلفة داخل السياق الروائي للفيلم، كما يمزج ظهوره بحركة الكاميرا والشخصيات، داخل المشهد؛ ليس فقط كوسيلة انتقال مرئية، إنما كان القصد الفني هو استخدام دلالة الصعود والهبوط التي يرمز لها السلم لتوضيح وتبيان الحالة الدرامية والنفسية لشخصيات الفيلم.
وأول السلالم التي تظهر بالفيلم؛ سلم منزل الأسرة-شبرا. والذي يعبر منذ بداية الفيلم على البعد السيميوطيقي. كما كان له الدور الاهم في تطور الحالة الدرامية للشخصيات، بدايًة من المشهد التالي للافتتاحية حتي مشهد نجاح الأخ "حسين" بالبكالوريا.
"يدخل حسنين من باب المنزل، يقفز على السلالم مسرعًا متجهًا للأعلى، إلا إنه يتوقف رغمًا عنه ومن ثم يقوم بالهبوط من على السلم، متجهًا لشقة البدرون. يلتقي بشقيقته التي يتبادل معها حوار قصير نفهم منه انتقال الأسرة من الدور العلوي للمنزل إلي البدرون. بعد وفاة الأب وانقطاع موارد المعيشة." فيعبر مخرج الفيلم عن الحالة النفسية والمعنوية لشخصية حسنين الساخطة على شكل حياة الاسرة، ورفضة لتصديق ما آلت إليه الظروف؛ وذلك من خلال قفز حسنين على السلم لأعلى واستمرار سهوه كما يتضح من سياق الحوار. كما يتحلى هذا المشهد بالإيجاز السينمائي الذي تخطي به أبو سيف صفحات عديدة من النص الأدبي.
وبالمشهد التالي الذي "يقف فيه الجار فريد أفندي على أول درجات السلم، نجد الأم وهي تقف خلف السلم..." يستخدم السلم بقصد التعبير المكاني من خلال وضع الشخصيات داخل المشهد، ولتأكيد حقيقة الواقع المادي لكل منهما؛ فيستمر المشهد دون قطع: "تدخل نفيسة وهي تحمل بعض الأطعمة الجافة لحسنين الغاضب على وجبة العدس اليومية، فتغضب الأم وتأمرها بإعادة الطعام.." وبينما تعنف الأم ابنتها؛ "يظهر الابن الأصغر للجار وهو يهبط من الأعلى على السلم، حتي يقف أمام الأب ويطلب منه قرشين ليشتري حلوي."
ويعبر السلم نفسه، من ناحية بمشهد آخر عن الحالة الشعورية لشخصية نفيسة، ومن أخري يبرر قيامها بالانتحار نهاية الفيلم. "تقف نفيسة على درجات السلم، تحاول أن تتحكم في اعصابها، ومن ثم تهبط من على السلم للأسفل بقلب يخفق، عائدة من سقطة جنسية."
تزداد حالة العائلة سوء، فيتركها الأخ الأكبر حسن ويذهب للعيش مع الراقصة سناء والعمل في تجارة المخدرات بدرب طياب، وهناك السلم الآخر الذي يظهر بمشهدين فقط؛ بكثافة مرئية جعلتهما من المفردات المرئية التي تميز بها الفيلم.
المشهد الأول: " يتسلم حسين خطاب التعيين في محافظة طنطا، إلا أنه لا يمتلك مصاريف السفر، فيهتدي للذهاب إلي أخيه الأكبر حسن بدرب طياب." تراقب الكاميرا حسين من زاوية مرتفعة وهو ذاهب لشقيقة حتي يصل أمام المنزل لتستمر بمراقبة حركات جسده وهو يهبط السلم للأسفل.
المشهد الثاني: "يذهب حسنين هو الآخر إلي أخيه وذلك لتدبر مصاريف الالتحاق بالمدرسة الحربية." ومن زاوية مرتفعة أيضًا تراقبه الكاميرا؛ إلي وصوله لمنزل الأخ الأكبر بدرب طياب وهبوطه من على السلم للأسفل.
وفي كلا المشهدان، ورغم أهمية حركة الكاميرا والحركات الجسدية للشخصيات التي عبرت بدورها عن الانهزام الأخلاقي الذي يتعرضون له. إلا أن وجود السلم في المشهدين أكد على ذلك، لدلالته الرمزية في الهبوط الذي أجبر عليه.
يذهب حسنين مصطحبا خطيبته بهية إلى دار العرض السينمائي، ذلك بعد التحاقه بالحربية. وهناك يلتقي بأصدقائه الذين يسخرون من ملابس خطيبته؛ فيضطر للصعود إلي المقاعد الشاغرة بالأعلى، حتي تسقط عيناه على قريبة أحمد بك يسري وبجواره ابنته، فيذهب للسلام عليهم وإظهار البدلة الميري لابنة الوجيه."
ويستخدم أبو سيف السلم الثالث والأخير هذا، لإظهار حالتين مختلفتين تعبر كل منهما عن تفاقم الحالة النفسية لشخصية حسنين، كما ساهم دور السلم بالمشهد بتبيان الدافع الرئيسي للشخصية.
في الحالة الأولي يقوم حسنين بالصعود على السلم متحهًا للأعلى؛ لم يكن القصد الفني هنا هو ما يلازم فكرة الصعود من سمو وارتقاء، إنما القصد كان هروب حسنين من أعين الأصدقاء الذين يسخرون من ملابس خطيبته. وفي الحالة الثانية التي يستخدم السلم فيها وهو يهبط للأسفل يعبر بهذا الهبوط عن دوافع شخصية حسين التي تسعي وتطلع دائمًا للثراء والنفوذ.
وهذا كان الظهور الأخير لأي سلم بالفيلم، حيث عبر مخرج الفيلم بهذا المشهد بملازمة هبوط الشخصية المحورية حسنين إلي نهاية الفيلم ومشهد انتحاره.
وإذا قمنا بالتحليل والبحث عن الشروط الداخلية والتي تتحكم في تكوين الدلالة، يتضح المعنى الذي ينتج عن ربط العناصر بالعلاقات المادية. وكذلك التحليل البنيوي سيميوطقيًا؛ والذي لا يبحث عن وصف المعني نفسه على قدر وصف شكله ومعماره.
و بإنزال قواعد باختين، نجد تحقق الربط بين الإيديولوجيا الخاصة بالشخصيات وعنصر السلم الذي من خلاله عبر به عن واقعهم المادي. كما أنه "السلم" استخدم للتعبير عن التواصل الاجتماعي بين الشخصيات.
المصادر;
محاورات صلاح أبو سيف مع هاشم النحاس.
مدخل إلى تاريخ السينما المصرية