القاهرة 12 مارس 2019 الساعة 11:06 ص
كتب:أحمد مصطفى الغـر
في بلاد المهجر والمنفى وبعيداً عن الأوطان، شبت وعاشت قامات من المبدعين، قمم من شعراء وكتّاب رواية وقصة ومسرحيين وتشكيليين وغيرهم، بعضهم هاجر بحثاً عن تحسين مستوى المعيشة أو سعياً وراء فرص أفضل في الحياة، أو هرباً من عبء الكلمة بالداخل فذهب ينشرها خارج وطنه، وبعضهم أُبعد منفيا، مجبراً على الرحيل بعيداً عن وطنه، عاشوا في بلاد المهجر والمنفى حتى تآكل منهم الكثير أو أكل وشرب الزمان على أعمارهم وما يقدمون، ومنهم من عاد لوطنه ومنهم من بقي في غربته ومنفاه، سواء كان اختياريا أو إجبارياً، لكن لم يستطع كل الشعراء أن يتكيفوا في منفاهم رغم أنهم كانوا حريصين أن تكون أوطاناً بديلة لهم فكانت منافي قاسية، والبعض عبّر عن ذلك بطريقة قاسية فبدلاً من أن تكون فردوساً تحولت لمقبرة حقيقة للأحلام والطموحات والآمال والحياة بأكملها.
ولعل من أبرز هؤلاء المبدعين الذين أبدعوا بعيداً عن أوطانهم شاعر السيف والقلم "محمود سامي البارودي"، الذي جمع بين كتابة الشعر والعمل السياسي، وجدد في القصيدة العربية شكلًا ومضمونًا، فهو رائد مدرسة البعث والإحياء في الشعر العربي الحديث، وهو أحد زعماء الثورة العرابية، حيث تولى وزارة الحربية ثم رئاسة الوزراء باختيار الثوار له.
وُلد البارودي في 6 أكتوبر عام 1839م في حي باب الخلق بالقاهرة، وتلقى دروسه الأولى فتعلم القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم، وتعلم مبادئ النحو والصرف ودرس شيئا من الفقه والتاريخ والحساب، حتى أتم دراسته الابتدائية عام 1851م حيث لم يكن هناك في هذه المرحلة سوى مدرسة واحدة لتدريس المرحلة الابتدائية، وهي مدرسة المبتديان، التحق وهو في الثانية عشرة من عمره بالمدرسة الحربية عام 1852، فالتحق بالمرحلة التجهيزية من المدرسة الحربية وانتظم فيها يدرس فنون الحرب، وعلوم الدين واللغة والجبر، بدأ يظهر شغفًا بالشعر العربي وشعرائه، حتى تخرج عام 1855م، ولم يستطع استكمال دراسته العليا، والتحق بالجيش السلطاني, وتمكن في أثناء إقامته هناك من إتقان التركية والفارسية ومطالعة آدابهما، وحفظ كثيرًا من أشعارهما، وظل هناك نحو سبع سنوات، حتى عودته إلى مصر في فبراير عام 1863م حيث عينه الخديوي إسماعيل معيناً لأحمد خيري باشا على إدارة المكاتبات بين مصر والآستانة، لكنه ضاق بروتين العمل الديواني ونزعت نفسه إلى تحقيق آماله في حياة الفروسية والجهاد، فنجح في يوليو عام 1863م في الانتقال إلى الجيش حيث عمل برتبة "بكباشي"، وأُلحق بالحرس الخديوي، وعُين قائداً لكتيبتين من فرسانه، وأثبت كفاءة عالية في عمله.
وقد كان البارودي أحد أبطال ثورة عام 1881م الشهيرة بالثورة العرابية ضد الخديوي توفيق، وأُسندت إليه رئاسة الوزارة الوطنية في فبراير عام 1882.
تجلت مواهب البارودي الشعرية في سن مبكرة بعد أن استوعب التراث العربي وقرأ روائع الشعر العربي والفارسي والتركي، وكانت قراءاته من عوامل التجديد في شعره الأصيل؛ فهو رائد الشعر العربي في العصر الحديث؛ حيث وثب به وثبة عالية لم يكن يحلم بها معاصروه، ففكّه من قيوده البديعية وأغراضه الضيقة، ووصله بروائعه القديمة وصياغتها المحكمة، وربطه بحياته وحياة أمته. هو إن قلّد القدماء وحاكاهم في أغراضهم وطريقة عرضهم للموضوعات وفي أسلوبهم وفي معانيهم، فإن له مع ذلك تجديداً ملموساً من حيث التعبير عن شعوره وإحساسه، وله معان جديدة وصور مبتكرة. وبالرغم من سلسلة الكفاح والنضال ضد فساد الحكم وضد الاحتلال الإنجليزي لمصر عام 1882، فقد تم نفيه بقرار من السلطات الحاكمة، مع زعماء الثورة العرابية في ديسمبر عام 1882 إلى جزيرة سرنديب، ظل في المنفى أكثر من سبعة عشر عاماً يعاني الوحدة والمرض والغربة بعيدا عن وطنه, وأقام البارودي في الجزيرة التي نفي إليها سبعة عشر عاماً وبعض عام، وأقام مع زملائه في "كولومبو" سبعة أعوام، ثم فارقهم إلى "كندي" بعد أن دبت الخلافات بينهم، وألقى كل واحد منهم فشل الثورة على الآخر، وفي المنفى شغل البارودي نفسه بتعلم اللغة الإنجليزية حتى أتقنها، وانصرف إلى تعليم أهل الجزيرة اللغة العربية ليعرفوا لغة دينهم الحنيف، وإلى اعتلاء المنابر في مساجد المدينة ليُفقّه أهلها شعائر الإسلام.
لقد نظم قصائده الخالدة، ساكباً فيها آلامه وحنينه إلى الوطن، ويرثي من مات من أهله وأحبابه وأصدقائه، ويتذكر أيام شبابه وما آل إليه حاله، ومضت به أيامه في المنفى ثقيلة واجتمعت عليه علل الأمراض، وفقدان الأهل والأحباب، فساءت صحته، بعد أن بلغ الستين من عمره اشتدت عليه وطأة المرض وضعف بصره فقرر العودة إلى وطنه مصر للعلاج، فعاد إلى مصر يوم 12 سبتمبر 1899م وكانت فرحته غامرة بعودته إلى الوطن وأنشد أنشودة العودة التي قال في مستهلها: أبابلُ رأي العين أم هذه مصرُ / فإني أرى فيها عيوناً هي السحرُ.
مع عودته لوطنه ترك العمل السياسي، وفتح بيته للأدباء والشعراء، يستمع إليهم، ويسمعون منه، وكان على رأسهم أحمد شوقي وحافظ إبراهيم ومطران خليل، وإسماعيل صبري، وقد تأثروا به ونسجوا على منواله، فخطوا بالشعر خطوات واسعة، وأُطلق عليهم مدرسة البعث الكلاسيكي أو مدرسة الأحياء، وذلك للحفاظ على اللغة العربية والتراث الشعرى من الضياع، الذي بدأ منذ أن استولى التتار على دمشق وبغداد، وقاموا بإلقاء معظم كتب التراث بنهري دجلة والفرات، وحرق دور العلم والمكتبات، وأخذ في الاستفحال مرورًا بحكم المماليك، حتى احتلال العثمانيين لمصر والشام الذي نتج عنه انتشار الجهل والفقر، وفرض اللغة التركية لغة رسمية، ومع ذلك كله تكفلت مدرسة الإحياء بريادة البارودي ومعه مجموعة من الشعراء منهم، أحمد شوقي، وأحمد محرم، وعزيز أباظة، ومعروف الرصافي وغيرهم، بحماية الشعر واللغة العربية من الاندثار، وأثرى شعرائها المكتبة الأدبية بمجموعة من القصائد الشعرية العظيمة التي مازالت تضيئها إلى الآن.
مات البارودي وهو مرهف الحس عام 1904م. من آثاره؛ ديوان شعر في جزئين يحوي مجموعات شعرية سُميّت "مختارات البارودي"، جمع فيها مقتطفات لثلاثين شاعرًا من الشعر العبّاسي، مختارات من النثر تُسمّى قيد الأوابد، مطولة في مدح الرسول عليه الصلاة والسلام، تقع في أربعمائة وسبعة وأربعين بيتًا.
رحل البارودي بعد أن نظم الشعر على عده أسس، أولها الوصف الذي مزجه بلمسات تعبرعن تعمق ثقافته واستقلالية منهجه، وأفرد للوصف عدة قصائد مُستقلة، قال فيها النقاد أنه لم يأتِ بها أي وصف من قبله، معالجاً في شعره موضوعات وصف عديدة على رأسها، الطبيعة والأشخاص والأشياء، بالإضافة إلى وصفه لأمجاد المصريين القدماء والمماليك، حتى أنه وصف المخترعات الحديثة في شعره، كما نظم أيضا شعر الهجاء أيضًا ووجد لديه نوعين منه هما، الشخصي الذي وصف فيه نفاق وظلم الناس مصورًا عيوبهم، والاجتماعي وفيه يذم الزمان ناعيًا تلون المُجتمع، وعُرف عن هجائه بأنه ساخر ولاذع، كما كتب أيضا في الرثاء والفخر.