القاهرة 05 مارس 2019 الساعة 10:20 ص
كتب : د. طارق البكري - كاتب لبناني متخصص في أدب الطفل
من الصعب جدًّا على الباحث في المجال الأدبي أن يتحرى ما يميز الكاتب الأديب المتفرد في فنه ببضع كلمات، وقد سطر في سني عمره المديدة آلاف الصفحات فيما يتعلق بأدب الطفل، وفنونه المختلفة بحثاً ودراسة وتأصيلاً، أعني بالطبع رائد أدب الطفل المعاصر الأستاذ يعقوب الشاروني.
إن شهادتي بهذا الأديب الفذ مجروحة، لا سيما إن علاقتي به تعود لسنوات طويلة، حتى قبل أن نلتقي وجهًا لوجه قبل نحو عشر سنوات، في معرض لكتاب الطفل في مدينة الشارقة في دولة الإمارات العربية المتحدة. فعلاقتي معه تمتد منذ بدايات اهتمامي بقراءات الأطفال قبل أكثر من 40 سنة، وقد اطلعت خلالها على كل ما توفر لي من مؤلفاته من قصص وأبحاث وترجمات.
ولا يمكن أن نوجز حياة هذا الأديب المعاصر التي تقارب الـ 90 سنة في أسطر معدودة، فهو نجم ساطع في عالم أدب الطفل وله فيه صولات وجولات، وقد توسد أعلى قمة فيها ملوحًا بأعلى بيرق من بيارقه,. بل إن الشاروني أضاف هرماً جديداً إلى أهرامات مصر الشامخة، ودليل ذلك ما قدمه من إبداعات يشهد بها القاصي والداني للطفل المصري على المستوى الوطني، وكذلك للطفل العربي على المستوى العربي، فضلاً عما قدمه من دراسات معمقة في مجال الأدب والرواية والفن القصصى المقدم للطفل.
ويمتاز أسلوب الشاروني بالرقة والرشاقة في الوصف وفي التعبير، وهذا الأسلوب جعله يتسيد بالفعل بجدارة وبلا منازع سدة أدب الطفل على مدى سنوات طويلة، بحيث لا يمكن أن نذكر أدب الطفل العربي دون أن نذكر يعقوب الشاروني، فهو الذي قدم للطفولة العربية ما لا يحصى من العناوين المتنوعة في شتى المجالات ولشتى المراحل العمرية، عناوين حازت على إعجاب الكبار والصغار على السواء، فاستحق حيازة الكثير من الأوسمة والجوائز الكبرى المتميزة، كما أنه شارك في منح الكثير من الجوائز للمبدعين المصريين والعرب.
أما شخصية يعقوب الشاروني في تواضعه، وتشجيعه للكتاب والأدباء وتحفيزهم، فأمر يعرفه كل من تواصل معه بشكل مباشر أو عن طريق الهاتف أو وسائط التقنية الحديثة، فأعطى بذلك نموذجًا حيًّا ومميزًا للأخلاق العالية التي يجب أن يتمتع بها الكاتب المربي.
ولم يمتهن هذا الكاتب العظيم الكتابة للطفل من برج عال، بل كان وما يزال حريصًا على التواجد في أندية الأطفال، فهو يشارك بالكثير من المعارض والأنشطة التي يتصل عبرها مباشرة بالطفل العربي، يقرأ له ويتحدث معه بشكل يؤكد مدى قربه من عالم الطفل، وقدرته على التعاطي المباشر معهم، نظرًا لما يتحلى به من فهم عميق للنمو النفسي والفكري، وما يتمتع به الطفل من ذكاء وقدرة فائقة على اكتشاف محاوره.
ولعل المناسبة (التسعينية) فرصة للحث على تخليد هذا الرجل الكبير في حياته، وإقامة صرح طفولي عربي جامع تحت عنوان (مركز يعقوب الشاروني لأدب الطفل)، يكون مركزًا تعليميًّا ووثائقيًّا وأدبيًّا وثقافيًّا جامعًا، يقدم لهذه الشخصية بعض الوفاء، وبعض ما بذل من جهد كبير في تطويع الأدب خدمة للطفولة العربية، بكل ما آتاه الله تعالى من علم وخبرة ودراية، لأن الطفولة عند الشاروني ليست مهنة بل هي هوية، فهو لم يقصد عالم الطفل طمعًا بالمال أو بالشهرة، وهو الحقوقي والمحامي البارع والإداري والمسؤول الرسمي القدير، بل قرر بنفسه واتجه إيمانًا منه بأهمية أدب الطفل، وهو المجال الذي لا يقصده كثير من الطامحين الذين يسعون لتحقيق الأهداف سريعًا، بينما طريق أدب الطفل طويل طويل ومليء بالمشاق والصعاب والعقبات.
كثير من الناس كتبوا عن يعقوب الشاروني، وصدرت كتابات وأبحاث ودراسات جامعية ومقالات وقصص مترجمة تتناول إبداعات ومسيرة هذا الرجل المعطاء، نسأل الله تعالى أن يطيل في عمره ويزيد من عطائه ويرفع من قدره ومكانته، لكي نرى المزيد من إبداعاته إغناء لمكتبة الطفل العربي وأطفال العالم.
وكم أرجو في هذه المناسبة أن تكون هناك مؤسسة تحمل اسم هذا الأديب الكبير، توثق أعماله وتترجمها لعدد من اللغات العالمية، إثباتًا لقدره المستحق، وتبيانًا للأدب العالمي أن عندنا من برع في أدب الطفل وتجاوز المحلية. وقد يكون مناسبًا تشجيع طلاب الدراسات العليا على دراسة جوانب متعددة من مؤلفاته، وتكريمه على مستوى الجامعة العربية جمعاء ليكون أول من يحصل على جائزة (نوبل العرب)، وليس في ذلك إلا بعض الوفاء لهذا الرجل الذي كرس حياته وجهده للطفل العربي، فيما كان الآخرون منشغلون بالحروب والسياسات والاقتصاد.
فهل هنالك أنبل وأجمل وأسمى ممن أخلص وجاهد وأفنى عمره من أجل الطفولة وسعادتها؟؟