القاهرة 26 فبراير 2019 الساعة 02:04 م
بقلم : د . سعاد مسكين ـ المغرب
لا يمكننا الحديث عن أدب الطفل، إبداعًا ونقدًا، دون الوقوف عند علَم بارز في الثقافة العربية، علَم خلف أثارًا جمة تتعلق بالإبداع الطفلي، بمختلف أجناسه الأدبية، وحمل هم إثراء الخزانة العربية بمدونات مسرحية وسردية باللغة العربية، أو مترجمة عن لغات أخرى، حرصًا منه على معرفة اتجاهات الكتابة الموجهة للطفل، وعلى الكشف عن مختلف التوجهات التي تحكمها، والمتغيرات التي من شأنها أن تطور المنتج الإبداعي الطفلي.
وإذا ما استقرأنا منجز هذا العلَم الفريد والمتفرد، إبداعًا ونقدًا، نجده من الغنى والتنوع ما يجعلنا نصفه بذاك الساحر الذي يمتلك قبعة؛ كلما رفعها عن رأسه، ولوّح بها في عنان السماء، وأراد التقاطها، يخرج عُجْب ما، يغير منظورنا لما هو موجود حقيقة، أو مختلف عما اعتدنا رؤيته، وألفنا قراءته.
إن قبعة يعقوب الشاروني/ الساحر تستهوينا جميعًا، والكل يرغب في امتلاكها، أو على الأقل تجريب اللعب بها، كما يلعب بها هو، إذ تمنحنا هذه القبعة كلما لمسناها أو حركناها وجهًا آخر غير الوجه المألوف للكاتب/ الإنسان؛ لذلك نحن أمام مبدع متعدد بتعدد استعماله للقبعة المليئة بالخيالات، والشخوص، والأفضية، وسجلات الكلام، والصور، والأحلام، والأفراح، والأحزان...، وأمام هذا التعدد فالكاتب واحد والقبعات متعددة، وبالتالي تحمل ذاته أوجهًا متعددة، منها:
1. الطفل/ الكبير: يحضر خَلْف يعقوب الشاروني الإنسان والكاتب طفل ناضج وحكيم، خَبِر حياة الطفل بكل مراحلها، وفي مختلف لحظاتها، الجميلة والتعيسة، وعلِم احتياجات الطفولة نفسيًّا واجتماعيًّا وتربويًّا. فظل هذا الطفل يسكنه في كتاباته، ينطق بلسان حاله، وينحت أمجاد ماضيه، ويحين قضايا حاضره، ويستشرف متغيرات مستقبله؛ لذلك تعد خبرة يعقوب الشاروني بالطفل والطفولة، خبرة متمرسة وعالمة، لأن صاحبها لم يخرج من جلباب علاء الدين والمصباح السحري، وأليس في بلاد العجائب، وذات الرداء الأحمر، أطفال جرتهم مغامراتهم إلى أن يصبحوا كبارًا يتحملون المسؤوليات، ويخرجون من مصاعب الحياة بذوات أخرى ناضجة ومكتملة، وهذا ما تصبو إليه كتابات يعقوب الشاروني، تكوين جيل من الأطفال الذين تتوفر فيهم كفاءات علمية ومعرفية وقيمية، وينعمون بقدرات ومهارات في الخلق والإبداع في شتى مجالات الحياة؛
2. الرحالة/ السندبادي: تتميز فضاءات القصص والروايات عند المبدع يعقوب الشاروني بالتنوع، إذ تحتفي مدوناته بالمدينة، والصحراء، والمدن العشوائية، والأرياف، والبحار، والطبيعة... وفي تصويره لهذه الفضاءات وفاء لذاكرته البصرية التي خزنت مختلف المناظر، والمشاهد، والحالات، والوضعيات ، التي جعلت من الصور الفضائية روحًا تتحرك في دواخل الطفل/ القارئ، كما لو أنه هو من عاش فيها، أو سافر إليها، ويصبح الفضاء بذلك فضاءه، حميميًّا كان أو عامًّا، وليس فضاء المبدع. ويُحسَب ذلك للكاتب نظرًا لبراعته في تصوير الفضاءات والأمكنة بحس يلامس الوجدان برقة مرهفة، ويقارب المخيلة بعمق شديد؛
3. الراوي/ الحافظ: يتشكل عتاد وزاد المبدع يعقوب الشاروني- في إبداعاته القصصية والروائية والحكائية- من مخلفات الذاكرة الجماعية، وما عرفه التراث العربي والإنساني من حكايات وأساطير ، جاءت على لسان رواة افتراضيين ومجهولين، أو وردت على لسان الجدات وهن يشاغلن بها أطفالهن. فاستهوت الذاكرة الذهنية، وما خزنته من مرويات بطبقاتها المختلفة: الواقعية، أو التخيلية، أو الخيالية، مخيلة الطفل وأمتعته، بل عززت فيه قيم الأجداد، وما عرفوه من بطولات، ومكارم الأخلاق، وحمسته على أن يقتفي أثرهم ليكون طفل اليوم رجل الغد؛
4. الكاتب/ الناقد: لم يكتف المبدع يعقوب الشاروني بكتابة النصوص الإبداعية للطفل ، بل أسهم وأسهب، بشكل مستفيض، النظر بعين نافذة لأدب الطفل بهدف تقويم ما قد يصيبه من هنات أو زلات، غيرت منه - باعتباره مبدعًا وأكاديميًّا- على جودة الإبداع الطفلي، وحرصه الشديد على تطويره ، لكي يعيد للقراءة كينونتها العظمى التي بها تزدهر الأمم، وتتقوى معرفة، وعلمًا، وقيمة، وتربية. لذلك نجده في كثير من الأحيان، يؤكد على جودة كتاب الطفل، وضرورة الاهتمام بشكله ومضمونه، كما يصر على الدفاع دفاعًا مستميتًا على رصانة اللغة العربية أمام اكتساح اللغة الإنجليزية في زمن التكنولوجيا والعولمة؛
5. الكاتب/ المترجم: مثلت الترجمة رافدًا آخر من روافد السجل المعرفي لدى الكاتب يعقوب الشاروني، واستطاع من خلالها أن ينقل لنا تجربة الآخر/ الغربي، في مجالي الإبداع الطفلي، وثقافة الطفل, وحتمًا ستزيد الترجمة من قوة الإبداع العربي الموجه للطفل، وستغني المخيال السردي بما يسمح بانفتاح عوالم المحكي السردي العربي القديم والحديث على تقنيات الكتابة الجديدة، بصريًّا ولغويًّا ومضمونًا، ويتحقق بذلك الرهان الذي ينشده المبدع، والمتمثل في إعطاء الطفل دورًا أكثر إيجابية في التعامل مع الكتاب، والقدرة على قراءته بحواسه الخمس.
6. الكاتب/ وصندوق العجب: يمثل الحاسوب والشبكة العنكبوتية فضاءين يرتادهما طفل هذا الزمان، يستعملهما دون استئذان، بمجرد تعاقد افتراضي بينه وبين الفأرة التي تمكنه من التجوال داخل صندوق يعج بالغرائب، والأيقونات، والصور، والحركات، والإيقاعات, ولم يفت المبدع يعقوب الشاروني الإشارة إلى أهمية استخدام الإنترنت والعوالم الافتراضية بما يخدم ثقافة الطفل وقيمه. لذلك نجده يدعو إلى إغناء الخزانة الإلكترونية العربية بموسوعات، وكتب، ودوائر المعارف للارتقاء بالمحتوى الإلكتروني من جهة، وخلق تفاعلية بين الطفل وما يتصفحه عبر الشاشة، مستعينًا بمختلف الوسائط الرقمية التي تنمي فيه الرغبة في القراءة، ومتابعة تلقي كل ما يهمه من إبداعات، من تلقاء نفسه، دون وساطة أو وصاية عالم الكبار من جهة أخرى.
تدعونا شخصية الكاتب/ المتعدد يعقوب الشاروني- بعد هذه الجولة الخاطفة في مساره الإبداعي، والتي سمحت لنا بها قبعته الساحرة- إلى رفع قبعاتنا إجلالاً وتقديرًا لهذا الجهد الذي بذله المبدع، في سعيه الدؤوب وراء ترسيخ ثقافة الاهتمام بأدب الطفل داخل الوطن العربي وخارجه، وتشهد على ذلك الجوائز والتكريمات التي حفل بها، بكونه رمزًا اعتباريًّا من رموز الكتابة الغيورة على أدب الطفل، إذ يرمي إلى مؤسسة ثقافة الطفل، وتحويلها من مجهود فردي إلى فكر جماعي، تسهم فيه مراكز الأبحاث والدراسات، وتشارك فيه الجامعات والهيئات والمؤسسات التعليمية والتربوية.
ونحن نتحدث عن يعقوب الشاروني فإننا نتحدث عن مؤسسة قائمة الذات، تمشي على الأرض، وتنشر بذرات ستثمر حتمًا أزهار اللوز الحلو، يقطفها كل متذوق لأدب الطفل الرفيع والبديع.