القاهرة 12 فبراير 2019 الساعة 12:41 م
عاطف محمد عبد المجيد
في مقدمتها لترجمتها لكتاب " الإنسان بلا محتوى..أشهر كتاب في الجماليات " لمؤلفه جورجيو أغامبين، تقول المترجمة أماني أبو رحمة إن عنوان هذا الكتاب يطرح عدة أسئلة منها: من هو الإنسان وأين ذهب محتواه؟ وهل يرغب في استعادته؟ أبو رحمة ترى، رغم أن العنوان يبدو غامضًا، أن موضوعه ليس كذلك، إذ يحقق هذا الكتاب في طبيعة الفن ووظيفته تحقيقًا غير محايد، ولا يتورط خلاله في التحقيق الجمالي لأجل التحقيق الجمالي، كما أنه لم يُكتب من منظور متعالٍ عن تاريخ الأفكار، بل يتجاوب مع ما يراه مؤلفه الحالة المرعبة للفنون المعاصرة. كذلك تذكر المترجمة أن أن أغامبين يرى أن طبيعة الفن وعمله في ثقافتنا المعاصرة قد تشوش، وقد أصبح الفن كوكبًا لا نرى منه إلا جانبه المظلم، ومع خفوت نور الدور اللامع الذي لعبه الفن في العصور المبكرة، يرى المؤلف أن هدفه هو فهْم كيف ولماذا غرُب عنا وجه الفن المشرق، وما الذي يتوجب علينا فعله كي نستعيد إشراقاته على عالمنا المعاصر.
غياب
هنا يدعونا أغامبين إلى تفكيك لابد له أن يجتاز ما يرى أنه المساحات الشاسعة المقفرة للاختصاص الشكلي لعلم الجمال / الجماليات.إضافة إلى هذا تكمل المترجمة قائلة إن الفن لم يعد يلعب دورًا أساسيًّا في ثقافتنا، فخسارته لمنزلته الأصلية ومعناه الأصيل، أصبحت، كما يقول المؤلف، مقبولة جدًّا في أيامنا وفي عصرنا حتى أنها لم تعد تلفت انتباه أحد.المؤلف يسعى هنا إلى إزالة الغشاوة التي غطت على رؤيتنا فلم نعد نرى في دروب حياتنا الفن سامقًا متعاليّا رفيعًا حيث منزلته التي تليق به، بل اعتدنا على غيابه. كما تتساءل المترجمة لماذا يريد أغامبين تفكيك الجماليات؟ وتجيب لاستعادة الإحساس بالمكانة البيئية الأصلية للفن، ورغبة منه في إعادة الفن إلى منزلته الأصلية بوصفه الشكل الحقيقي للأفعال والمعتقدات.أما الإنسان الـ " بلا محتوى " الذي جعله أغامبين عنوانًا لكتابه فهو الفنان نفسه.ومن وجهة نظره أن أحد الأسباب التي جعلت أصل العمل الفني عصيًّا على الفهم هو الأصالة ذاتها، أو على الأقل ما يوصف عادةً بها.كذلك يرى أن المنزلة الشعرية للإنسان قد اختفت، لكن ما هذه المنزلة؟ وكيف يمكننا أن نستعيدها؟ وهل علينا أن نصبح جميعًا شعراء؟ المؤلف يرى أيضًا، مثلما يرى بنيامين وآرنت، أن الإنسان محصور بين ماضٍ وحاضر، والعثور على نقاط مرجعية أمر بالغ الضرورة، والمشكلة التي يعرضها العمل الفني ليست ببساطة مشكلة وسط مشكلات أخرى تعاني منها ثقافتنا لأن " العمل الفني هو ما يضمن البقاء الوهمي للثقافة الغربية المتراكمة.أغامبين ينقل هنا ما قاله أنتونين آرتو، واصفًا بؤس الثقافة الغربية، من أنها فكرتنا عن الفن التي تسببت لنا في فقد الثقافة..هناك ثقافة حقيقية تعارض بعنف أنانية وغموض فكرتنا الخاملة والخالية من المصلحة عن الفن، ما يعني أن فكرة أن الفن ليس خبرة بلا مصلحة مألوفة تمامًا في عصور أخرى.
الذوق الجمالي
هنا يطرح المؤلف سؤالًا على قدر كبير من الأهمية وهو كيف يمكن للفن، أكثر المهن براءة، أن يجعل الإنسان في منافسة مع الإرهاب؟ ويجيب بأن الإرهابي هو عديم الثقة وكاره العقل والمنطق الذي لا يدرك في قطرة الماء التي تبقى على أطراف أنامله، البحر الذي يعتقد أنه يغمر نفسه فيه.مضيفًا أن الأغريق يرون أن عمل الفن يحظر شيئًا وينقل شيئًا آخر خلاف المادة التي تحتويه.ومتحدثًا عن دور الذواق في الفن يقول أغامبين مثل الفنان تمامًا فإن للذواق ظله، وربما هذا الظل هو ما علينا استجوابه الآن إذا أردنا الاقتراب من غموضه.ومعرّفًا الذواق السيء يقول إنه ليس مجرد الشخص الذي يفتقر تمامًا إلى العضو الضروري لاستقبال الفن، بل هو الأعمى عنه أو الذي يزدريه، مثلما رأى لابرويير.أغامبين يرى أن الأدب الترفيهي عاد مرة أخرى إلى ما كان عليه، بمعنى أنه ظاهرة تلامس أعلى طبقات الثقافة قبل المتوسطة والدنيا. المؤلف يقول كذلك إن فحص الذوق الجمالي يؤدي إلى أن نسأل هل هناك صلة من نوع ما بين مصير الفن وصعود تلك العدمية التي، وفقًا لصياغة هايدجر، ليست بأي حال من الأحوال حركة تاريخية كأي حركة أخرى، ولكن تلك التي " بالتفكير في جوهرها،...هي الحركة الأساس لتاريخ الغرب ". كذلك يرى المؤلف أننا الآن وفي تناقض مع الزمن الذي كان الفنان فيه مدينًا لقوميته وعصره يقف مع جوهر وجوده ضمن منظور عالمي محدد ومحتواه وأشكال رسمه أو تصويره، نجد وجهة نظر معارضة تمامًا تتطور وتكتسب أهميتها.هنا أيضًا يؤكد أغامبين أن الفن هو المساحة المشتركة التي يجتمع فيها جميع البشر، فنانون وغير فنانين، معًا في وحدة معيشية واحدة.لكن بمجرد أن تبدأ الذاتية الإبداعية للفنان في وضع نفسها فوق مواده وإنتاجه، تذوب هذه المساحة الملموسة المشتركة للعمل الفني.أما السؤالان اللذان يجب أن يجيب عنهما تأمّلُنا للفن هما: ما الأساس للحكم الجمالي؟ وما أساس الذاتية الفنية دون محتوى؟
كاتب موسوعي
وعودة إلى الفنان مرة أخرى، يقول أغامبين إذا كان الفنان ينشد الآن يقينه في محتوى معين أو إيمان، فإنه يكذب، لأنه يعرف أن الذاتية الفنية الخالصة هي جوهر كل شيء، ولكن إذا كان ينشد حقيقته في ذاتية فنية خالصة، فسيجد نفسه في حالة متناقضة من الحاجة إلى العثور على جوهره في غير الأساسي، ومحتواه في ما هو مجرد شكل.حالته إذن هي الانقسام الراديكالي، وخارج هذا الانقسام كل شيء هو كذبة.وبعد هذه الجولة في عالم الفن والفنانين وفائدة وضرورة الفن على الأرض، من خلال كتاب يكشف محتواه عن كاتب موسوعي واسع الاطلاع غزير المعرفة مرتب الأفكار ورشيق الكلمة، يصل جورجيو أغامبين إلى رؤية أن الفن هو المهمة الأعلى والنشاط الميتافيزيقي الحقيقي للإنسان، وهو القوة المضادة الوحيدة المتفوقة على كل إرادة لإبادة الحياة.