القاهرة 12 فبراير 2019 الساعة 12:27 م
محمود الحلواني
ارتبط الإبداع الأدبي - في شتى عصوره- ارتباطا وثيقا، بكل ما يطرأ على الوسيط التقني، أو القناة التى يمر من خلالها، من تحول و تطور. وهو ما يمكن أن نتبينه إذا قارنا بين الشعر الشفاهى وتقاليده التي توصلت إليها ورصدتها النظرية الشفاهية، وبين الشعر بعدما انفصل عن تلك التقاليد وأصبح فنا كتابيا منتبها إلى كونه كذلك، مع مضى الإنسان قدما فى طريق حضارة الكتابة، وبينهما وبين الشعر الأحدث الذي أفاد من عصر الصناعة ابتداء من اختراع المطبعة حتى ظهور الحاسوب. ولعل ما توصلت إليه النظرية الشفاهية كما صاغها كل من الأمريكي "ميلمان بارى (1902 - 1934 ) ورفيقه ألبرت لورد، يمكنه أن يضع أمامنا بعضا من الفروق التي تكشف عن اتساع الهوة بين طبيعة الشعر فى كل عصر من عصور الشعر المختلفة.
في بحثهما في أشعار حضارة ما قبل الكتابة وأدبها، خاصة ملحمتي هوميروس: الإلياذة والأوديسة، توصل واضعا النظرية الشفاهية إلى عدة نتائج مهمة، ووقفا على سمات بارزة تميز كل عمل شفاهى أصيل، منها أنه يقوم على الحفظ، ومن ثم تهيمن الذاكرة على صناعته، وأنه لتحقيق ذلك يقوم على تكرار الصيغ الوزنية، وتداولها ما بين نص شعرى وآخر، حيث يقوم الشاعر باستدعاء هذه الصيغ الوزنية الجاهزة ، ليعيد توظيفها فى نصه، كلما استدعى الوزن ذلك. فكان مصدر الاختلاف بين شاعر وآخر، ومناط تميزه يكمن في قدرة هذا الشاعر أو ذاك على حفظ تراثه من الصيغ، وكذلك قدرته على تحوير هذه الصيغ الوزنية المستدعاة من الذاكرة الشعرية، وإعادة توظيفها بمهارة فى نصه. الأمر الذي جعل لفعل الوزن تأثيره على التعبير، و أنتج معجما قائما على الصيغ المتشابهة التي سهلت مهمة الحفظ والاستدعاء. كذلك رصدت النظرية وجود سمة أخرى تميز الشعر الشفاهى وهى إعادة تدوير الثيمات فيما بين النصوص بعضها البعض. كما توصلت إلى عدد من السمات التى تميز التعبير الشفاهى عن الخصائص المميزة للأساليب الكتابية مثل : عطف الجمل بدلا من تداخلها ، التجميع فى مقابل التحليل، الإطناب، المحافظة، القرب من الحياة الإنسانية، الميل إلى المشاركة الوجدانية فى مقابل الحياد الموضوعي ( كتاب الشفاهية والكتابية ــ والتر ج .. أونج ــ ت حسن البنا عز الدين ـ سلسلة عالم المعرفة ـ الكويت ـ عدد 182 ) وهى السمات التي تجاوزها الشعر فى طوره الكتابي ، استجابة لهذا الوسيط المختلف وهو" الكتابة " فلم يعد الشعر يخاطب الأذن، كما لم يعد يعتبر نفسه وكيلا عن الجماعة فى التعبير عن نفسها، وبالتالي لم تعد تعنيه المشاركة الوجدانية لجماعته. الأمر الذى حرره من سطوة ذاكرتها المحفوظة، وفتح المجال أمامه ليبدع ذاكرته الجديدة المنفتحة بلا قيود، فراح يعتمد أكثر على إنتاج علاقات جديدة فى اللغة، لا تتحول بدورها إلى صيغ جاهزة، وذلك انطلاقا من وعى الشاعر بفرديته، وضرورة أن يقدم رؤيته الخاصة للعالم، عبر مغامرته هو، وعبر ذاكرته هو التى أصبحت تتسع لكل إبداع إنساني. وقد ساعد هذا فى خروج النص الشعري عن نظام البناء بالصيغ وانفتاحه على عدد من الثورات الشعرية، التي تفجرت تباعا خلال مالا يزيد عن قرنين من الزمان، من كلاسيكية إلى رومانسية، متعددة المدارس، إلى رمزية، وسريالية، الخ. وخلال هذه المسيرة تخلص الشعر من الكثير من حمولاته التى كانت لصيقة به والتي لم يكن أحد يتصور أن الشعر يمكنه أن يكون نفسه بدونها ، مثل الوزن الموسيقى و اللغة المجازية الكثيفة التى طالما شكلت عصب الصورة الشعرية، وهو ما أحدثته قصيدة النثر بتخليها عن الوزن، وبلغتها التي تحاول أن تقترب من لغة الحياة اليومية، وفق وصفة "التعبير عن اليومي والمعيش" بعدما أعلنت ما بعد الحداثة عن سقوط الأيديولوجيات الكبرى، وعن وهم "العمق" وراحت تبشر بالأسطح المفلطحة التى لا تحتها ولا فوقها شيء، فقط "هنا والآن" ! ثم مع تسارع وتيرة التقدم التكنولوجي، وظهور وسائل الإعلام الجماهيرية بدأ شعر الأغنية فى احتلال مكانة مهمة من مساحة التلقي، واتجه كثير من الشعراء إلى كتابة الأغنية البسيطة، لما تحققه من جماهيرية وشهرة. وحاول الشعر المكتوب ملاحقة عصر الصورة المرئية وإلحاحه، فاتجه للاستفادة من تقنيات السينما وحاولت القصيدة الاستفادة من تقنيات السرد المشهدى، واستخدام تقنية المونتاج فى بناء عالمها البديل، كما حاولت الاستفادة من الفن التشكيلي فى تشكيل وجودها سواء على الصفحة المطبوعة أو على شاشة الحاسوب، وقد أضاف الأخير فرصة هائلة لعرض واستعادة الشعر، و أضاف إمكانات واسعة ليكتب الجميع و يقرأون دون واسطة، ودون قيود. الأمر الذي دفع كثيرين إلى كتابة شعر بلغة لا تهتم كثيرا بالصحة النحوية، ولا بالهموم التى تعانيها القصيدة الشعرية على مستوى الصياغة و السعي لتحقيق الخصوصية، ويكاد يقترب من الخواطر السريعة التي يلتف حولها جمهور عريض، متعجل، من هواة الأدب على الشبكة العنكبوتية. كذلك أتاح الحاسوب فرصا هائلة للحصول على المعلومات والاستفادة من الوسائط المتعددة التى يتيحها، مكنت كثيرين من تطوير أدواتهم وإنجاز نصوص تفاعلية، تحتوى على الصورة والصوت واللغة، وهو ما لم يستقر بعد فى ثقافتنا، ولم يشكل تيارا يمكن الإشارة إليه.
ومع ذلك فلا يزال الشعر عصيا على الانخلاع من ميراثه الطويل، ويمكن للمتابع أن يعثر على عصور الشعر كافة فى أمسية شعرية واحدة، بل يمكنه أن يعثر على تقاليد شفاهية، في أحدث ما ينتج من أشعار، خاصة وأن وسائل الاتصال الحديثة لا تخلو من شفاهية، وإن كانت ثانوية، وليست أصيلة