القاهرة 07 فبراير 2019 الساعة 01:24 ص
أكرم مصطفى
صدر العدد الجديد (52) من مجلة "ذوات"، الثقافية العربية الإلكترونية الشهرية، الصادرة عن مؤسسة "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث" والتي ترأس تحريرها الكاتبة والصحفية المغربية سعيدة شريف. وقد فتحت ملف "الكتابة والاغتراب.. هويات متصدعة"، من زوايا مختلفة، بغاية الاقتراب منه، وتفكيك بعض إشكالاته الفكرية والأدبية من خلال تحليل نصوص ومنجزات أدبية ذات صلة، فجاء الملف، الذي أعده الكاتب والناقد المغربي إبراهيم الحجري، متضمنا لتقديم عام للباحث نفسه يحمل عنوان: "الرواية المهجرية والهويات العربية المتصدعة"، وثلاث مقاربات: مقاربة فكرية للباحث العراقي، الدكتور ناظم عودة بعنوان: "الكتابة والهجرة: مقدمة أنثروبولوجية"، ومقاربة ثقافية، للباحث المغربي الدكتور عبد الفتاح الفاقيد بعنوان: "الأنا في مرآة الآخر: ثنائية القبول/ والرفض"، ومقاربة سيكولوجية للباحثة المصرية والدكتورة سهير المصادفة، بعنوان: "الكتابة والمنفى: منفية من جنسي... منفية إلى جنة الكتابة"، تستعرض فيها تجربتها النفسية المعقدة إبان إقامتها في روسيا، باعتبارها امرأة كاتبة، نشأت في مجتمع مصري محافظ. أما حوار الملف، فقد اخترنا فيه الاقتراب من عوالم الروائية السورية الكردية مها حسن، التي رافقتها إشكالية المنفى بمعنييها المجازي والحقيقي منذ طفولتها الأولى، حيث رضعت حليب جدة منفية تهرب من مضايق العنصرية، كما عاشت تجربة المهجر منذ عقد وما يزيد، لنكتشف معها أحاسيس الكاتب العربي البعيد عن وطنه، وأرض ذكرياته، وتربة تشكله، ونرصد معها صور تمثلها لتجارب المهجر المعيشة داخل وطنها الثاني "فرنسا"، وأثر هاته التجربة على حياتها، وعلى منجزها الروائي والأدبي عموما.
يشكل موضوع "الاغتراب" أو "المنفى" أحد أهم مؤرقات الإنسان وقضاياه المقلقة في العصر الحديث، لأنه على الرغم من تحول العالم إلى قرية صغيرة بفضل مكتسبات التكنولوجيا المتطورة، فإن الفرد فيه ما زال يجد صعوبات في التنقل الحر في الجغرافيات الممكنة، خاصة مع تفاقم الهوة بين الشمال والجنوب، وسيادة الفكر المتطرف، وانتشار الحروب والصراعات الطائفية التي أدت بالإنسان إلى الهجرة واللجوء إلى أوطان أخرى، بحثا عن الأمان والسلم والعيش الكريم، وهو ما أدى أيضا إلى تنامي الإحساس المفرط بالعبثية في ظل هيمنة المادية الفاحشة، وانتصاب مشكل الهوية بوعي مفارق.
إذا كان اغتراب الإنسان العادي وهجرته خارج وطنه الأصلي شيء صعب لا يمكن تحمله، فإن اغتراب المبدع عموما، وخاصة الكاتب، لا يشبه اغتراب أو هجرة أي شخص عادي لا علاقة له بالإبداع، لأن هذا الاغتراب يكون مضاعفا، فالكتابات المتولدة في بلد الغربة غالبا ما يغديها الحنين إلى الوطن، والبحث عن الهوية من جديد، خاصة وأن صاحب تلك الكتابات غالبا ما يظل فكره معلقا بين ذاكرة حبلى بمشاهد من تربة الوطن الأصلي، المنغمسة في الكيان والوجدان، وبين جسد مرهون بتضاريس أخرى، ولغة وطبيعة وثقافة مختلفة.
وبالنظر إلى العديد من النصوص العربية والعالمية، التي كتبها مبدعون اغتربوا عن بلادهم، واتخذوا بلدانا أخرى أوطانا بديلة لهم، مثل التشيكي ميلان كونديرا، واللبناني أمين معلوف، والكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز في جزء من حياته، حين عاش مراسلا صحفيا في أوروبا، والسوداني الطيب صالح، والسوري حنا مينة، والسعودي عبد الرحمن منيف، والليبي إبراهيم الكوني، نجد أنها إبداعات زخرت بمأثورات من الكتابات المغتربة التي تعتمد على الذاكرة والحنين، والتي لا تقل عنها أهمية، كتابات المغتربين من الكتاب السوريين، واليمنيين، والعراقيين...إلخ، الذين اضطروا في السنوات الأخيرة إلى الاغتراب قصرا أو طوعا، فجاءت نصوصهم حبلى بأسئلة الهوية الملتبسة، وبالذات العربية المتصدعة، ومواضيع الأقليات في المجتمعات العربية المسلمة، ووضعية المهاجرين العرب.
"ليس المنفى بقعة غريبة فحسب؛ إنما هو مكان يتعذّر فيه الانتماء"، بهذه العبارة افتتح الناقد العراقي عبد الله إبراهيم الكتاب الجماعي "بيان المنفى" الذي أشرف على تحريره، وساهم فيه عدد من المثقفين والمفكرين والمبدعين العرب أمثال: أدونيس، واسيني الأعرج، إبراهيم الكوني، سيف الرحبي، كمال أبو ديب، فريال غزول، فيصل دراج، أحمد يوسف، نبيل سليمان، فخري صالح، محمد لطفي اليوسفي، وهي العبارة التي تدل على القلق الهوياتي القاهر، الذي طبع هذا النوع من "كتابة المنفى"، والتي تستمد مادتها من الاغتراب والنفور، وتراوح بين هويتين متباينتين، لتعطينا كتابة كاشفة تقوم على فرضية تفكيك الهوية الواحدة مقترحة هوية رمادية مركبة من عناصر كثيرة.
"كتابة المنفى" كتابة عابرة للحدود الثقافية والجغرافية والتاريخية والدينية، كتابة صارخة، مثقلة بالتفاصيل والأسئلة القلقة، كتابة تعبر عن التحدي، والتمرد، والنقد الذاتي، والموضوعي في آن، كتابة تستثمر عامل الحرية لإدراك العلاقة المعقّدة مع الغرب، وإعادة قراءة كل الملفات والموضوعات التي لم يكن تناولها، أو كشف خباياها- سابقاً- أمرا ممكنا لأصحابها، ولهذا كله، أصبحت هذه النوعية من الكتابات مثار اهتمام علوم عديدة منها: النقد الثقافيّ، الأنثروبولوجيا، السياسة، السوسيولوجيا، التاريخ، والاقتصاد.
أي دور تلعبه الكتابة، على اختلاف تجلياتها، في تجسير الصلة بين وطنين مختلفين؟ وهل يمكن اعتبار الكتابة نشاطا تعويضيا، بمعنى ما، لهذا الحرمان من الوطن؟ وهل ما زال مفهوم "المنفى" مفهوما إجرائيا ملائما في عصر انمحت فيه الحدود بين الجغرافيات، حتى أننا بتنا نتحدث عن الهوية الكوكبية بدل الهوية الوطنية!؟ وإذا كان الأمر كذلك؛ فكيف تصور المنجزات الكتابية في "المنفى" الوطن المستقبل وثقافته!؟ وكيف نفسر الاختلاف على مستوى التمثيلات بين كاتب اختار "منفاه" وكاتب فرض عليه هذا الوضع!؟ وما انعكاس هذا الوضع على جغرافيا الأحاسيس وتصادمها أو اتفاقها في كون يتقزم تدريجيا أمام هيمنة التكنولوجيا المعلوماتية والفكر الاقتصادي العولمي؟
وبالإضافة إلى الملف، يتضمن العدد (52) من مجلة "ذوات" أبوابا أخرى، منها باب "رأي ذوات"، ويضم ثلاثة مقالات: "المرأة بين التّغريب والاغتراب" للشاعرة السورية فرات إسبر المقيمة بنيوزيلاندة، و"المُرُوءَة بوصفها تواصلاً اجتماعياً.. رؤية بمدارات مختـــــلفة..!!" للباحث التربوي المصري أيمن عبد السميع حسن حسين، و"التطرف الديني والتطرف الفكري" للباحث المغربي نورالدين عزار؛ ويشتمل باب "ثقافة وفنون" على مقالين: الأول للأكاديمي اليمني محمد مرشد محمد الكميم بعنوان "القارب والمجذاف: موجهات المشروع النقدي في كتابات الناقد المغربي "أحمد بو حسن""، والثاني للشاعر والناقد الفني المغربي بوجمعة العوفي بعنوان "الإكفراسيس الشعرية: مُجَاورة الشعر للتشكيل".
ويقدم باب "حوار ذوات" حوارا مع الكاتب والمترجم العراقي فلاح رحيم حول كتابه الأحدث الموسوم بـ "أزمة التنوير العراقي: دراسةٌ في الفجوة بين المثقفين والمجتمع" الصادر هذا العام 2018 عن جامعة الكوفة في العراق. الحوار من إنجاز الكاتب والباحث العراقي محمّد فاضل المشلب. أما "بورتريه ذوات" لهذا العدد، فهو عن عالم الآثار سام عثماناجيتش، مكتشف أهرامات البوسنة ورائد المراجعات العلمية. البورتريه من إنجاز الصحفية والمدونة رنا علاونة من الأردن.
وفي باب "سؤال ذوات"، يستقرئ الإعلامي المغربي نزار الفراوي آراء مجموعة من الناشرين والكتاب حول صناعة الكتاب العربي، إكراهاتها، وتحدياتها، وأعطاب السوق، وفي "باب تربية وتعليم" يتناول الباحث والكاتب المصري محمود كيشانه موضوع "التعليم والتفكير النقدي"، فيما يقدم الجامعي والناقد التونسي الدكتور محمّد الكحلاوي قراءة في كتاب "تاريخ التكفير في تونس" لشكري المبخوت، وذلك في باب كتب، والذي يتضمن أيضاً تقديماً لبعض الإصدارات الجديدة لمؤسسة "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث"، إضافة إلى لغة الأرقام، التي تسلط الضوء على أحدث تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة، التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، حول الدخل الفردي من الناتج المحلي بالعالم، والذي تصدرته دولة قطر بدخل وصل بها لـ 98,814 دولار.