القاهرة 29 يناير 2019 الساعة 08:43 ص
كتب: محمد زين العابدين
* الصاوي قبل رحيله: الإبداع الجيد يفرض نفسه في النهاية، وإن لم يعرف صاحبه في حياته فقد يكتب عنه الناس بعد مماته
* أشرف أبو جليل يسلم درع هيئة قصور الثقافة لأسرة المبدع الراحل ودرع آخر من أدباء بني سويف سلمه د.أحمد تمام
في أمسية للمحبة والوفاء؛ طغى دفء المشاعر الفياضة فيها على برودة الشتاء، احتضن مسرح قصر ثقافة بني سويف ندوة تأبين ووفاء لروح الشاعر والناقد والمثقف العضوي الراحل خالد محمد الصاوي رحمه الله، والذي اختطفه الموت بعد رحلة كفاح تحمل فيها آلام المرض اللعين بجسارة، ولطالما كان يواجهه بسلاح النشاط الأدبي والثقافي المتوهج، والالتحام مع قضايا الوطن، والمساهمة في تشجيع المواهب الأدبية ببلده بني سويف، وفي أقاليم مصر عموماً، فقد كان مؤمنا بضرورة الاهتمام بنشر الوعى الأدبي والثقافي والسياسي بين الشباب، وكان محباً للأدباء الشبان، معطاءاً لأصدقائه، متجرداً من الأنانية والنرجسية التي تستشري كالمرض اللعين في الوسط الثقافي،وكان يتماهى مع النصوص التي يكتب عنها، فيكتب عنها بحب، خاصة وأنه شاعر في الأصل، وقد أسهم في إثراء الحركة الثقافية والنقدية في السنوات الأخيرة بكتبه ومقالاته التي ستبقى بعد رحيله بإذن الله شاهداً على عطائه الغزير والنبيل.
الشاعر أسامة بدر الذي أدار الأمسية وقدمها تحدث في بدايتها قائلاً: "لقد علمنا خالد الصاوي أن نحب ونسامح، واحتضن أحلامنا، وهكذا جمعنا دائماً وهو يلعب معنا لعبة الحياة والموت، وحينما تقصر العبارة عن وصف رمز متجسد للمحبة والجمال، لا تسعفنا الكلمات، ولكن سنحاول أن نعبر عن بعض محبتنا له, لقد جمعنا وهو على قيد الحياة، كما جمعنا بعد أن فارقنا، ولكنه في الحقيقة لم يفارقنا".
ارتباطه ببني سويف والسويس:
عرض فيلم تسجيلي، عبارة عن لقاء تليفزيوني مسجل ببرنامج "حكايتي مع المكان"، وكان يتحدث فيه الصاوي رحمه الله عن نشأته وارتباطه بالأماكن ومسيرته الأدبية، واستعرض الفيلم الأماكن المرتبطة به، وهى مدينة بني سويف، المدينة الهادئة الوادعة الجميلة بصعيد مصر، والتي نشأ وعاش فيها ووهبها جهده وعطاءه ونسج فيها أحلامه، وقرية الحلبية، القرية الصغيرة المتاخمة لمدينة بني سويف، كما ألقى الفيلم الضوء على مدينة السويس الباسلة -مقرعمل والده- والتي كان يذهب إليها مع والده، وقال الصاوي: "المكان ليس مجرد حيز مكاني أو موقع جغرافي، ولكنه يمثل التشكيل الوجداني للإنسان، خصوصاً بالنسبة للمبدعين، وقد ارتبطت مع أصدقائي بمدينة بني سويف، والتي كلما ارتحلنا عنها نجد أنفسنا مشدودين للعودة لها سريعاً، رغم أنها قد تكون من المدن المهمشة اقتصادياً، كما ارتبطت بقرية الحلبية؛ بحقولها التي كنا نذهب إليها مع جدنا، كما نرافقه في الاحتفالات الشعبية الريفية التقليدية بالمولد النبوي الشريف، وهى الاحتفالات التي كان للطرق الصوفية حضوراً كبيراً فيها، وكل هذه المؤثرات في نشأتي ونشأة أى مبدع لا بد وأنها تمثل مخزوناً خصباً يستمد منه ويخرج بشكل غير مباشر في لحظات التوهج الإبداعي.
وقد عشت فترة من بواكير حياتي بمدينة السويس الباسلة بحكم عمل والدي هناك بإحدى شركات القطاع العام، مما جعلني أجمع بين الأصالة والحداثة، وقد تركت مدينة السويس بصمتها أيضاً في وجداني، وكنت أشعر بمشاعر الإنكسار عقب نكسة 67 وقبل نصر أكتوبر العظيم في 1973، وعاصرت مشاعر الغضب والرغبة في الثأر لدى الجماهير، وقد سافرت مع والدي إلى السويس في إحدى الإجازات الصيفية عقب النصر، وتحديداً في عام 1975 عقب عودته لعمله هناك، ولا أستطيع أن أصف شعوري وقتها بزهو الانتصار ورغبتي في تقبيل أرض السويس، ومن شدة فرحتي التقطت حجراً من على ضفة القناة، واصطحبته معي عند عودتي لبني سويف، وظللت محتفظاً به كتذكار عزيز".
حكى الصاوي أيضاً عن ارتباطه بالتردد على مسجد السيدة حورية ببني سويف، وهى حفيدة سيدنا الحسين عليه السلام، كما حكى عن ارتباطه بالمزارات الأثرية المسيحية ببني سويف مثل دير العذراء مريم الذي احتضن العائلة المقدسة أثناء رحلتها بمصر، وكيف أن هذا المكان له طبيعة خاصة في وجدانه أيضاً، وكيف وجد تشابهاً في الاحتفالات الدينية بين المسلمين والمسيحيين.
مؤلفاته والتحامه بالحياة الثقافية:
حكى الصاوي عن مرحلة الجامعة، ودراسته بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، وكيف كان ينهل من رحيق الحياة الثقافية بالعاصمة متنقلاً بين الندوات الثقافية بالجامعة، وخارجها، وهو ما ساهم بقوة في تشكيل وعيه، وعن ارتباطه ببني سويف برغم أضواء العاصمة قال: "لم أشأ أبداً أن أترك بني سويف، ولن أتركها بالرغم من أن الإقليمية تظلمنا كثيراً لإيماني بأن الإبداع الجيد المبني على أساس قوي من الثقافة والوعى لا بد وأن يفرض نفسه في النهاية، وإن لم يعرف صاحبه في حياته فقد يكتب عنه الناس بعد مماته، وبفضل الله تمكنت في العشر سنوات الأخيرة من لفت الأنظار كناقد أدبي تطبيقي، وكباحث في التراث العربي والإسلامي، وقد أصدرت أول كتاب لي بعنوان "حول الإسلام والتأسلم ومشروعنا النهضوي" عام 2008، وفي هذا الكتاب قدمت استشرافاً لما ستفعله جماعات التأسلم السياسي بعد ما عايشناه من أحداث العنف التي وقعت خلال فترة الدراسة الجامعية، ومن يقرأ الكتاب ويتأمل ما حدث خلال ثورة 25 يناير وما تلاها سيتأكد أن كتابي كان يتنبأ بما سيحدث بالفعل، ثم أصدرت كتاباً في النقد الأدبي نال الجائزة الأولى على مستوى إصدارات هيئة قصور الثقافة في مجال النقد التطبيقي، ولي كتاب نقدي آخر تحت الطبع، وكان قد صدر للصاوي أيضاً قبل رحيله كتاب آخر يستكمل فيه تحليله لصعود ظاهرة التأسلم السياسي بعنوان "وجوهٌ ملائكية وأفعالٌ شيطانية".
الصاوي في عيون الأدباء:
تحدث الشاعر إبراهيم جمال الدين عن علاقته بخالد الصاوي شعراً فقال:
(مش كل ولاد العمة لمة..
ولا كل حكاوي ولاد الخال تتقال
أنا حظي كده
فارق باربع سنين..
فيبقى أول ما تتفتح عليه العين
أول بسمة صحاب..
وأول حد بيسبق حلم
يرسم خطوتي اللي لسه ما خطتهاش
أربع سنين يفرقوا في العمر..
يتسببوا في إنك بإيدك زمام الأمر
سابق بخطوة..
نلعب تختار اللعبة
وتشاور بإيدك من أول السطر..
واركب معاك لأول مرة البحر
عيل في مركب صغير في وسط النيل
عيل صغير تحدفه في جزيرة أو ترزعه في مولد العدرا
وسط زحمة الناس..
وتديله إيدك أمان للتوبة).
أما الشاعر والناقد عطية معبد فقال:"في محبة خالد الصاوي لست ممن يعتقدون أنه مات، فقط نحن نقول أنه انتقل من مرحلة لمرحلة أخرى، فأمثاله لا يصدق المرء أبداً أنهم يموتون"، وحكى عن واقعة حدثت له مع الصاوي تؤكد إنسانيته وحنوه على أصدقائه حين كان في منزله ضمن سهرة ضمت مجموعة من الأصدقاء، وكانت ليلة قارسة البرودة، وكلما هم معبد بالمغادرة يستبقيه الصاوي، إلى أن تأخر الوقت وأصر على المغادرة، فما كان من الصاوي إلا أن أحضر من دولابه معطفاً كان قد اشتراه وأصر على أن يعطيه له ليرتديه وهو عائد لبلدته إهناسيا المدينة ليحميه من البرد، وبعدها رفض استرداده أو أخذ ثمنه، وعرفاناً بمحبته ووفاءاً لهذه الذكرى الجميلة يحرص عطية معبد على ارتداء المعطف ويصر على أن يقول باعتزاز لأولاده وأصدقائه: هذا معطف خالد الصاوي!
كما تحدث عن جانب إنساني آخر في شخصية الصاوي، وهو حرصه على عدم القسوة على المواهب الشابة، بل تشجيعهم والحنوعليهم، ومساعدتهم في تثقيف أنفسهم وصقل مواهبهم، وكان متسامحاً مع الجميع حتى مع من كان على خلاف معهم، وألقى الشاعر إبراهيم عبده قصيدة في رثاء الصاوي ،قال في مطلعها:
(تشرق الشمس..
تجرها العجلات عبر نهر الحياة
تمشي متعثرة أو منطلقة
هكذا نصل إلى الجانب الآخر؛
إلى الغرب، الغروب).
أما الشاعرة سيدة فاروق فقالت: "آنَ للجسدِ الجريحْ أن يستريحْ. وعدت أصدقائي بأن أمتنع عن البكاء لأنني لست مقتنعة بموت الصاوي، لأنه حى بداخلنا بعد أن منحنا ذاته بأكملها، ووزع أفراحه وأحلامه علينا بالتساوي، فلا يوجد مبدع في بني سويف إلا وترك فيه بصمة قوية، بل إنه كان يرى في المبدع ما قد لا يراه هو في نفسه"، وروت سيدة فاروق كيف أصر على طرح اسمها للتكريم رغم عدم تحمسها لخشيتها عدم الحصول على تصويت كبير، لكنه راهن عليها، وفي يوم التصويت فوجئت به يقول لها: أنا الذي كسبت وأنتِ فزتِ!، وحكت عن مساعدته لها على المستوى الإبداعي والإنساني بداية من فترة الجامعة، وكيف ساعدها خلال فترة توقد نشاطه الجامعي بدار العلوم، وشجعها هى والكثيرين على الالتحاق بدار العلوم لتنهل من هذا الفيض الأدبي، وقالت: ليس مجالاً للبكاء على شخص مثل خالد ارتاح من آلامه، من عبء الحياة وسجنها إلى براح التسبيح في الكون الفسيح.
الشاعر جاسر جمال الدين أحد أصدقاء الصاوي المقربين رثاه بقصيدة يقول فيها:
"اللي في إيديك مش ليك..
واللي في عينيك دمعة
وجعك بيصرخ فيك..
والخلق مش سامعة
ببص ع التليفون..
قاعد ومستني يرن تسألني
عملت إيه؟..في إيه يا خالد؟ في اللي قلت لك عليه؟!
برضه شايل همي وفي عز المرض
قلبه أبيض عقل لا بيعرف مصالح أو غرض
ملعونة لحظات المرض اللي اتفرض على جتتك ولا حد قدَّرْ
الصوت بيطلع من حشاك نازل مغبر..
بعفار الموت وحبال حياة
وجع وبيترجم كلامك يكتمه باللفظ: آااه..
مين ده اللي يقدر يكسرك؟.
مين ده اللي يطفي شمعتك؟!
الموت؟.ما اظنش..
ياما حاول فوق دماغك وانت عارف بس بإرادتك مطنش
الخوف؟.ما اظنش..
وانت أستاذ في المواجهة
باب لوحده
فصل في كتاب النضال
الخوف مسالكه كلها بالنسبة ليك لعبة عيال".
أما الناقد الدكتور.أحمد تمام رفيق درب الصاوي فتناول كتبه ومنهجه في النقد الأدبي والثقافي، فأشار إلى أن الصاوي سيظل خالداً في قلوب كل محبيه، وقال" لم أكن أود أن أتحدث عن إنتاجه الأدبي والبحثي دون أن يكون حاضراً إلى جواري، فبالرغم من كل ما كنت معه عليه من أوجه الاتفاق والاختلاف إلا أنه لم تجرح لنا صداقة أبداً، وينقسم إنتاج الصاوي إلى ثلاثة أقسام: الإبداع، والنقد، والفكر، فبالنسبة للإبداع كانت له عدة تجارب في قصيدة النثر الفصحى، وهى جديرة بأن تجمع في ديوان، وكثيراً ما طلبنا منه ذلك لكنه كان يريد أن يكون إخلاصه الأول للنقد، أما بالنسبة للنقد فقد كتبت عنه من قبل عام 2015 عند تكريمه في مؤتمر اليوم الواحد ببني سويف تحت عنوان "خالد الصاوي ناقداً تطبيقياً" وركزت على كتابه في تحليل شعر العامية، وكان خالد يهتم بتحليل النصوص الشعرية انطلاقاً من قراءته لها، وكان يستنطقها وينظر إلى حيوية المضامين الفكرية والمعرفية فيها أكثر من الظواهر الجمالية، كما كان يميل لتحليلها من وجهة نظر علم الاجتماع الأدبي، وعند صدور كتابه هذا تنبأت بحصوله على الجائزة الأولى في النقد، وهو ما حدث بالفعل، وكان متحمساً لشعراء العامية لأنه كان يرى أن شعر العامية هو الأقرب للناس، ويمثل طين هذه الأرض، أما عن الجانب الفكري فمن أهم كتبه في هذا المجال كتابه عن التأسلم السياسي، والذي تناول فيه اتخاذ البعض للدين كتكئة لتحقيق مصالح شخصية أو سياسية أو اقتصادية، وكنت أول من كتب عن النظرة الإستشرافية لهذا الكتاب".
دروع التكريم:
تم تقديم درع تذكاري لأسرة الراحل الجميل من الهيئة العامة لقصور الثقافة قام بتسليمها الشاعر أشرف أبو جليل مدير عام الثقافة العامة بالهيئة العامة لقصور الثقافة، كما تم تقديم درع باسم أدباء بني سويف قام بتسليمه الناقد د.أحمد تمام، حيث تسلم الدرعين أرملة الفقيد السيدة صفاء عبد العظيم، ونجلاه محمد ومى، وتحدث الشاعر أشرف أبو جليل ناقلاً تعازي رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة د.أحمد عواض والمسئولين بالهيئة، وقال: "بحكم وظيفتي جئت لتقديم درع الهيئة لروح الصاوي، أما على المستوى الإنساني فتربطني به علاقة إنسانية تمتد لأكثر من 32 عاماً, عندما كنت بالفرقة الأولى بكلية دار العلوم، وكنت أتردد على بني سويف للمشاركة في الأمسيات الشعرية بدعوة من أصدقائي من الشعراء السوايفة, ومنهم الراحلان الجميلان خالد الصاوي ود.حاتم عبد العظيم، وكانوا يشكلون مجموعة من الشعراء الملتصقين بمصر وقضاياها العامة، وكانوا مؤمنين بأن دورهم يتجاوز كتابة الشعر إلى نشر الوعى بين الناس، وكنت متواصلاً مع خالد الصاوي في كل المبادرات المعنية بنشر الوعى الثقافي وإصلاح الشأن العام، وكان ثابتاً على خياراته وقناعاته السياسية والوطنية التي لم يحد عنها أبداً طوال مسيرته، ومنحازاً لقضايا البسطاء والفقراء، وأتمنى أن يستمر "محكى الصاوي" الذي أسسه ونذر له وقته وجهده حتى في أحلك فترات مرضه، ونحن من جانبنا لن ندخر أى جهد في الهيئة العامة لقصور الثقافة لدعم استمراريته بكل ما يطلب منا".
وقد شارك في الأمسية عدد كبير من الشعراء بقصائدهم، وفي مقدمتهم الشاعر والناقد الكبير د.يسري العزب، والذي أصر برغم مرضه على تكبد مشقة الحضور إلى بني سويف وفاءا لروح الصاوي، وقبل إلقائه لقصيدته تحدث عن الصاوي وذكر كيف كان يحتضن شعراء العامية في الندوات الشعرية بكلية دار العلوم ويدافع عن مشاركتهم في وجه تيار التعصب الشديد لشعر الفصحى دون غيره بالكلية، ثم تتابع صعود الشعراء للمنصة، ومنهم شاعر الفيوم الكبير محمد حسني إبراهيم، الشاعر والناقد عمر شهريار، علاء حسني، أحمد الحلواني، حاتم بلال، كمال أبو النور، عادل جلال، أسامة أبو النجا، أحمد المريخي، خالد حسان، عماد عبد السلام، منصور النويري.