القاهرة 29 يناير 2019 الساعة 08:23 ص
كتب : محمد علي
يرى جاستون باشلا في كتابه "جماليات المكان" : "إن العمل الأدبي حين يفتقد المكانية، فهو يفقد خصوصيته وبالتالي أصالته".
فالمكان يتجاوز كونه مجرد خلفية تقع عليها أحداث الرواية؛ فيعد محورًا أساسيًا يحمل لدلالة ما بالنص الروائي، فمن خلال البناء اللغوي قوي السرد الذي ينسجه خيال الكاتب يُخلق المعيار الذي يحول المكان من كونه مسرح لأحداث إلى عنصر تشكيلي يتداخل مع عناصر الرواية كالحدث الروائي واللذان يرتبطان بالسرد في تشييد الخطابة، والتنظيم الدرامي، وهذا التلازم بين المكان والحدث يساهم في تماسك وانسجام العمل، كما يساهم أيضًا في تماسك البناءاللغوي والسردي لوصف المكان بسهولة، والإفصاح عن الخلفية الاجتماعية والنفسية لدى شخصيات الرواية الرئيسة/الثانوية؛ لكونه لا يتشكل وتكتمل صورته الفنية إلا من خلال ظهور هذه الشخصيات والأحداث التي تقوم بها، وهذا يجعل من المكان حقيقة معاشة، فإذا كان المكان يكشف عن شخصية الإنسان، إذن فالأخير سوف يعطي للمكان قيمته من خلال تجربته فيه؛ فحدود التأثير والتأثر بين المكان والإنسان تتوثق من خلال الدور الذي يلعبه كل منهما إزاء الآخر. لذلك يرى البعض أن المكان في النص الروائي يمكنه أن يقوم بدور شخصية ذاتية منفردة وذلك لاعتباره بناء لغوي يشكل معدلا حسيًا ومعنويًا للمجال الشعوري والذهني للشخصية؛ لذا فالروائي حين يشيد المكان في الرواية، فإنه يعمد إلى جعل هذا المكان منسجمًا مع طبائع شخصياته ومزاجها، بحيث يبدو كما لوكان خزانًا حقيقيًا للحالة الشعورية والذهنية للشخصيات وإلى جعل المكان ذاته يكشف عن الحالات اللاشعورية للشخصيات، ويساهم في التحولات الداخلية التي تطرأ عليهم.
وعن دور المكان خارج النص الروائي؛ يقول حسن بحراوي في كتاب "بنية الشكل الروائي": "يلعب المكان دور المفجر لطاقات المبدع"، ومن ناحية أخرى يعبر عن مقاصد المؤلف، فللكاتب العديد من الأساليب الفنية لتأسيس عنصر المكان كتوظيف الرموز، الوصف، استخدام الصورة الفنية، ولكل منهما الدورالذي ينتج عنه الصورة الفنية والتي تتعدى حدود الرؤية للمكان بعناصره الفيزيائية إلى المشاركة الوجدانية؛ فالمكان في الرواية ليس هو المكان الطبيعي أو الموضوعي، وإنما هو مكان يخلقه المؤلف في النص الروائي عن طريق الكلمات ويجعل منه شيئا خياليا؛ يتوظف لأغراض التخييل وحاجته؛ وذلك لإعطاء أبعاد حسية –من خلال الطابع اللفظي للغة الروائية- لما لا وجود له إلابالوعي وإضفاء صفة الواقعية على ما هو تصور يمحض، حتى أنها لا تثير في ذهن القارئ صورًا بصرية فحسب، لكنها تثير صورًا لها صلة بكل الإحساسات الممكنة التي يتكون منها نسيج الإدراك الإنساني ذاته.
لذا عدا الجانب الجمالي للمكان من معايير الجودة التي تحسب للروائي من ناحية لقدرته على اختزان أمكنة مغايرة لما يعهده االقارئ، وتقديم رؤية مغايرة للمكان الذي يعيش فيه القارئ وذلك في صورة فنية مختلفة، ومن ناحية أخرى يقوم من خلال القوالب النصية لوصف المكان بالتخفيف من حدة الأحداث القهرية وتهدئة الحركة السردية.
يتناول الكاتب ناصرعراق في روايته الحاصلة على جائزة كتارا "الأزبكية" التاريخ من جانب آخر؛ من خلال تقديم صورة من واقع فترة تاريخية ما بشكل درامي، حيث يتطرق للجانب الاجتماعي والسياسي في مصر منذ قدوم الحملة الفرنسية وما بعدها. مع ذكر بعض المعلومات التاريخية بطريقة سَلِسة وبسيطة.
وبناء الرواية يقوم على قسمين، يعتمد الأول على مرجعية حقيقة متمثلة في الفترة التاريخية ما بين عهد نابليون في مصر حتى جلوس محمدعلي واليا على مصر، وفيه يقوم بخلق البناء الدرامي وذلك من خلال توظيف البناء السردي للمكان وهو الوطن وما يتعرض له، فينقل الشكل الفزيائي للمكان حتى ينتج الحدث الرئيسي للرواية، وهوتكوين العصبة لتنتقم من المستعمر.
وفي القسم الثاني الذي يقوم على مرجعية خيالية، يظهر تأثر الأشخاص بالمكان وكيف يتأثرون به، ويتمثل ذلك في علاقة شارل الرسام الفرنسي مع الشاب المصري أيوب السبع الناسخ.
وتقوم شخصية أيوب السبع بالدور الرئيسي في الرواية؛ وينعكس عنصر المكان على الشخصية بدايًة م نتكوين مجموعة صغيرة من أصدقائه لمقاومة الاحتلال الفرنسي. وعلى مدارصفحات الرواية تتطور شخصيته ويظهر تأثره بالمكان الذي تلقى فيه العلم وهو الأزهر متمثلا في الأفكار المتشددة والتي كان يُردِّدها بين ديار المسلمين والفرنساوية الكفار إعداء الإسلام، وعن تولّي حاكم مسلم شؤون البلاد وغيرها، حتى أن القارئ يشعرأنه يتعامل مع الاحتلال وكأنه غزو ديني وليس احتلال وطن من أجل سلب ثرواته.
ويعد القسم الثاني نقطة تحوّل في الأحداث والشخصيات، فتلاقي أيوب السبع بشارل جعله ينظر للمكان/مصر بشكل مختلف فبدأ يرى الأمور بوجهة نظر أكثر عقلانية، ويؤمن بالأفكار التقدُّمية.
وبخلاف الشخصيتين تتفرع شخصيات أخرى ثرية الفكر مما يمكنها من التأثير في الرواية وأحداثها وتفاصيلها، ومن خلالهم قام عراق بإزالة وشاح الأخلاق الاصطلاحي عن المجتمع المصري حينذاك بكل ما فيه من طبقات اجتماعية وغنى وفقر وفساد وظلم وقهر، ملقيا الضوء بنزاهة على الجانب السيء في تلك الفترة.
وكان الرسام شارل رُمّانة ميزان تلك الرواية فجاء نموذجًا للإنسان بحق؛ وذلك لاعتبار أن الفن هو ناقل للتاريخ بصورة مختلفة حيث أهمية لوحات المستشرقين التي جسدت تلك الفترة في المشرق العربي من أحداث وشخصيات مختلفة.
وقد اعتمد عراق أسلوب السرد البحت من خلال الجماليات البلاغية والتي اتسمت بكلمات راقية متجددة، كما تنقسم الرواية إلى قسمين بترتيبه للفصول وتعتمد على أسلوب الفلاش باك، وعلى الرغم من التشتت الذي يحدث للقارئ في البداية إلا أن ذلك يخلق عنصر التشويق ومحاولة توقع الحدث؛ حيث كيف ماتت فرانسوا أخت شارل؟ ما مصير حسنات بسبب عضة تلتقها على عنقها من عشيقها أيوب؟ كيف تعرف أيوب على زوجته سعدية؟ ما تطورات علاقة شارل بمسعدة؟ وهكذا!
والحوار في الرواية تضمن الكثير من الأفكار التي أراد أن يعبر بها عراق عن حقيقة الانتماء للمكان، وأهمية ذلك سواء كان في الحاضر أو الماضي، سواء كان في حوار الفرنسيين مع بعضهم البعض في القسم الأول من الرواية، وأحاديث أيوب مع أفراد عصبته الأصدقاء، وحوار الجبرتي مع أيوب في منزله في بولاق، وحوارات شارل مع أيوب حيث تتقاطع الشخصيتان بحب مصر والرغبة في تطوير الحياة الاجتماعية والثقافية في مصر، وذلك كل واحد بحسب أفكاره الخاصة، برغبة شارل بنشر ثقافة الفن، ورغبة أيوب بالنضال ضد الاحتلال الخارجي لمصر ورغبته بأن يحكمهم حكام من أصول مصرية، والمناقشات بين أيوب وفرانسوا حول الحب والحرية ما بين فرنسا ومصر.
ومن الممكن أن يكون الزمن التاريخي بالرواية مجازًا لهذه الفترة الحالية التي نعيشها من فساد، أو ربما كان القصد هو النظر في الماضي القريب عن طريق قراءة في الماضي البعيد، فربما يكون أيوب النساخ هوالمعادل الرمزي لتنظيم الضباط الأحرار أو يكون هو فكرة الثورة في الأساس، بالإضافة إلى أن الحياة الاجتماعية لا تخلو حتى الآن من الفساد؛ فامرأة عاهرة تعاشر شابا يخرج من صلاة العصر مستغفرا قبل أن يمارس معها الجنس، وامرأة أخرى تسلم نفسها بكل جرأة لرجل ليس من جنسها أودينها وتنجب منه، وأخرى ترغب بالمتعة فقط، وزوجة تهرب مع شاب أصغر منها، رجال فاسدون.
فحتى الآن وبالرغم مما مر بنا من تطور العلم والإصلاح الديني، فلا يزال الفساد والسرقة والقتل والخيانة متوارثة في الكيان الإنساني كالخير تمامًا، ربما يكون التعبير قاسيًا إلى حد ما بالتسلط على الجانب السيء فقط في حق تلك الفترة المهمة في تاريخ مصر، إلا أن الهدف كان محاولة صريحة دون مجاملة لفترة عاشها المجتمع المصري، والتنبيه لضرورة المراجعة الفكرية لقضايا مهمة كالتخلُّف المجتمعي، والجهل الذي يؤثر سلبًا على حياة الناس، وكيف كان الجهل والتخلُّف من ضمن أسباب استبِداد الحكام، كذلك لمّح عراق للأضرار التي يبثها التعليم الأزهري على طلابه، والذي أخرج عقليات متشدِّدة مثل أيوب في البداية وباقي رفاق عصبته، وكيف أثّرت طباع الفرنسيين السلميين على الشعب المصري، واستجابة الشعب لبعض عاداتهم المُتحضِّرة، وضرورة الكفاح والنضال من أفراد الشعب الواحد ضد الاحتلال.
وفي النهاية يقول عراق في إحدى الحوارات الصحفية: إن المحرك الأساسي لكتابة الرواية هو الصدمة الحضارية التي اكتشفت أننا تلقيناها عندما دخل نابليون بجنوده وعلمائه أرض المحروسة؛ إذ اكتشفنا كم نحن متخلفون جدًا، وأن المماليك والعثمانيين عزلونا تمامًا عن العصر الحديث، فأصبحنا أسرى الخرافات والخزعبلات التي يروجها بعض رجال الدين والسلطة، وما زال الكثير منا عبدًا للخرافات حتى هذه الساعة، من هنا أردت إعادة اكتشاف تاريخنا في قالب روائي، عسى أن ندرك جوهر تخلفنا وتراجعنا حضاريًا حتى الآن.