القاهرة 08 يناير 2019 الساعة 11:01 ص
كتب : طلعت رضوان
الراحل الجليل الأستاذ على فهمى جمع بين علم الاجتماع والوعى العميق بالموروث الشعــبى . ومن بين كتبه المهمة كتاب (دين الحرافيش فى مصرالمحروسة) الصادرعن دار ميريت للنشر- عام 1999. وتعود أهمية هذا الكتاب الى أنّ مؤلفه وعى الخصوصية الثقافية لشعبنا المصرى . وأنّ المصريين (مصّروا) الإسلام ، إذْ نصّ على أنّ الإسلام ، أو بالأحرى الممارسة الإسلامية فى مصر لها نكهة خاصة. وكأننا بالإسلام القادم من هجير الصحراء ، قد رقّ على ضفاف النيل . واكتسى الطقس الدينى الإسلامى بمسحة متميزة من عبق الفن . فالطقس عند المصريين بقدر ما هو دينى هو أيضًا فنى . وأنّ الأذان للصلاة من المصرى له نغم خاص جمع بين التقديس والتطريب . وهناك علاقة وثيقة بين الإنشاد الدينى والغناء المصرى المعاصر. وأنّ هذه الحقيقة تؤكد الطابع القومى للشخصية المصرية. وهذا التميز يعود إلى الرواسب ذات الطابع الثقافى التى تنتمى إلى الأديان المصرية وإلى التراث الثقافى المصرى . وأنّ هذا التراث أفرز توليفة شعبية مُـتفرّدة من فهم خاص للإسلام ، تبعد كثيرًا عن حدود الدين النصى . ولذلك يرى أنّ بحثه ينصب على ميدان (الفهم الشعبى للدين) حتى مع مخالفة هذا الفهم للدين النصى (من ص 14- 21)
الطواف حول ضريح الولى عبد الرحيم القناوى:
وصل هذا الفهم الشعبى للدين لدرجة أنّ عددًا كبيرًا من المصريين ، مازالوا يرون أنّ الطواف سبع مرات بضريح الولى عبد الرحيم القناوى ، فيه غناء عن أداء فريضة الحج . وفى تجربة شخصية للمؤلف زار ضريح الولى (أبو الحسن الشاذلى) فى صحراء عيذاب فى أقصى الجنوب الشرقى من مصر بالقرب من الحدود المصرية السودانية. وعلم أنّ الاحتفال بهذا الولى يكون دائمًا مع عيد الأضحى ، ويحضره مئات الألوف من المصريين والسودانيين ، يُمارسون طقوسًا شبيهة بطقوس الحج ، مثل الطواف بالضريح والتكبيرعلى التلال المحيطة. وأجرى على فهمى عدة مقابلات مع مصريين وغير مصريين ، فأبدى الجميع قناعة كاملة بأنّ مثل هذه الزيارة وهذا السعى والطواف ، هو بديل أكيد عن الحج تمامًا . ومع ملاحظة أنّ الإمام الشاذلى من (شاذله) بالأندلس . ولهذا يحضر الاحتفال عدد كبير من أهالى المغرب الأقصى (18 ،19 ،62)
المصريون وأساليبهم فى التحايل :
وإذا كان شعبنا تميّز ب (الإسلام المصرى) فإنه أيضًا تمكــّـن من خداع الغزاة العرب ، وذلك بالدخول فى الإسلام لتجنب أداء الجزية. ووفق صياغة المؤلف ((كان سبيل العامة إلى تجنب الجزية والوصول إلى المناصب ، مع احتفاظهم بعقائدهم ، احتضان الدين الجديد وإقحام عقائدهم القديمة فيه. وبهذا تكون شعوب الأقطار المفتوحة قد أفلحتْ فى خداع الفاتحين (الغزاة) وتطويع ما جاءوا به من دين)) (19 ،84) ونقل عن المؤرخ ابن إياس أنّ الحكام المسلمين كانوا يفرضون المكوس (= الضرئب) على حانات الخمور وعلى بيوت الدعارة لصالح خزانة المسلمين (24) فى إشارة دالة على أنّ هؤلاء الحكام لم يكن يعنيهم تطبيق أحكام الإسلام ، إنما كان همهم الأساسى هو الحصول على المال بواسطة الحكم . وعن العلاقة بين الإسلام والواقع المادى أشار المؤلف إلى أنه رغم التقاليد الإسلامية الصارمة فى الفصل بين النساء والرجال ، فإنّ الطبقات الشعبية لا تلتزم كثيرًا بهذه التقاليد (26)
ثقافة قومية واحدة رغم تعدد الأديان:
وعن توحد شعبنا فى ثقافة قومية واحدة ، رغم اختلاف المعتقدات الدينية ، ذكر أنّ إدوارد لين شاهد فى مصر (حوالى سنة 1830) المسلمين والمسيحيين يرسمون صليبًا على مدخل الحمام ، إذْ يعتقدون أنّ هذا يمنع الجن من دخوله (34) ورصد أ. على فهمى ظاهرة تتجاهلها الثقافة السائدة فى مصر، أى ظاهرة الموالد المصرية. فذكر أنّ الموالد فى مصر، سواء فيما يتعلق بولى مسلم أو قديس مسيحى ، تتشابه فى مظاهرها العامة حتى تكاد تتطابق ، فيما عدا الاختلاف اللفظى فى الأوراد والتراتيل . وغير ذلك فإنّ التشابهات كثيرة مثل الإيقاع الموسيقى ، فإنها تيمات موسيقية شعبية ذات طابع تراثى واحد . كما لاحظ أنّ عددًا كبيرًا من المصريين المسيحيين يزورون الموالد الإسلامية ويُقدّمون النذور للولى المسلم . كما أنّ كثيرين من المصريين المسلمين يزورون الموالد المسيحية ويُقدّمون أيضًا النذور للقديس المسيحى . وبالتالى فإنّ الموالد هى احتفالية مصرية صميمة. وهى جزء من نسيج سوسيو / ثقافى متفرد . وكتب ((إننا على اقتناع علمى له ما يُبرره ، بأنّ الدين الشعبوى السائد لدى الشعب المصرى هو دين واحد أو يكاد)) (64- 65) وهذه رؤية علمية ، بمراعاة أنّ شعبنا (مسلمين ومسيحيين) يشترك فى الكثير من العادات ، مثل سبوع الطفل وخميس وأربعين الميت وأسلوب الدفن والاحتفال بعيد الربيع المصرى (شم النسيم) والولع بالاحتفال بالأولياء والقديسين . وهو احتفال يرجع بجذوره إلى الاحتفال بالآلهة المصرية. وعن هذه الحقيقة كتب عالم الاجتماع الكبير د. سيد عويس ((إنّ مكانة الآلهة المصرية انتقلتْ فى فترات التحول فى تاريخنا المصرى بعملية توفيقية إلى الأنبياء والقديسين ثم الأولياء)) وأشار أ. على فهمى إلى ظاهرة إرسال الرسائل إلى مقابر الأولياء والقديسين التى رصدها د. سيد عويس . وأنها مثل الرسائل فى مصرالقديمة. فقد كان جدودنا يبثون شكاواهم إلى الإله أوزير فأصبحوا يبثونها إلى الإمام الشافعى . وفى مصر القديمة كانت هناك (محكمة الإله الأعظم فى مدينة الأموات) وفى الوقت الراهن توجد (المحكمة الباطنية) التى تجتمع هيئتها مساء كل ثلاثاء فى ضريح السيدة زينب برئاستها وعضوية الإمام الشافعى والسيدة نفيسة. ولأنّ المجتمع المصرى نهرى / زراعى فإنّ الموالد ترتبط مواسمها مع جنى المحصول (من 43- 47)
وعن انتشار الخرافة وتأثيرها على شعبنا ، ذكر أ. على فهمى أنّ بعض الدروس والمقررات فى الأزهر تتناول موضوعات مثل عالم الجن والسحر والشعوذة (87) وأرجع استمرارها إلى عدم وجود مقاومة ثقافية تكون هى الأساس لتحجيمها . ورصد عدة أسباب منها أنّ نظام يوليو 52 ضرب كافة القوى التنويرية ، التى أدّت دورًا مهمًا فى التنوير قبل سيطرة الضباط على الحكم . وأشار إلى إنشاء العديد من الجمعيات الثقافية والعلمية مثل جماعة الفن والحرية (عام 1939) وجماعة الخبز والحرية (عام 1941) التى أصدرتْ مجلة التطور والتى ضمّتْ آدم حنين والتلمسانى وأنور كامل وفؤاد كامل وألبير قصيرى . وبعد ضرب قوى التنوير تقـلــّص تأثير القوى العلمانية والليبرالية. وكذا هجرة المصريين إلى الدول العربية. فعادوا بتقاليد متخلفة بكافة المعاييرالحضارية عن المجتمع المصرى . وأنّ المجتمعات العربية المتخلفة حضاريًا تتكون من البداوة (رغم الثراء المُـذهل) كل هذا أدى إلى اعتبار التخلف الحضارى بتلك البلاد هو معيار التقدم . ثم جاءتْ القوى الظلامية الجديدة (خاصة فى السبعينات) التى فرضتْ توجهاتها على التعليم والإعلام والثقافة والتأليف والنشر. وفى العديد من مقررات الدراسة - فى كافة مراحل التعليم - تنتقى النصوص من التراث ، وهى من أكثر النصوص رجعية وجهلا وتـُدرّس للطلاب وعليهم حفظها والإمتحان فيها . وأشار إلى ندوة تليفزيونية أجراها تليفزيون العرب A.R.T عن العلاج بالقرآن الكريم . وتناولتْ الندوة موضوعات مثل الجن والسحر والشعوذة . وقد اشترك فى الندوة سبعة من أساتذة الجامعات المصرية. فأبدى بعضهم - بدون تحفظات - أنّ الجن يُمكن أنْ يتلـبّس البشر فيمرضون . وبالتالى فإنّ العلاج بالقرآن وطرق السحر التى تعتمد على القرآن أمر مُـفيد حتى فى الحالات المرضية الخطيرة . وكان من بين المؤيدين لهذا الرأى وزير التعليم العالى الأسبق وأستاذ طب أمراض النساء بجامعة القاهرة . وأنّ هذه الندوة تم بيعها لنحو خمسين محطة تليفزيونية عربية وغير عربية. لذا فإنّ كل ذلك أدى إلى إحداث هزة زلزالية شديدة التأثير على المجتمع المصرى وعلى الاستقرار وعلى السلام الاجتماعى (من 92- 112) وفى أكثر من صفحة من كتابه ركـّـز أ. على فهمى على ضرورة الوعى بالخصوصية الثقافية المصرية فكتب أنّ ما يُميّز الاحتكاك الحضارى فى مصر هو التبادل الحضارى . وأنّ مصر- نافورة الحضارة القديمة - لم تتحول إلى بالوعة للحضارة الجديدة ، ولكن إلى بوتقة صهرتها لتـُشكــّـلها بما يتفق وتراثها (43) .