القاهرة 08 يناير 2019 الساعة 10:56 ص
كتبت : د.أسماء شنقار
كيف لإنسان أن يعيش ثلاثين عاما قابعا في السجون دون أدنى حقوقه الآدمية؟ كيف للزمن أن يمر عليه هكذا دون أي إنجاز سوى الهرم ؟ كيف استطاع الابتعاد عن أهله لسنوات وسنوات ؟ كيف استطاع تحمل كل هذا الألم والعذاب؟ كيف للسجان أن يكون منزوع الإنسانية إلى هذا الحد؟ كيف يتحول الإنسان إلى وحش يقتل ويغتصب ويعذب ويتلذذ برؤية الدماء وسماع آنات المعذبين وآهاتهم ، ولايروى عطشه إلا هكذا؟! كيف استطاع مرتكبو المجازر العودة لبيوتهم وممارسة حياتهم بشكل طبيعي أو شبه طبيعي حتى ؟! كيف لمن عانى ورأى المعاناة أو سمع عنها أن يصمت ويمر عليها مرور الكرام كأن شيئا لم يكن؟!!! كيف لهذه الشعوب أن تصمت كل هذا الصمت، أن ترضى بالقتل والدمار والإهانة والكبت؟ أليست الحرية هي أسمى ما يملكه الإنسان وبها تكتمل إنسانيته؟!!! كيف وكيف وكيف؟
أسئلة كثيرة تدور ببالي ولا شك أنها تدور ببال غيري, تلح على أذهاننا في أوقات بعينها وتنكأ جروحنا كلها ، وآلامنا وآهاتنا فتجعلنا ننزف دما بدل الدمع . وفي حالتي هذه كانت رواية "طريق جهنم " للكاتب الأردني أيمن العتوم هي من نكأت جراحي وأثارتها، وأيمن العتوم مشهور بالكتابة في أدب السجون على وجه التحديد كأنه قد سخر حياته وقلمه للكتابة عن هذه البقع المنسية أو البقع الطاهرة/النجسة على الأرض .عن هؤلاء البشر القابعون في أماكن خارج التاريخ ، وخارج الزمن . يحكي عن قصصهم ويتحدث بلسانهم، فربما حينها يشعرون أن لتضحياتهم صدى وأثر فلم تضع هباءا منثورا ، ما زال هناك من يستمع.
كتب العتوم أولى رواياته "يا صاحبي السجن" فكانت عن تجربته الشخصية في السجن بعد إلقاءه قصيدة شعر- فحسب – لم ترق النظام الحاكم. وكتب"يسمعون حسيسها" فكانت عن تجربة الطبيب السوري إياد أسعد الذي قضى أعواما في السجون السورية في حكم حافظ الأسد وكتب كذلك "اسمه أحمد" فكانت عن تجربة أحمد الدقامسة.
وكل هذه الروايات تتماس فيها السيرة الذاتية والغيرية بالرواية . ولم تخلو بقية رواياته من حديث عن السجون وتجربة السجن.
وهذه المرة يأتي إلينا بروايته "طريق جهنم" تلك الرواية ذات الخمسمائة صفحة والتي شككت في أني أستطيع إكمالها خاصة مع المشاغل المختلفة ، ولكن حدث عكس ما توقعته فقد تركت مشاغلي كلها والتحمت بالرواية التحاما وبكيت معها بكاء ا مريرا حتى أنهيتها.
يحكي فيها الكاتب عن قصة معلومة مجهولة .. هذه المرة اختارته (فاطمة بشير) ابنة أحد ضحايا مجزرة سجن أبو سليم ، وهو أشهر سجون ليبيا في عهد معمر القذافي، وأرسلت إليه رسالة تخبره فيها بأن هناك قصة تستحق أن تروى ،كاد الكاتب أن يتجاهل الرسالة ولكنه استزاد منها فحكت له عما تعلمه وعما جرى مع والدها –رحمه الله- وبحثا معا عن شخص عاصر هذه الأحداث وتلك المجزرة ، فكان هناك الكثير ، ولكن الغريب -بالنسبة لي على الأقل حسب ما قالوه– أنهم لم يرغبوا في الحديث أو تسجيل شهاداتهم، رغم مضي هذا العصر وموت القذافي. ولكن يظل الأمل قابعا ومختبئا في مكان ما فقط علينا أن نبحث عنه . كان هناك ثاني أقدم سجناء الرأي في سجون ليببا وهو الأستاذ علي العكرمي ، وقد سجل الكاتب معه شهادته وحصل منه على بعض الوثائق المتعلقة بهذه المرحلة ، وهكذا تمخضت من هذه المعاناة هذه الرواية النازفة بجراح الكثيرين.
إذن هي الأخرى رواية تستند إلى وقائع حقيقية تاريخية شكلت جزءا مهما من تاريخ ليبيا، وما زالت بعض شخصياتها على قيد الحياة ، وبعضهم اختاره الله ليتخلص من عذاب السجون وعذاب الدنيا في هذه الأوطان النازفة.
جاءت الرواية على لسان (علي العكرمي) فحكى عن فترة سجنه حيث عاش خارج الحياة والزمن ثلاثين عاما بدءا من المرحلة التي أطلق عليها القذافي اسم (الثورة الثقافية ) والتي أطلقها في خطابه الشهير في زوارة(15 إبريل1973م) ، وأعلن فيه التخلص من كل المرضى سياسيا أعداء الثورة قاصدا بهم الكتاب و المثقفين والإعلاميين وأصحاب الرؤى والرأي –وهل تقام الأوطان بدونهم مهما تشعبت اتجاهاتهم- وكان منهم التروتسكيون والشيوعيون وحزب التحرير الذي انتمى إليه العكرمي ، والتيارات الإسلامية ، وكل صاحب رأي .. وانتهت الرواية في فترة الثورة الليبية(فبراير2011م).
حكى فيها عن العديد والعديد من الشخصيات التي عاصرها في السجن من كافة التيارات المدنية وكذلك العسكريون الذين كانوا يقومون بانقلابات على القذافي أو يعارضونه . وحكى كذلك عن السجانين والشخصيات التي كانت تمثل بطانة القذافي ، وبالطبع تطرق لهذه الفترة من حكم القذافي . وغالبا سيتوه القارئ ويختلط عليه الأمر وسط هذا الكم الهائل من الشخصيات ولن يستطع تذكر سوى عدد قليل منها ، فرغبة الكاتب في توثيق هذه الفترة وتخليد أسماء هؤلاء السجناء كانت على حساب فنية الرواية في بعض المواضع ، حتى إنك لتمر على الكثير من الصفحات والتي قد تشعر أنها مكررة ، وربما بنفس الصيغة أو مع اختلاف في صيغتها.
لذا كان يمكن –من وجهة نظري- أن تقل عدد الصفحات بشكل كبير عن هذا الحجم الهائل.
لم تأت الرواية على لسان العكرمي فقط بل جاءت على لسان القذافي أيضا في فصول عدة ، كانت تحت مسمى واحد وهو (العقيد) وتأتي كلها في زمن غير الزمن الذي يتحدث فيه العكرمي ، بمعنى أن العكرمي كان يتحدث بدءا من عام 1973- وقد يعود بالزمن إلى الوراء ليحكي عن لحظة تاريخية ما ولكن الخط الأساسي كان من هذا العام – إلى الفترة التي أعقبت الثورة الليبية. بينما القذافي كان يتحدث بدءا من بداية الثورة عليه إلى لحظة وفاته. وفيها تخليد لنفسه وتعظيم وتأليه لنفسه .وهذا الجزء تحديدا من الرواية اتسم بالملل لأنه كان يفضي غالبا إلى معنى واحد ، وهو الآخر كان يمكن اختصاره عن ذلك.
اتكأ أيمن العتوم كعادته على اللغة بمفرادتها وعلى الأسلوب الشعري البديع الذي يتميز به ، والذي استمده من ثقافته اللغوية الواسعة وشاعريته الأصيلة . إذن يكمن تميز هذه الرواية في الموضوع المطروح حيث مثل شهادات على عصر مظلم وهنا يأتي التشابك بين التاريخ والرواية، بين الواقع والخيال ، وتأتي الرواية لتلعب جزءا من الدور المنوط بها في تسليط الضوء على قضايا شائكة في مجتمعاتنا وفي تشكيل وعي القراء وتوجيه الأنظار تجاه أشخاص وقضايا ربما ننساها في خضم الحياة المتسارعة . وكذا يكمن تميزها كما سبق وأشرنا في أسلوب الكاتب اللغوي تحديدا ،وإن كانت في تقييمي لمجمل أعماله ليست الأجود فنيا.
وأخيرا .. تمنيت لو قرأت في (أدب السجون) عن الشطر الآخر من المجتمع ...عن المرأة .. عن تجاربها في هذه البقع المنسية ،فهلا خرجت امرأة شجاعة وقوية لتكتب أو لتسجل شهادتها وتجربتها ، فقد كان ومازال لهن نصيب كبير من هذا الألم ، هلا شاركت المرأة في كتابة التاريخ حتى لا يظل جزءا كبيرا منه مجهولا ويظل دورها غير معلوم وغير موثق ونقرأه هامشي كما نقرأ حاليا.