القاهرة 01 يناير 2019 الساعة 11:02 ص
كتب : د. حسين عبد البصير - مدير متحف الآثاربمكتبة الإسكندرية
عصر العمارنة هو عصر الثورة في مصر الفرعونية على كل المستويات !
ففي هذا العصر حكم مصر ملك جديد أحدث ثورات على كل الأصعدة التقليدية, وقلب الأمور رأسًا على عقب في فترة زمنية قصيرة, ثم عادت بعدها الحياة في مصر القديمة إلى مجراها الطبيعي وسابق عهدها بعد اختفاء ذلك الملك أو إقصائه, وإنهاء زمنه وتاريخه من قبل كارهيه ومعارضيه من أنصار الملكية المصرية المستقرة, وكهنة المعبودات الأخرى الذين قضى عليهم أخناتون وأزاحهم عنوة من المشهد السياسى-الديني في مصر القديمة.
وعلى الرغم من كل ذلك، فإن الآثار التي تركها عصر العمارنة على معاصريه ولاحقيه لم تختف كلية من المشهد كما كان يظن هؤلاء الكارهون لتلك الحقبة الأكثر إشكاليًا وإثارة في تاريخ مصر القديمة قاطبة, بل امتدت تلك الآثار إلى ما بعد عهد الفرعون الموحد الملك أخناتون لفترة ليست بالقصيرة.
وتعتبر فترة العمارنة من أهم الفترات التاريخية في مصر القديمة التي حدثت بها تطورات بل طفرات في كل مظاهر الحياة بل والعالم الآخر, وكان الدين من بين أهم العناصر المميزة التي قامت عليها دولة الملك أخناتون ودعوته الدينية الجديدة, ولعب الدين دوره الكبير بامتياز في فترة العمارنة الفريدة في التاريخ المصري القديم كله, وانصب اهتمام الملك الشاب على معبوده الجديد "آتون" الذي جسده الملك فنيًا على هيئة قرص شمس تخرج منه أيد بشرية تمسك بعلامة "عنخ" ؛ كي تهب الحياة للبشرية جمعاء من خلال الوسيط الملك أخناتون وأفراد عائلته المقدسة.
وكان الأمير أمنحتب (الملك أمنحتب الرابع بعد ذلك) قد تعلق بديانة الشمس وتحديدًا قرص الشمس "آتون" منذ أن كان صغيرًا, وتأثر كثيرا بخاله الذي كان كبيرا للرائيين في معبد الإله رع إله الشمس في مدينة الشمس: هليوبوليس (منطقتا عين شمس والمطرية الحاليتان في شرق محافظة القاهرة).
وكان والده الملك أمنحتب الثالث وجده الملك تحتمس الرابع قد دعما من ديانة آتون من قبل، غير أن أخناتون أخذ الخطوة الأكبر ووصل بديانة آتون إلى قمتها ونهايتها في الوقت عينه, وعندما صار الأمير أمنحتب ملكًا غير اسمه في العام السادس من حكمه من أمنحتب الرابع إلى "أخناتون" أي "المفيد لآتون" كي يكون على أتم الاتساق مع دعوته الدينية الجديدة ومعبوده الجديد قرص الشمس آتون, الذي أراد من خلاله أخناتون أن يحقق العالمية لدعوته؛ نظرًا لوجود الشمس في مصر وكل مكان من بلاد الشرق الأدنى القديم؛ وبذلك يستطيع أن يتعبد إلى ذلك المعبود الكوني البشر في معظم أرجاء الإمبراطورية المصرية الفسيحة التي شيدها جده الأعلى الفرعون المحارب الملك تحتمس الثالث في آسيا وأفريقيا.
ولقت الدعوة الدينية الجديدة استحسانًا من قبل زوجته الجميلة والذكية الملكة نفرتيتي التى صارت من أقوى المناصرين للملك أخناتون ودعوته الجديدة, وصارت صنوًا له وعنصرًا مكملاً للدعوة الآتونية والديانة الشمس وينقص المشهد شىء مهم إن لم تكن الملكة الجميلة موجودة به، إن لم تكن منافسه للملك الموحد.
وفي بداية حكمه، بنى الملك أخناتون معبدًا للإله آتون في الكرنك، المكان المقدس للمعبود آمون رع، مهددًا بذلك دولة آمون رع الأزلية المستقرة وكهنته ومتحديًا إياهم في عقر دارهم مما جعلهم يضمرون له الحقد ويكيدون له المكائد؛ حتى ترك مدينتهم طيبة العاصمة العريقة لمصر القديمة في عصر الدولة الحديثة وارتحل إلى مدينة جديدة لم تدنسها قدم إنسان من قبل, وقامت دعوة أخناتون على جمع كل الآلهة في إله واحد هو معبوده آتون. ولم يجسد الملك أخناتون إلهه الجديد في شكل آدمي على الإطلاق, وكانت فكرة العدالة والنظام الكونى جزءًا من ديانة أخناتون الجديدة, وكانت فكرة النور والضياء جزءًا لا يتجزأ من الدعوة الآتونية في مقابل الظلام وقوى الفوضى.
ولا تنطوى دعوة أخناتون على فكرة التوحيد كما نعرفها حاليًا، وإنما كان الهدف من تلك الدعوة بدمج المعبودات في إله واحد هدفًا سياسيًا كي يحد من سيطرة المعبود آمون رع وكهنته على الحكم في تلك الفترة, وحاول أخناتون أن ينجح في ذلك، لكن الحظ لم يحالفه طويلاً؛ نظرًا لوقوعه في عدد من الأخطاء الكارثية الكبيرة، وكذلك انغلاق دعوته، وقيامها على شخصه وأفراد عائلته فقط، وتسرعه وقصر فترة حكمه، واعتماده على عدد من المنافقين والمنتفعين الذين انقلبوا عليه حين انتهت دعوته وانفضت دولته وخارت قواها.
وعلى عكس ما يشاع لم يقم أخناتون بتأسيس دولة دينية على الإطلاق, ومن المعلوم أن الدولة الدينية الوحيدة التي قامت في مصر القديمة كانت في عصر الأسرة الحادية والعشرين، عندما استغل كهنة الإله آمون في مدينة طيبة ضعف السلطة المركزية بعد نهاية الدولة الحديثة، وقفزوا على السلطة، وأسّسوا تلك الأسرة التي حكمها كهنة آمون من الجنوب في حكم ثيوقراطي لم يكن مقبولاً من الجميع, وسرعان ما انتهى بتأسيس الملك شاشانق الأول للأسرة الثانية والعشرين محققًا عظمة الأجداد من ملوك الدولة الحديثة.
ولم تستمر دولة أخناتون طويلاً؛ بسبب كثير من الأخطاء الكارثية الكبرى التي حاول الملك أخناتون القيام بها مثل محاولته الدوؤب تغيير الهوية الحضارية للدولة المصرية المتسامحة والتى تقبل التعدد بامتياز، وكذلك محاولته إقصاء كل ما ومن هو ضده، وأيضا زلزلة ثوابت الدولة المصرية العريقة، وإهمال سياسة مصر الخارجية وممالكها المهمة في بلاد الشرق الأدنى القديم، والاكتفاء بالدعوة الدينية لمعبوده الجديد, والتجديدات الفنية واللغوية والأدبية التي لم تمس عمق المجتمع ولم يتقبلها كلية، فضلاً عن التغيير الفوقي الذي أراد فرضه على الجميع في وقت زمني قصير، علاوة على عدم الاهتمام بالتراث المصري الحضاري العريق الممتد في الشخصية المصرية لآلاف السنين قبل بزوغ دعوته الدينية القائمة على الأحادية ونفي المعبودات الأخرى وكهنتها المتنفذين، وعدم الالتفات إلى طبيعة الثقافة المصرية وكذلك الشخصية المصرية وفهم مكوناتها ومكنوناتها، فكانت نهايته المأوسوية.
ونظرًا لأنه كان أيضًا هو الوسيط الوحيد بين معبوده آتون والشعب، فانتهت الدولة بانتهائه، وغابت الدعوة بغيابه, وانقلب المنافقون الذين ذهبوا معه إلى مدينته الجديدة بعد رحيله ولعنوه ولعنوا دعوته وهجروا مدينته, وأطلقوا عليه "الملك المهرطق" و"المارق من تل العمارنة".
ولم يبق من عصر العمارنة إلا أصداء العمارنة التي ما نزال نراها ماثلة أمامنا كذكرى على حكم لم يعمر سياسيًا طويلاً, غير أنه ترك آثارًا تشهد على أهمية الفترة دينيًا وفنيًا ولغويًا وأدبيًا, ويكفي أن نلقي نظرة على تمثال الجميلة نفرتيتي كي ندرك روعة الفن وصدق الإيمان بالدعوة من قبل قلة من بعض مؤيدي الملك أخناتون, وتوظيف الفن في خدمة الديانة الآتونية والملك أخناتون وعائلته الملكية ودعوته الدينية وفلسفته في الحكم ونظرته للدين والحياة.
إنه عصر العمارنة الفريد بكل ما له وما عليه.