القاهرة 31 ديسمبر 2018 الساعة 11:12 ص
تصوير:طارق الصغير
حاوارته :نهادالمدني
تقع القناطر الخيرية على بعد 22 كم من القاهرة، وهي أهم متنزهات مصر حتى الآن، ولها شهرة خاصة عند السائحين للاستمتاع بجوها النقى ومناظرها الخلابة. هى واحدة من أعظم أعمال الري، والحجر الأساسى فى نظام الري الحديث بمصر، يبلغ طولها حوالى 8400 ميل، وتبلغ مساحتها المائية 100.000 ميل مربع ويرجع السبب الرئيسى لأهمية هذا المكان وشهرته إلى موقعها على فرعى دمياط ورشيد عند تفرعهما من المجرى الرئيسى لنهر النيل شمال مدينة القاهرة. وقد استغرق بنائها حوالى 20 عام.
وفي جولة سياحية لهذا المعلم الأثري العظيم مدينة القناطر الخيرية والتي قامت بتنظيمها إدارة الوعى الأثرية لقطاع الآثار الإسلامية والقبطيه بالقاهرة بالتنسيق مع مناطق آثار القليوبيو
التقت مصر المحروسة بالأستاذ محمد خليل مدير إدارة الوعى الأثري لقطاع الآثار الاسلامية والقبطية وكان لنا معه هذا الحوار:
ما السبب الذي جعل محمد علي باشا ينشئ القناطر الخيرية ؟
كانت أراضي الوجه البحري في أوائل القرن التاسع عشر تروي بطريق الحياض فتختلف عن الوجه القبلي، فلا يزرع فيها إلا الشتوي، ولا يزرع الصيفي إلا على شواطئ النيل أو الترع القليلة المشتقة منه، وقد أخذ محمد علي في تغيير هذا النظام تدريجيا، إذ أخذ في شق الترع وتطهيرها وإقامة الجسور على شاطئ النيل ليضمن توفير مياه الري في معظم السنة .
وقد توج محمد علي أعمال الري التي أقامها بإنشاء القناطر الخيرية، واسمها يغني عن التعريف، فإنها قوام نظام الري الصيفي في الوجه البحري، وهي وإن كانت آخر أعماله في الري إلا أنها أعظمها نفعا وأجلها شأنا وأبقاها على الدهر أثرا.
وقد فكر فيها بعد ما شاهد بنفسه فوائد القناطر التي أنشأها ، ورأى أن كميات عظيمة من مياه الفيضان تضيع هدرا في البحر، ثم تفتقر الأراضي إلى مياه الري في باقي السنة
فاعتزم علي ضبط مياه النيل للانتفاع بها زمن التحاريق ولإحياء الزراعة الصيفية في الدلتا، وذلك بإنشاء قناطر كبرى في نقطة انفراج فرعي النيل المعروفة ببطن البقرة.
كيف درس محمد علي هذا المشروع؟وبمن استعان لتنفيذه ؟
عهد محمد علي بدراسة هذا المشروع إلى جماعة من كبار المهندسين، منهم المسيو لينان دي بلفون (لينان باشا) كبير مهندسيه، فوضع له تصميما وشرع في العمل وفقا لهذا التصميم سنة 1834، ثم ترك لوقت آخر، وعندما اعتزم محمد علي استئناف العمل استرشد بمهندس فرنسي آخر وهو المسيو موجيل بك إذ أعجبه مقدرته الهندسية في إنشاء حوض السفن بميناء الإسكندرية ، فعهد إليه وضع تصميم إقامة القناطر الخيرية، فقدم مشروعا يختلف عن تصميم المسيو لينان.
فالمسيو لينان كان يرى إنشاء القناطر على الأرض اليابسة بعيدا عن المجرى الأصلي للفرعين، واختار لذلك قطعتين بين ملتويين من ملتويات فرعي النيل حتى إذا تم إنشائها حول الفرعين إليها بحفر مجريين جديدين، ولكن مشروع موجيل بك يقتضي إقامة القناطر مباشرة في حوض النهر.
ويتألف المشروع من قنطرتين كبيرتين على فرعي النيل يوصل بينهما برصيف كبير، وشق ترع ثلاثة كبرى تتفرع عن النيل فيما وراء القناطر لتغذية الدلتا، وهي الرياحات الثلاثة المعروفة برياح المنوفية ورياح البحيرة ورياح الشرقية الذي عرف بالتوفيقي لأنه أنشئ في عهد الخديوي توفيق باشا.
متي وضع محمد علي حجر الأساس لهذا المشروع العظيم ؟
وضع محمد علي الحجر الأساسي للقناطر الخيرية في احتفال فخم يوم الجمعة 23 ربيع الثاني سنة 1263 (سنة 1847)، وكانت مدة حكمه الى ذلك العهد 43 سنة، واحتفاء بهذه المناسبة تمت صناعة ميدالية ذهبية مكتوبة باللغة التركية عملت كما جاء فى الوثائق منذ عام 1846 حيث (صدر أمر منه إلى ديوان خديوي فى 7 جمادى الأولى مبلغ (38.960 قرشا) ثمانية وثلاثين ألفا وتسعمائة وستين قرشا وثمانية عشر فضة هو ثمن الميداليات الذهب والفضة التى وضعت تحت أساس القناطر داخل صندوق من الخشب داخل صندوق من الذهب صنع بدقة وإحكام.
مرت القناطر الخيرية بعدت مراحل لإنشائها حدثنا عن هذه المراحل وكيف تم إنشائها؟
مرت إنشاء القناطر الخيرية بعدة مراحل، ل تصميمها لرفع مستوى النيل وراءها، حتى يمكن لثلاث ترع كبرى هى الرياح التوفيقى لرى شرق الدلتا، والرياح المنوفى لرى وسط الدلتا ، ورياح البحيرة لرى غرب الدلتا لتأخذ مياهها زمن التحاريق . وقد استدعى محمد على المهندس الفرنسى ( لينان دى بلفون بك ) من فرنسا لتنفيذ هذا المشروع الضخم . وكان المرتب الذى يتقاضاه لينان بك فى بداية عمله فى مصر كما ذكرت الوثائق على النحو التالي:
من الجناب العالى إلى (باقى بك) بتاريخ 26 ذى الحجة 1249 هـ - 1833 م – دفتر 49 معية تركى – وثيقة 635 بضم مبلغ خمسة «كيس» نقديا الى مرتب الخواجة لينان المهندس وإبلاغه إلى عشرة «كيس» نقديا وقيده فى دفاتر الخزينة على هذا الوجه.»
وبدأ لينان بك بتجهيز 1200 عامل ومهد لهم سبل الإعاشة من عمال مصريين وأجانب، وأنشأ خط سكة حديد لنقل محاجر طرة حتى نهر النيل. ولكن أصيبت الأعمال التى كانت تسير على خير ما يرام بالركود نتيجة انتشار وباء الطاعون الذى فتك بكثير من عمال القناطر وكثير من سكان مصر أيضا . إلا أن لينان بك استمر فى رسم الخرائط لتكملة هذا العمل الذى بلغت تكاليفه 1.880.000 جنيه ولكن جزء تصدع وانهار وظهر خلل فى بعض عيون القناطر بسبب ضغط المياه.
,رأى محمد على أن القناطر أوشكت على أن تتخرب بعدما أنفق عليها أموالا طائلة وحدثته نفسه يوما لتشهيل بنائها .. بهدم الأهرام الأبدية واستخدام حجارتها الضخمة لتكملة البناء، بل وأصدر أمرا بذلك إلى المهندس لينان بك وصمم على نفاذه. لولا أن هذا المهندس أقنعه بالأرقام. بأن ثمن المتر المكعب من الحجر الذى يستخرج من هدم تلك الآثار الفرعونية يكلف عشرة قروش ونصفا، بينما لا يكلف المتر المكعب المستخرج من المحاجر أكثر من ثمانية قروش وخمسة وسبعين فضة (وهى جزء من القرش).
ولكن فى هذه المرحلة الحرجة توفى محمد على باشا فى عام 1848 قبل أن يرى المشروع الذى طالما تاقت نفسه إلى اتمامه. وعندما آل الحكم إلى عباس حلمي الأول (1848-1853) أخذ المهندس الفرنسى موجيل بك يلح عليه بإنجاز هذا المشروع الضخم لكى لا تضيع ثمرة الأموال الطائلة التى أنفقت عليه، ولكن الخديوي عباس أيضا كان يقول وهو يشير إلى الأهرام (إنى لا أدرى ما الفائدة من وجود تلك الجبال من الصخور المرصوصة فوق بعضها، فاذهب واهدمها واستخدم حجارتها فى اتمام عمل القناطر). فخشى المهندس موجيل بك من تنفيذ هذا الأمر حتى لا ينعت على مر العصور بأنه (هادم الأهرام). وكلما فكر فى هذا الأمر يقف شعر رأسه رعبا.
واضطر عباس إلى إعادة المهندس لينان بك للعمل وعرض تقرير تفصيلى بالنفقات اللازمة لإتمام المشروع الذى أقل ما فيه من فائدة الاستغناء عن 25.000 ساقية وشادوف ورى أربعة ملايين من الأفدنة، ويمنع استمرار انصراف مياه فرع دمياط إلى فرع رشيد لانخفاض مجرى هذا عن مجرى ذاك. وبالفعل تمت الموافقة واستكمل الإنجاز المبهر حتى عام 1878 . وفى عام 1855 فى عهد الخديوي سعيد باشا ( 1854-1863) تم إنشاء قلعة حربية بجوار القناطر سميت (القلعة السعيدية) للدفاع عن البلاد عن طريق البر ..ولكن هذه القلعة احترقت فجأة وكان بها كثير من الرسومات والأوراق التاريخية الخاصة بهذه القناطر، والأثر الوحيد الباقى من أثاث هذه القلعة هو ساعة للمكتب كبيرة محفوظة بمكتب وزير الأشغال.
وفى عهد الخديوي إسماعيل (1863-1895) تمت تقوية القناطر الخيرية عام 1888 وظلت التجديدات تتوالى عليها فترة بعد أخرى حتى أصبحت القناطر القديمة وقلعتها معلما هاما من المعالم الأثرية الباقية . وظلت القناطر الخيرية تعمل حتى نهاية عام 1939، وبلغت تكاليف إنشائها وقتئذ 3.500 مليون جنيه حتى تم إنشاء قناطر محمد على (قناطر الدلتا الجديدة) خلف القناطر القديمة التى أصبح استخدامها مقصورا على أغراض المرور باعتبارها من أعظم الآثار الهندسية لمصر الحديثة والتى كانت محط الإعجاب وموضع الفخار الأبدى.
وقد شرع في العمل على قاعدة تصميم موجيل بك وبمعاونة مصطفى بهجت باشا ومظهر باشا المهندسين الكبيرين المتخرجين من البعثات العلمية.
ويقول المسيو شيلو : "إن مشروع القناطر الخيرية كان يعد في ذلك العهد أنه أكبر أعمال الري في العالم قاطبة، لأن فن بناء القناطر على الأنهار لم يكن بلغ من التقدم ما بلغه اليوم، فإقامة القناطر الخيرية بوضعها وضخامتها كان يعد إقداما يداخله شي من المجازفة".
وقال المسيو بارو: "أن هذه أول مرة أقيمت فيها قناطر كبرى من هذا النوع على نهر كبير".
هل تعرضت القناطر لأي خلل منذ نشأتها حتي الآن؟
لقد ظهر خلل في بعض العيون في عهد الخديوي إسماعيل سنة 1867 فأصلح الخلل طبقا لآراء موجيل بك (وكان قد غادر مصر إلى فرنسا) وبهجت باشا ومظهر باشا، ثم أصلح بناء القناطر ثانية في العصر الحديث لتقويتها، وتمت أعمال الإصلاح والتقوية في سنة 1891 حتى بلغت شأنها الحالي، ورجعت الحكومة إلى رأي موجيل بك في هذا الإصلاح، وجاء مصر وكان قد بلغ الخامسة والسبعين من سنه، فعينته الحكومة مهندسا مستشار للقناطر، فتم الإصلاح وفقا لرأيه، وبذلك تسنى لهذا المهندس الكبير أن يكون على يده إنشاء القناطر من ابتداء العمل فيها إلى تمام بناءها.