القاهرة 20 نوفمبر 2018 الساعة 10:07 ص
كتب : طلعت رضوان
أعتقد أنّ المثقف فى كل العصور يكون فى حالة صراع نفسى.. بين الولاء لنفسه ولقناعاته ومبادئه، أم الانحياز لسلطة الحكم؟ ومع مراعاة أنّ الاختيار بين هذيْن النقيضيْن سيترتــّـب عليه: (تحديد موقف المثقف الاجتماعى) بمعنى أنه لو منح الولاء لسلطة الحكم، فسوف ينعم بعطاياها وكافة مزاياها.. وسوف تــُـفتح أمامه كل الأبواب، التى ستصعد به إلى سماوات النجومية..وتحقيق كل ما يصبو إليه، أو حتى ما لم يـُـفكــر فيه أو يتوقــّـعه أو ينتظره، بينما الاختيار الثانى (الولاء لنفسه ولمعتقداته) سيـُـحرمه من كل ما سبق..وليس هذا (فقط) وإنما ستنغلق أمامه كل الأبواب، ليس من أجل المال بل من أجل وصول كلمته للناس.
وحول هذا الموضوع كتبتْ د.هالة أحمد فؤاد فى كتابها المهم عن التوحيدى، الصادرعن هيئة الكتاب المصرية- عام2017، أنه ((من اللافت للانتباه أنْ ينتمى كل من التوحيدى وإخوان الصفا إلى جماعات المثقفين المُـهمشين، بالقياس إلى المثقفين الرسميين، الهاجعين بدرجة أوبأخرى فى فضاء السلطة (مثل مسكويه) الذى وعى حدة الصراع الداخلى لدى الإنسان، بين روحه العاقلة الناطقة من ناحية، ومتطلبات جسده وشهواته..وذلك بالرغم من أنه سبق له أنْ حذّرمن سقوط الإنسان (فى قبضة البهيمية) حيث اعتبر هذا انسلاخـًـا عن الصورة الإنسانية المُـتميزة، وسعيـًـا فى طريق الهلاك، لكنه كغيره من المفكرين (ذوى النزعة الأرسطية) مال لتأسيس علاقات التوازن الأخلاقى (بمعنى الاعتدال بين الإفراط والتفريط) داخل الكيان الإنسانى، حتى يـُـحقق سعادة الإنسان و(مصالحه الشخصية) داخل هذا العالم..وكان يتصوّرأنه يـُـحقق سعادته (فى الآخرة) وفق منظوره الدينى (ص22)
وذكرتْ أنّ التوحيدى كتب كثيرًا عن الفرق بين المثقفين فى عصره، وعلاقتهم بسلطة الحكم .. وكان من بين كتاباته أنه ألقى الضوء على المُـفكر الذى لا تذكره كتب التاريخ كثيرًا، ويكاد أنْ يكون مغمورًا بين معظم المثقفين العرب، وغيرالعرب، إنه (ابن إبى كانون) الذى تتلمذ على يد (أبى عبدالله البصرى) فذكر التوحيدى أنّ ابن أبى كانون قال: فارقتُ وطنى وأهلى وإخوانى ومعارفى .. ونزلتُ بين جفاء الغربة ووحشة الوحدة وشظف العيش .. وكل ذلك لأبرد به غليل قلبى (فى الدين والمذهب) وبعد الدراسة الطويلة على يد شيخى ((حصلتُ على العسروالغاية العمياء)) وأضاف أنّ ((صاحب الدنيا يعمل للعاجلة)) .
وكان تعليق د.هالة أنّ هذا النص: يكشف لنا عن مُـفارقة مهمة, وأظن أنّ التوحيدى قصد بها إبرازخطورتها وسوء تأثيرها ونتائجها الضارة (معرفيـًـا وقيميـًـا) إنها المفارقة بين الوهم والحقيقة، أوالسمعة والصيت الزائف الذى يتم ترويجه, وإشاعته حول بعض العلماء المُـرائين (الانتهازيين) والأدعياء, والذين استخدموا العلم استخدامًـا سطحيـًـا فجـًـا، بهدف الحصول على الدنيا ومباهجها ومتعها؛ وبالتالى حصلوا على الشهرة الكاذبة..
وبالطبع فإنّ صاحب النص يومىء إلى الدورالخفى المهم الذى لعبته السلطة فى صياغة حضورهؤلاء ودعمهم، وجعلهم ملء السمع والبصردون جدارة أواستحقاق,وذلك ثمن مجاورة السلطان وخدمته خدمة العبد لسيده الأخرق, كما كتب عن خطورة شيوع هذه الظاهرة، حيث ينخدع المُخلصون، من أمثال ابن أبى كانون، الذى كان يسعى لطلب العلم والحقيقة، مثلما ينخدع السُـذج والبلهاء، بينما (المفترض) فضـْـح (الأساتذة) الكاذبين لاكتشاف الحقيقة..واختتمتْ المؤلفة كلامها عن ابن أبى كانون أنّ وضعيته كانت ((وضعية طالب العلم الفقيرالمُهمش)) مقابل المُـتعالم المُـرائى المنافق المُـستلب ((والساقط فى أسرالمخايلة الذاتية الوهمية)) (المصدرالسابق- من ص122- 125)
وذكرتْ المؤلفة أنّ التوحيدى كتب كثيرًا عن ظاهرة الانتحار(سواء فى كتاب الهوامل والشوامل أوفي كتابه المقابسات, وأنه عندما كان يكتب، فلم يكن يمارس تسلية عقلية أو يكتفى برصد حادثة رآها أوسمع عنها، لكنه كان يغوص فى عمق الشقاء، الذى يـُـعانيه الأفراد داخل فضائات المدينة المتوحشة؛ ولذلك نجد أنه ربط موضوع الانتحار بالظروف التى دفعتْ الإنسان إلى قتل نفسه, ومن بينها الإخفاقات المتوالية على المرء, ومنها الفقروما يترتب عليه من مذلة..
وحكى التوحيدى حكاية الرجل الذى رآه وقد اجتاز طرف الجسر, وقد قبض عليه رجال الشرطة ليذهبوا به إلى السجن, ولكن الرجل هرب منهم عندما رأى محل (حلاقة) وشاهد الموسى معلقــًـا، فاختطفه بسرعة البرق ومرّره على حلقومه، فإذا هو يخورفى دمائه وقد فارق الروح وودّع الحياة.
وكان تعقيب المؤلفة أنّ الحكاية دالة على ممارسات البغْى والقمع السلطوى التى يمكن أنْ تكون كامنة وراء هذا الفعل (اللامعقول) من مثل هذا الرجل الذى لا نعرف هويته ولا تهمته (أثناء القبض عليه من الشرطة) بينما لا يبدو من سلوكه الانتحارى مجرمًـا عتيدًا، بل يبدو إنسانــًـا مظلومًـا يائسـًـا من إمكانات الرحمة والعدل داخل هذا العالم الجائر.
وحكى التوحيدى حكاية أخرى فى المقابسات فقال: شاهدنا فى هذه الأيام شيخـًـا من أهل العلم، ساءتْ حالته وضاق رزقه, واشتد نفورالناس منه, فلما توالتْ عليه المصائب دخل منزله ومدّ حبلا إلى سقف البيت, واختنق به.
وكان تعقيب المؤلفة: ربما كان هذا الشيخ الذى شنق نفسه (مرآة للتوحيدى وأمثاله) من المُـثقفين الهامشيين الفقراء، داخل فضاءات النخب ذات المعاييرالظالمة الجائرة, ومن اللافت حقــًـا أنْ يتأرجح موقف التوحيدى، إزاء هذه الحالات بين التعاطف والرفض (ص147)
ويذهب ظنى أنّ هذه الازدواجية أوهذا التناقض- الذى لم تهتم المؤلفة بإبرازه- سببه تشبث التوحيدى بالمرجعية الدينية، بالرغم من وعيه وإدراكه لأهمية وخطورة البعد الاجتماعى والظروف المعيشية.
كان سلاطين العصرالذى وُجد فيه التوحيدى لا ينظرون ولا يهتمون بالإبداع الفكرى لأمثال التوحيدى, ولكنهم اهتموا وبالغوا فى الاهتمام بالسطحيين الأدعياء، الذين لا يجيدون غير شعر المديح والهجاء؛ وبالتالى أصبح أمثال التوحيدى من المُـهمشين, وكان من بينهم إخوان الصفا، الذين أثروا الواقع الثقافى (فى عصرهم) بالمزيد من الأفكارالتى ترقى إلى مرتبة النظر والتأمل (فلسفة الحياة) ومن أمثلة ذلك أنهم كتبوا فى إحدى رسائلهم:
ذكروا أنه كان رجل من أرباب النعم, وكان له ابن يجاهر بشرب الخمر، فحاول أبوه أنْ يجعله يتوقف عن شرب الخمر, ولكى يـُـغريه وعده بمنحه بعض العقارات والأموال. فسأله الابن: ولماذا تفعل ذلك يا أبى؟ قال الأب: كى تعيش سعيدًا، فقال الابن: أنا إذا سكرت وجدتُ نفسى سعيدًا فرحـًـا، حتى أظن أننى أمتلك مال كسرى، وأتخيل (من نشوة العظمة والجلال) أنّ العصفورصار مثل البعير. فقال أبوه: ولكنك عندما تستيقظ لا ترى ذلك حقيقة. فقال الابن: أعود فأشرب ثانية حتى أسكر فأرى ما سبق أنْ رأيته (المصدرالسابق- ص16، 17)
أعتقد أنّ إخوان الصفا استهدفوا فى هذا الرسالة، تنبيه القارىء إلى (خطورة الوهم) الذى يخلقه الإنسان لنفسه ويـُـصـدّقه، سواء كان هذا الوهم نتيجة شرب الخمر أو نتيجة أمراض نفسية أو بسبب الظروف الاجتماعية والمعيشية التى تــُـجبر الإنسان الواقع تحت (مقصلة هذه الظروف) للهروب من الواقع الحقيقى إلى (واقع آخرمن صنع خياله) فيرى نفسه مع سحابات دخان الحشيش، أو مع تأثير الخمر أنه يسبح فى الفضاء, ويعيش فى القصور, ويعشق ملكات الجمال.
وإخوان الصفا (الذين همّـشهم السلاطين وأعلوا من شأن التافهين/ المداحين) كتبوا فى (رسالة الحيوان) على لسان الحيوانات: هكذا سيرة حياة بنى الإنسان، فإنهم يأكلون لحوم الجدى والغنم والبقرإلخ.. وإذا ماتوا أكلتهم فى قبورهم الديدان والنمل والذباب.. وقد سمعنا أيها الملك أنّ هؤلاء الإنس يزعمون أنهم أربابنا.. وأنّ سائرالحيوانات عبيدٌ لهم، فهل بيننا فرق: فإنهم (آكلون) ثم هم بعد ذلك (مأكلون) فبماذا يفتخر بنو الإنسان على الحيوانات؟ ونهاياتهم مثل نهاياتنا.. ومصيرهم مثل مصيرنا.. وكلهم من التراب خلقوا.. وإليه يرجعون.. ولذلك فإننا (نحن الحيوانات) نتعجب من جهل البشر.. ومن طغيانهم وإعجابهم بأنفسهم.. ومكابرتهم ومخالفتهم للعقل (إخوان الصفا- الرسائل- ج2- ص297، 298)
أليس ما جاء فى تلك الرسالة (على لسان الحيوانات) من دورة الحياة (من الميلاد إلى الوفاة) وتشمل (كافة) الكائنات الحية (من البشر والثدييات والحشرات والطيور إلخ) الدورة التى تــُـعلن بكل وضوح، أنه بعد الموت تبدأ دورة جديدة، فتأتى الديدان لتأكل الإنسان..والأسماك لتأكل الديدان..وهكذا بلا نهاية..وبالتالى أليس ما جاء فى رسالة إخوان الصفا (فلسفة)؟ فلماذا غضب عليهم الملوك وهاجمهم التافهون ندماء السلاطين أدعياء العلم؟ وأليس ما جاء فى (رسالة الحيوانات) التى كتبها إخوان الصفا فى القرن العاشرالميلادى، جاء مثله تمامـًـا فى إحدى روائع شكسبيرعلى لسان هاملت فى مشهد (حفارالقبور)؟ بالرغم من أنّ شكسبير جاء بعد إخوان الصفا بخمسة قرون..وألا يعنى ذلك إنّ المهمشين (من أصحاب العقول الحرة) فى كل عصورالاستبداد، من المُـصنــّـفين على أنهم (من المغضوب عليهم والضالين)؟
ونظرًا لأنّ المُـفكرين الجادين الذين تأملوا دورة الحياة والموت، كانوا وكأنهم يعيشون فى عصر واحد (بالرغم من التباعد الزمنى) لذلك لم تكن مُـصادفة أنْ يـُـعبـّـر فيلسوف الشعر المصرى (صلاح جاهين) عن ذات المعنى عندما كتب ((يا طير يا عالى فى السما طظ فيك..ما تفتكرشى ربنا مصطفيك.. برضك بتاكل دود وللطين تعود.. تمص فيه يا حلو..ويمص فيك))
وأعتقد أنّ ما جاء فى (رسالة الحيوانات) تؤكد أنّ إخوان الصفا كانوا من المؤمنين بأهمية التعددية الفكرية, وأنهم كانوا (بشكل نسبى) ضد الأحادية, ولعلّ هذا ما جعل د.هالة أحمد فؤاد فى دراستها المهمة عن التوحيدى، فى كتاب مكون من 1025صفحة من القطع الكبير, وأشارتْ فيه إلى العلاقة العميقة بين التوحيدى وإخوان الصفا.. ويتبين من مراجعها أنها قرأتْ كل كتابات إخوان الصفا, ولذلك استوقفتنى جملة مهمة فى كتابها قالت فيها ((إنّ إخوان الصفا لا يكفون عن الحديث عن تنوع الآراء واختلاف المذاهب وتنوع الأجناس وطبائع الأمم وتعدد الديانات، وامكانات الحوار والتعاون والتكامل الإنسانى، بل السعى لتشكيل دولة عالمية, وإنسان كوني, هذا رغم الطابع الشيعى الروحانى لمدنهم، بوصفها البديل للحكم العباسى السنى الذى لم يستطع تحقيق الاستقرار)) (ص153)
ولذلك - كما أعتقد- كان مصير إخوان الصفا والتوحيدي وأمثالهم، أنْ يكونوا من المُـهمّـشين.