القاهرة 16 اكتوبر 2018 الساعة 09:37 ص
د.محمد السيد إسماعيل
يعد الشعر أكثر الأجناس الأدبية استجابة للتطورات الحضارية المتلاحقة, وقد ظل من الشائع تقسيم الشعر بناء على البعد الزمني إلى عصور متعاقبة بدءا من العصر الجاهلى و انتهاء بالعصر الحديث, أو بناء على البعد الفني من قبل تقسيم الشعراء إلى شعراء الطبع – البحترى مثالا- وشعراء الصنعة كأبى تمام, أو القدماء والمحدثين, أو بناء على ما شاع فى العصر الحديث من مذاهب أدبية كالإحيائية والرومانسية والواقعية والرمزية .
ورغم صحة هذه التقسيمات وجدواها وقدرتها على مقاربة الشعر يظل من المهم أن نتعامل مع الوسيط الذى تنتقل من خلاله " الرسالة " – الشعر – من المرسل – الشاعر – إلى المتلقي ، لقد ظل هذا الوسيط مهملا ولم يلتفت إليه كثيرا إلا فى العقود الأخيرة من خلال بعض الدراسات القليلة التى طرحت تأثير الشفاهية والكتابية على النص الشعرى أو السردى, فلا شك فى أن انتقال الشعر من الشفاهية – فى العصر الجاهلى – إلى الكتابية قد صاحبه كثير من التغيرات الجمالية منها على سبيل المثال الانتقال من المباشرة إلى التعقيد الدلالي, ومن السمات الجاذبة للأذن إلى ما يلائم الرؤية البصرية, ولا شك أن مثل هذه السمات الشفاهية ظلت مستمرة مع ما لحقها من سمات كتابية حتى العصر الحديث, وليس أدل على ذلك من قول البارودى " تكلمت كالماضين قبلى بما جرت / به عادة الشعراء أن يتكلموا " فالشعر – عنده – كلام يلقى وتستقبله " أذن " المتلقي بكل مايستلزمه ذلك من جماليات على مستوى اللغة والصورة الشعرية والإيقاع.
ويمكن القول إن حركة الشعر الحر – شعر التفعيلة – هى أكثر الحركات الشعرية استفادة من الجماليات الكتابية بما أتاحه شكلها المعتمد على الدفقة الشعرية التى لا تلتزم بعدد محدد من التفعيلات, من إمكانيات تشكيل فضاء الصفحة الشعرية التى توزعت عليها الكلمات بناء على حركة الدلالة التى يسعى الشاعر إلى تأكيدها .
نحن الآن – ومنذ عقود – أمام ثورة جديدة تتمثل فى توظيف وسائل التواصل الألكترونى من خلال ما يسمى بشبكة الإنترنت التى جعلت العالم أشبه بالغرفة المغلقة وليس – فحسب – أشبه بالقرية كما كان يقال, وهو ما هدد السلطة الورقية الكتابية وأصبح من الممكن وصف هذا التواصل "الافتراضى" بالسلطة الخامسة بعد سلطة الصحافة الرابعة؛ حيث أصبح التواصل الافتراضى لحظيا من خلال اصطحاب الهاتف الجوال – الموبايل – بإمكانياته المتعددة : الانترنت – القنوات التلفزيونية – الإذاعة – الكاميرا – المنبه – الساعة – الحاسبة, فمن خلال هذا الجهاز الصغير الذى لايزيد عن حجم " الكف " يستطيع الفرد التواصل مع العالم أينما كان ووقتما يشاء, وأصبح من المتوقع والطبيعى أن تترك كل هذه الإمكانيات تأثيراتها على القصيدة من خلال جدل الفضاء الافتراضى والواقع المعيش.
ويعد الشاعر المصرى خالد حسان فى مقدمة من وظفوا هذا الفضاء الافتراضى وأصبح – بصورة أساسية – نافذتهم على العالم ولا يرجع ذلك إلى أزمة النشر الورقي بل إلى رغبته فى تحقيق حريته الإبداعية, فالفيسبوك نافذة لا تخضع لآراء النقاد أو لتقارير لجان الفحص! "الفيسبوك" أشبه بالمسرح الحى حيث يتفاعل الجمهور لحظة بلحظة مع ما ينشر سواء بالرفض أو القبول أو إبداء الملاحظات, وتبدو "التعليقات" وجهات نظر كاشفة للنص ومضيفة إليه كما لو كنا فى مائدة مستديرة أو "ندوة" مفتوحة للمداخلات المختلفة, " الفيسبوك " يكسر هيمنة الصوت الواحد سواء أكان صوت الشاعر أم صوت الناقد, لقد تم تفكيك السلطة وتوزيعها وأصبح التلقى جزءا من بنية النص.
نحن فى "عصر الجماهير الغفيرة" الذى لا يخضع لهيبة الألقاب ولا يعترف بالكلمة النهائية، عصر ما بعد الحداثة الذى يتساوى فيه الرسمى والشعبى والحداثة العليا والحداثة الرثة والذائقة المثقفة والذائقة الفطرية.
ولنتأمل هذا النص الطويل نسبيا لكى نتعرف على من أسماهم خالد حسان بشعراء الفيسبوك : " أنا أحد شعراء الفيسبوك / واحد من هؤلاء الذين يرهقون أنفسهم فى متابعة عداد اللايكات طوال اليوم / الذين ينتظرون تعليقات أصدقائهم كمن ينتظر معجزة / الذين قد تعنى لهم " علامة قلب" الكثير / الذين لايقرأون بقدر مايكتبون / الذين يقعون فى إحراج بالغ عند كتابة سيرتهم الذاتية / ......./ الذين اتفق الجميع على أن مايكتبونه خواطر وليس شعرا / الذين لم يقرأوا المتنبى أو أحمد شوقى أو حافظ إبراهيم ....../ الذين يكتبون قصائد مجانية تعطى نفسها من أول مرة / الذين يطاردون الحياة على حوائط فيسبوك / وفى الغالب لا يجدونها "
هذا نص كاشف أشبه بالبيان الشعرى الذى يحدد طبيعة الشعر وغاياته, فالشاعر لم يعد يعنيه آراء النقاد أو الصحفيين أو الشعراء المكرسون بسلطة الخطاب النقدى, الشاعر – هنا – يتوجه إلى جمهور آخر مختلف يعبر عن رأيه بتقنيات فيسبوك الجديدة : " اللايك " أو " علامة قلب " أو تعليق الأصدقاء الذين لا يفترق عنهم, ولا يرى فى نفسه امتدادا لكبار الشعراء.
ونوعية هذا الجمهور تحدد طبيعة الشعر الذى ينبغى أن يكون مجانيا مباشرا يعطى نفسه لقارئه من أول مرة ، الشعر – هنا – بسيط بساطة صاحبه وبساطة جمهوره الذى ينتظره على " جدار فيسبوك ", وليس ذلك الفن المهيب الذى يلهث وراءه الشعراء دون أن يقتربوا منه والذى يبدو مثل " الكائن المتعالى الكبير المراوغ / الذى ليس له قلب / الذى يضحك من أحزاننا / الذى عادة ما ينظر إلى لغتنا بسخرية واشمئزاز / الذى لا يعبأ بلهاث الكثيرين خلفه / هؤلاء الذين يضيعون أعمارهم فى مطاردته بلا جدوى "
هذا الشعر الجليل المهيب المترفع عن البشر وعن نثريات الحياة البسيطة اليومية لم يعد هدف شاعر اللحظة الراهنة, لقد أصبح الشعر صوت الذات فى سعيها اليومى, أصبح رفيقا بسيطا يلازم الشاعر ويختلط بأنفاسه وأوجاعه فى بساطة ووضوح, ويصبح " فيسبوك " – فى هذه الحالة – عالما بديلا للحياة, أو يصبح هو الحياة ذاتها عند الشاعر وليس – فحسب – نافذته على العالم, وتصبح " الصورة " – التى نحيا عصرها – هى كل شىء، الصورة بديل عن الكائن الحى "أحب صورتك على فيسبوك / ولا أجرؤ أن أصارحك بذلك / فى رسالة عابرة / كل ليلة أشاهدها كأننى أراها لأول مرة"
هذه السطور تعكس طبيعة العلاقة الافتراضية بين الشاعر وفتاته من خلال صورتها على " فيسبوك " دون أن نعرف اسمها أو نتعرف على مواقف تمت بينهما, ولعل من الطريف أن نقارن بين هذه العلاقة الافتراضية وقول شوقي معبرا عن خطوات العلاقة الغرامية التى تعكس إيقاع عصره, هذه الخطوات التى تتمثل فى قوله " نظرة فابتسامة فسلام / فكلام فموعد فلقاء " ويستمر هذا الجدل بين الافتراضى والواقعى حيث يفضى كل منهما – فى نهاية الأمر – إلى الآخر : " لابأس / رغم كل شىء / يتذكر " مارك " يوم مولدى / وتشارك زوجتى بعض نصوصى على فيسبوك / دون أن نقرأها / لابأس / رغم كل شىء / أطفالى يحبوننى / ويعاملنى بعض أصدقائى / على أننى شاعر "
وهكذا استطاعت شعرية اللحظة الراهنة توظيف تقنيات الفضاء الافتراضى وإدخاله فى بنية القصيدة؛ بغرض إنتاج نصوص مغايرة عما سبقها .