القاهرة 09 اكتوبر 2018 الساعة 11:49 ص
د. محمد سمير عبد السلام
تنسج كتابة الروائي المصري المبدع محمد إبراهيم طه خطابا سرديا تصويريا احتماليا كثيفا، يراوح بين الفضاءات الواقعية، والافتراضية، وعوالم الوعي، واللاوعي، والوجود الظاهراتي، وأحداث الذاكرة في وعي الشخصية، ويرصد السارد التحولات الداخلية الروحية في شخصياته، وما يمكن أن تولده من صور، وأطياف في وعيه، ولاوعيه، فضلا عن تجلي الوعي نفسه كموضوع للتساؤل، والمعرفة في الصيرورة السردية للنص؛ إذ تتداخل الفضاءات، ومستويات الوجود؛ لتستنزف البنى التقليدية حول الهوية، والنهايات الحاسمة، وكذلك البدايات، والنشوء التاريخي الذي يختلط بالسرد التفسيري للحدث؛ ومن ثم يمتزج مسار الشخصية بتأويلاتها الجمالية، والفلسفية المحتملة؛ وتبدو مثل هذه الملامح، والتيمات الفنية واضحة في نص محمد إبراهيم طه الروائي باب الدنيا، وقد صدر عن دار النسيم للنشر بالقاهرة سنة 2017.
تهيمن على وعي السارد – في النص – فكرة المصير المشترك بينه، وبين مسار ابن عمته فتح الله؛ ويمكننا تلمس ذلك الوعي التفسيري السردي بالمصير المشترك في لحظات الولادة، وتوافقاتها التاريخية، والجمالية، وذكريات الطفولة، والتطور الروحي، ثم الموت، وتشبيهاته، أو حضوره الاستعاري في النص.
إن فكرة المصير المشترك تنبع من مدلول الهارموني الجمالي، وربما الموسيقي بين الشخصيتين؛ ومن ثم فهي فكرة تفسيرية حكائية تنتظم فيها الوظائف السردية في متواليات تؤكد ذلك التوافق، بينما تسير بعض الوظائف السردية في نسيج بعض الاختلافات التاريخية في ميقات موت فتح الله مثلا، أو بعض مشاكله المهنية، أو حضوره الاجتماعي.
تحتمل الهوية الذاتية – إذا – الحضور المحتمل للآخر بداخلها؛ فلا يمكن فصل فتح الله عن عوالم إبراهيم / البطل الإدراكية، فضلا عن تجليه كمروي عليه طيفي، ومتعلق بالذاكرة في آن في القسم الثاني من الرواية، كما نلاحظ نوعا من الاستبدال الجمالي المحتمل بين تداعيات الكتابة، والمتواليات السيرية للشخصيتين؛ وكأن أحدهما يستبق صيرورة الآخر، أو يعيد تشكيله فيما وراء الواقع، وحدوده، ونهاياته المحتملة.
وينسج السارد نسقا سيميائيا تصويريا، تتراوح علاماته بين الحلم، والواقع، والعوالم الفنية الافتراضية؛ إذ تتجلى - عبر صيرورة السرد – علامات مثل شجرة البونسيانا المزهرة، والصحراء، والقبر، والصبار، وجبلاية التين، واللوحة، والأرجوحة، وفريق الكورال بالجامعة، ومسبحة فتح الله، وغيرها؛ لتومئ إلى التوافقات الجمالية، والروحية التفسيرية بين فتح الله، والسارد / الدكتور إبراهيم من جهة، وانفتاح الأبواب التي تبدو زجاجية طيفية بين الوجود الظاهراتي، والواقع، أو بين الموت، والحياة الافتراضية من جهة أخرى.
وتكمن إشكالية تناول الخطاب السردي للوعي كموضوع في تسجيل الوعي للمواقف السردية، والفضاءات التي يتراوح حضورها بين الواقع، وما وراء الواقع، أو في التجليات الاحتمالية الجمالية للموت، والحياة، وللخبرات الحسية / الروحية المتعالية في النص؛ إذ ينتقل وعي الشخصية من تسجيل حدث وفاة فتح الله مثلا، إلى رؤية طيفه مع مسبحة طويلة كالثعبان، أو يلج كل منهما الفيلا بينما يسبحان في فضاء تصويري للوحة فنية؛ فضلا عن أزمة البطل القلبية التي توافقت – في الخطاب السردي التفسيري – مع حدث وفاة فتح الله، وجذورها التي انبثقت من حلم غرق الأرجوحة، والسياق الواقعي معا؛ ومن ثم يفكك الخطاب مركزية المتواليات السردية التاريخية من داخل انطوائها على الرؤى الاستعارية الحلمية، والعوالم الافتراضية، وطفرات السرد فيما يتعلق بالحضور الزمكاني للشخصية، واستبدالاتها الممكنة في العالم الداخلي للآخر.
وتؤكد عتبة العنوان / باب الدنيا التداخلات الجمالية بين الفضاءات، والهويات الشخصية، والعوالم الواقعية، والاستعارية، والحلمية / الكونية عبر علامة الباب الذي يستنزف بنى الحجب من داخلها؛ فالنص يكشف عن العوالم التمثيلية الممكنة، ومدى تجليها في الوعي، وإشكاليات الإدراك، وحالات الأداء في تداعيات النص السردي.
أولا: إشكالية الوعي بالذات، والعالم :
ينتقل السارد / البطل في رواية محمد إبراهيم طه من التساؤلات المعرفية عن الواقع إلى التجلي الظاهراتي لذلك الواقع في الوعي، واللاوعي، وقد ترتد الأسئلة المعرفية إلى آليات الوعي نفسها في عمليات الإدراك؛ ومن ثم يصير السرد تفسيريا، ومؤكدا لفكرة المصير المشترك بين الراوي، وفتح الله في سياق تاريخي تفسيري إبداعي.
يتعرض السارد / البطل لأزمة قلبية مجهولة السبب حين تتجه إشاراته إلى موت فتح الله، ويبدو السرد – في ذلك السياق الواقعي – مماثلا لولوج عوالم الحلم، وطفراتها، وتحولاتها، أو حضورها الظاهراتي التصويري، رغم الإيحاء بواقعية الحدث، ولكنها واقعية تختلط بحكي تأويلي تنتظم فيه المتوالية السردية باتجاه استباق النهايات، أو باتجاه نهاية استعارية مؤجلة.
يشير السارد إلى وجوده في العناية المركزة لسبع ساعات، وتشخيص الدكتور بنداري لإصابته بجلطة في القلب ثم يصف المكان وصفا واقعيا ظاهراتيا، وينتقل إلى التساؤل المعرفي حول وجوده الذاتي، ووعيه بالوجود والعالم:
يقول:
"واصلت التقدم على طنين كأنه حفيف أوراق، أو أصوات طيور، أو موسيقى لا أعرف مصدرها، ثم تفرعت الطريق إلى سكك ترابية ملتوية، ومتشابهة، تعانق جداول تتشعب بين مساحات ذرة مرتفعة. لم أميز أيهما الأصل: الجداول أم السكك؟ ... ولاح لي الأنين الموجع كأنما لناي، والصوت الجماعي كأنما لكورال شرقي بدأت في التعرف عليه ... وأبصرت من خلف الأشجار جموعا محتشدة؛ فلم يداخلني شك في أنهم كانوا يرددون على بلد المحبوب وديني". ص 6.
ويكشف تحليل الخطاب السردي السابق عن بزوغ موسيقى كونية / داخلية، تماثل الهارموني بين مصير كل من الشخصيتين، ثم تتداخل الرؤى الواقعية، والتصويرية في تداخل كل من الجداول، والسكك؛ ومن ثم يصير السرد احتماليا، ويرتكز الخطاب على التساؤل:
"لم أميز أيهما الأصل: الجداول أم السكك؟"
إن الواقع يستبدل بظاهرة قيد التشكل، والتساؤل في الوعي؛ إذ يختلط الواقع بالسرد التفسيري الاحتمالي، والحلمي أحيانا؛ ويؤكد ذلك استخدام السارد للفعل لاح، ثم الأداة كأن، كما يبدو الناي حلميا ومؤكدا للنهايات بينما يستنزف بنيتها في تجدد فعل الغناء، وانتقاله من مستوى الذاكرة، إلى مستوى اللاوعي، والسرد التأويلي لعلاماته الاستعارية.
وينتقل التساؤل المعرفي باتجاه الوعي المدرك نفسه، ومدى تسجيله للظواهر التي تختلط ببكارة الاكتشاف الأولى، واختلاطها بالصور والتشبيهات كما هي في تصور جان بودريار؛ يقول:
"ولاح لي أن السابوه المترب في قدمي هو الذي خلعه بنداري من قدمه، فلم أدرك إذا ما كنت داخلا إلى الدنيا أم خارجا للتو منها، لكنني كنت في هذه اللحظة أرى الدنيا كأنما لأول مرة". ص 6.
إن السارد ليرصد وجوده في واقع مماثل للعوالم الحلمية؛ ومن ثم ترتد تساؤلاته إلى الوعي نفسه حين يتساءل حول جوده في الدنيا، أم خارجها، وحين يكتفي الوعي بتسجيل الواقع التشبيهي.
ويومئ السارد في خطابه إلى المقابر، وذكرى زراعة فتح الله لشجرة البونسيانا كبديل عن الصبار في المقبرة.
وأرى أن علامة شجرة البونسيانا – في الخطاب السردي – تشير إلى دلالتين:
الأولى: حكمة تصالح فتح الله مع مدلول الموت، واستنزافه من خلال بهجة الشجرة المزهرة، والتي تومئ إلى فكرة التجدد المستمدة من التراث الثقافي والذاكرة الجمعية.
الثانية: تتوافق علامة شجرة البونسيانا مع العالم الجمالي الافتراضي في وعي ولا وعي البطل / إبراهيم؛ والمتصل بالموسيقى، والغناء؛ إذ تستخدم بعض أجزائها في العزف الموسيقي؛ ومن ثم يتجدد الغناء في فضاء المقابر؛ وكأنها بوابة أخرى للحياة، أو معبر للأبدية، والتوافق الروحي المتجانس؛ ومن ثم يتجه السرد التفسيري هنا إلى تفكيك مركزية الوعي بالذات، والعالم من جهة، واستنزاف النهايات المحتملة من جهة أخرى.
ويرى الفيلسوف الفرنسي بول ريكور – بصدد السرد التفسيري للحلم في الوعي واللاوعي – أن كلا من الأسطوري، والحلمي يشتركان في بنية المعنى المزدوج للرمز؛ فالحلم بوصفه مشهدا ليليا، لا نبلغه إلا بسرد المستيقظ، وهذا السرد هو الذي يفسره المحلل النفسي؛ إذ ينيب مناب هذا السرد نصا آخر، ويؤكد أن الصور ذات الأصل الحسي تصير ناقلا، ومادة للقوة اللفظية التي يعيد إلينا الحلمي والكوني بعدها الحقيقي، ويعزز من رأي باشلار عن الصورة التي تضعنا في أصل الموجود المتكلم. (راجع، بول ريكور، في التفسير، محاولة في فرويد، ت: وجيه أسعد، أطلس للنشر والتوزيع بدمشق، ط1، سنة 2003، ص 23).
يوتكز خطاب ريكور – إذا – على تعددية التفاسير لرمزية الحلمي، والأسطوري في الخطاب السردي للمتكلم / الحالم، وفي خطاب المحلل أيضا، كما يعزز من التجسدات الظاهرية للصورة في عالم المتكلم أو في حلم اليقظة؛ ومن ثم يؤكد المراوحة بين تجلي الصورة وطرائق التفسير السردية المتنوعة.
ويمكننا قراءة مشهد الأرجوحة في رواية محمد إبراهيم طه انطلاقا من سرديته التفسيرية في عوالم الوعي، واللاوعي، وتجليات الصورة – في أحد مستوياتها – في حلم اليقظة.
لقد صارت علامة الأرجوحة – في الخطاب السردي – متصلة بدلالتي التعاطف الكوني الداخلي، والعبور باتجاه النهايات المحتملة، والمؤجلة في آن؛ فقد احتلت موقع الأزمة القلبية من منظور طيف الطبيب بنداري الحلمي، بينما دلت على نشوة التعاطف بين الذات، والعناصر الكونية، كما اقترنت برعب الاستبدالات الحلمية للوجوه في النص.
يشعر البطل / السارد بخدر لذيذ، وهمسات غير محددة تدفعه إلى نفق مظلم، يتحول إلى أنبوب أملس، بينما ينحدر على لوحين كقارب، ويعاين شلالات مائية بلا بلل، ورجرجة كأنها مطبات هوائية، ثم ينظر إلى نور مبهر في نهاية النفق، حتى صار كريشة، وتدور الأرجوحة وأحد نصفيها في الهواء، والآخر في المياه، وتتبدل وجوه البشر فمن صعدت بهم الأرجوحة لم يكونوا من نزلت بهم، وقد أحس البطل – مع الصاعدين – كأنهم طيور سابحة في السماء. (راجع، ص 13).
ويشير الخطاب السردي هنا إلى ثلاث دلالات:
الأولى: الحكي في الخطاب السردي تفسيري لوجود الذات في العالم، ويحمل بعدين تأويليين الأول: التعاطف الروحي الكوني، والاتحاد بعلامتي الماء، والهواء التصويريتين؛ فالمياه لا تسبب البلل؛ أي أنها حلمية داخلية وكونية كظاهرة في الوعي، واللاوعي في آن، والثاني: الارتباط الروحي بخبرات الطفولة المشتركة مع فتح الله الذي كان يتأمل المياه تحت القنطرة – في الماضي – مع الحارس عبد المعطي؛ وكأن أخيلة المياه تتجدد في وعي، ولاوعي الذات، والآخر، واقترنت الأرجوحة أيضا بمرض البطل، حين عاين وفاة فتح الله؛ فهي تدل على السقوط المؤجل، أو التمثيل الخيالي الظاهراتي للموت، والبهجة الكونية الحلمية في آن.
الثانية: تأكيد مستوى التداخل التصويري بين العلامات؛ فالسباحة تتجلى في مجال السماء الافتراضي، والأرجوحة تدور في مجال متداخل من الهواء والمياه.
الثالثة: تتصل الصور المقطعة هنا بتيار الوعي، ومستوى ما قبل الكلام طبقا لتعبير همفري، بينما يصير السرد التفسيري مؤكدا لحلم يقظة يرتكز على المياه، وحضورها الظاهري الجمالي الملتبس في الوعي، واللاوعي.
ثانيا: تداخل العوالم السردية الواقعية، والتصويرية:
تتداخل الفضاءات الواقعية، والتصويرية، والكونية في باب الدنيا لمحمد إبراهيم طه عبر بعض الطفرات السردية بين المتواليات المشكلة للسرد، أو عبر حاجز سيميائي شفيف بين العوالم المتداخلة، أو عن طريق استبدالات الكتابة، وصيرورة السرد؛ فالسارد يتساءل حول باب الدنيا، وعلاقته بما وراء الحياة، وتطل ذكريات العوالم الموسيقية الافتراضية من ذاكرته في فضاء واقع تشبيهي حلمي، كما يلج الصحراء عبر تحول لمتواليات السرد باتجاه عالم فتح الله الآخر، وتشير إيماءات السرد إلى تعرض فتح الله لأزمة مالية عقب نزاع بين شركة مقاولات والحكومة، بينما تصير أزمة العالم الواقعي مفتتحا للتعالي الروحي في الصحراء، والخروج عن الحياة النمطية التقليدية في واقع الشخصيتين؛ فالصحراء تمثل عالما باطنيا افتراضيا متداخلا مع الواقع، ويفكك مركزيته، فضلا عن الفيلا التي بنيت على أنقاض جبلاية التين الشوكي بينما نجد أصالة المكان الأول في حالة من التداخل والاستبدال المجازي للفضاء الواقعي الآخر.
إن الفضاء التصويري في رواية محمد إبراهيم طه يعيد التساؤلات حول الوعي، والإدراك الداخلي لظواهر الوجود؛ فقد يعاين الوعي صورا تمثيلية تتراوح مع الفضاءات الواقعية، وتتجاوز مركزيتها، أو تبدو كعلامات تفسيرية للعوالم الداخلية للشخصيات في النص.
ويناقش جون. ر. سيرل في كتابه رؤية الأشياء كما هي، نظرية للإدراك، الصور التي تنبع من الذات، وطرائق إدراكها الدقيقة، والمختلفة عن إدراك الموضوعات الخاصة بالرؤى البصرية؛ ويمثل لذلك بعلامة الخنجر الذي تجلى لماكبث في مسرحية وليم شكسبير، ويرى أن ماكبث لم ير خنجرا حقيقيا، وإنما رأى مجرد بيان حسي للخنجر؛ فنحن لا نرى هنا ظاهرة موضوعية أنطولوجيا، بل بيانات حسية شخصانية أنطولوجيا؛ فهناك – في الواقع – وعي بشيء ما، وهذا الوعي يتطابق مع نفسه. (راجع، جون. ر. سيرل، رؤية الأشياء كما هي، نظرية للإدراك، ت: د. إيهاب عبد الرحيم علي، المجلس الوطني للثقافة، والفنون، والآداب بالكويت، سلسلة عالم المعرفة، يناير 2018، ص 101).
إن البيانات الحسية الذاتية التي أشار إليها سيرل، ومدى تجليها في الإدراك عبر الوعي لا الرؤية للموضوع، تتوافق مع تجلي العوالم الافتراضية، والحضور الاستعاري للشخصية أحيانا في باب الدنيا لمحمد إبراهيم طه؛ فالسارد يعاين صورة فتح الله الطيفية / الأخرى وهو يمسك بمسبحته التي بدت كثعبان، وقد استحالت علامات ذكري كورال الكلية، وعزفه للكولة ضمن فريق الدكتور عماد فضلي، وإلحاح بعض الأغاني مثل من بعيد يا حبيبي أسلم تلحين محمود الشريف، أو على بلد المحبوب التي لحنها السنباطي لأم كلثوم – إلى واقع افتراضي جمالي تصويري آخر يستنزف بنى النهايات، أو مركزية الواقع في وعي البطل.
وقد تجلت شجرة البونسيانا في صورتها الواقعية في القبر، بينما اتسعت في القسم الخاص بالعالم الافتراضي الباطني؛ وكأنها تتجلى كبيان حسي ذاتي للوعي في ولوجه للعمق الروحي الباطني داخل الذات، والآخر.
ثالثا: الحضور التمثيلي للمروي عليه:
المروي عليه في القسم الثاني من رواية باب الدنيا لمحمد إبراهيم طه، من الفئة الثانية / المحددة طبقا لتصور جيرالد برنس؛ وهو فتح الله، ولكنه هنا يحمل بعدا تمثيليا طيفيا، وداخليا في عالم السارد، فضلا عن فكرة المصير المشترك بينهما والتي تعزز من تمثيلات الآخر، وأطيافه داخل أنا السارد.
يقول السارد:
"هكذا لم يكن في لقائنا ما يخالف قانون الاحتمالات، لكنك تعزوه بصمتك لأمر باطني، وابتسامتك في نهاية المطاف وأنت تقول: إيه رأيك بقى؟ تظل ذات مغزى، وقد برزت على غير توقع بونسيانا ذات ظل ظليل، أوسع من هذه ثلاث مرات". ص 48.
ويمكننا تلمس ثلاث دلالات في الخطاب السردي للبطل / إبراهيم باتجاه المروي عليه المحدد / فتح الله:
الأولى: الحضور التمثيلي للمروي عليه؛ وكأنه ينبع من الواقع، والذاكرة، والعالم الداخلي للسارد، وتأويلاته للشخصية بوصفها تحمل بعدا باطنيا، فضلا عن تجلي ذلك البعد الحدسي للآخر في ثنايا خطاب المتكلم أيضا.
الثانية: تحول علامة شجرة البونسيانا إلى بيان حسي ذاتي يتراوح مع صورتها الواقعية، ويعود ذلك البيان الحسي الافتراضي إلى اللاوعي الجمعي، وأصداء النماذج الثقافية القديمة في العالم الداخلي للسارد.
الثالثة: يتجه السارد إلى التداخل مع المروي عليه من حيث التأويل الذاتي، أو من حيث لحظة التحول باتجاه الإدراك الباطني للظواهر.
رابعا: التحول الجمالي، والروحي للشخصيات الفنية:
تقوم رواية باب الدنيا – بدرجة رئيسية – على التحولات الباطنية لإبراهيم / السارد، وفتح الله ابن عمته، وجاءت هذه التحولات ضمن العالم الداخلي، وعبر الفضاءات الافتراضية التصويرية، واستبدالات الصيرورة السردية، بينما جاء تحول العو / صديق الطفولة جدليا وإن كان روحيا باطنيا أيضا؛ فسيرة العو فيها العنف، والسكر، والضدية بينما تحول في أيامه الأخيرة إلى عبارات التوكل، وحضور للموالد، وحمل للمسبحة، أما شخصية أنوار زوجة السارد الأولى فقد تحولت من التناقضات العطفية الصاخبة إلى ما يشبه الجمود، أو الصمت، بينما تحولت علياء زوجته الثانية من الانحياز للعالم الافتراضي الذي ينتمي أيضا للبيانات الحسية التي ارتبطت بطفلة متخيلة اسمها ملك إلى اللامبالاة، أو عدم الاكتراث بحدث الموت؛ أما فتح الله فقد انتقل من صاحب الحدس إلى الصورة الطيفية المتحولة ضمن ذاتية الآخر/إبراهيم، بينما انتقل إبراهيم من الحسابات المنطقية إلى التحول الروحي الجمالي في عوالم الموسيقى الفنية والكونية، والعوالم الافتراضية التي تستنزف النهايات من داخلها؛ فتحوله ينحو إلى الداخل بدرجة كبيرة نسبيا.