القاهرة 25 سبتمبر 2018 الساعة 10:55 ص
كتب : أحمد مصطفى الغــر
فى حوار سابق أجرته الإعلامية راغدة شلهوب معه، قال بنبرة حزينة عن الموت بأنه "راحة من مشاكل المرض وكبر السن ومعاناة الحياة"، وأكمل بكل ثقة: "أنا مش خايف من الموت، لكن خايف من العذاب لأن الموت مصير كل إنسان"، هكذا تحدث الفنان الكبير الراحل "جميل راتب" ذات يوم، والذي رحل صباح الأربعاء الماضي الموافق 19 سبتمبر 2018م عن عمر يناهز 92 عاما.
بوفاته تنتهي مسيرة طويلة من الفن في مصر وخارجها، قدم "راتب" نفسه من خلالها كأيقونة مهمة في تاريخ الفن المصري، تبدأ قصة فناننا الجميل " جميل أبوبكر راتب" بالقاهرة، تحديداً في يوم 28 نوفمبر عام 1926م، حيث وُلِدَ لأب مصري، وأم مصرية والتي كانت ابنة شقيق السيدة "هدى شعراوي"، في عمر الـ 19 ، أنهى مرحلة الدراسة التوجيهية في مصر، تخرج في مدرسة الحقوق الفرنسية، وبعد عام من التحاقه بالمدرسة سافر لاستكمال دراسته الجامعية في فرنسا، بمنحة للدراسة في مدرسة السلك السياسي، لكنه لم يلتحق بالمدرسة، وقرر دراسة التمثيل في السر، بعيداً عن عائلته التي كانت ترفض دخوله لعالم التمثيل والفن، وبسبب ذلك تم إيقاف المنحة التي كانت تبلغ 300 جنيها، وعندما علمت أسرته بالأمر قطعت علاقتها به، ولكي يستمر في دراسة التمثيل قام بالعمل في مهن كثيرة، منها على سبيل المثال أنه قد عَمِلَ "شيال" في سوق الخضار و"كومبارس"، ومترجم، ومساعد مخرج، حيث عمل كمساعد مخرج في فيلم "زيارة السيدة العجوز" لأنطوني كوين، والتي مثلها "راتب" لاحقا على المسرح في مصر فيما بعد مع الفنانة القديرة "سناء جميل"، من إخراج "محمد صبحي", لكن أول عمل شارك فيه "راتب" كان عام 1941م، حيث كان مع "توجو مزراحي" الذي شاهده في مسرحيات الجامعة، وأعجب بأداؤه، فطلبه لتمثيل مشهد وحيد مع الفنانة ماري منيب في "الفرسان الثلاثة"، لكن عائلته أصرت على حذف المشهد الخاص به، في بداية الأربعينات حصل "راتب" على جائزة الممثل الأول، وأحسن ممثل على مستوى المدارس المصرية والأجنبية في مصر، تزوج "راتب" من فتاة فرنسية كانت تعمل بالتمثيل، لكنها اعتزلته بعد ذلك، وتفرغت للعمل كمديرة إنتاج، ثم منتجة منفذة، ثم مديرة مسرح "الشانزليزيه" بفرنسا، وكان "راتب" يزورها بين الحين والآخر، ولا توجد معلومة موثقة حول انفصالهما.
72 عاما من الفن، كان أول ظهور سينمائي لـ "جميل راتب" في عام 1946م، وذلك من خلال فيلم "أنا الشرق"، الذي قامت ببطولته الممثلة الفرنسية "كلود جودار"، وشاركها البطولة: جورج أبيض، وحسين رياض، وتوفيق الدقن، لكن "راتب" عاد إلى فرنسا مرة أخرى بعدها، وهناك شاهده الكاتب الفرنسي "أندريه جيد"، في مسرحية "أوديب ملكًا"، فنصحه بأن يقوم بدراسة فن المسرح في باريس، وهو ما قام به "راتب" بالفعل, إلى أن أتى العام 1951م .. حيث جاء إلى مصر مرة أخرى مع الفرقة الفرنسية الكوميدية "فرانسيز"، والتي كان عضوا فيها، جاؤوا لمصر لتقديم عروض مسرحية متنوعة، فشارك "راتب" معهم في عرض مسرحية "الوريث" عام 1952م، كان راتب مبهراً في أداء أدواره حينها، فتحدثت عنه إحدى الصحف الفرنسية في ذلك الوقت ونشرت تقريراً كاملاً يشيد بالأداء الذي قدمه، وقالت في تقريرها: "عندما يؤدي (راتب) دوره على الخشبة في مسرحية الوريث فإنه يخطف أنظار الحضور بأدائه القوي وعينيه الحادتين". وفي عام 1956م، قدم "ترابيز" مع برت لانكستر و توني كرتيس و جينا لولوبريجيدا، كما شارك بدور صغير عام 1962م في الفيلم الأمريكي الشهير "لورانس العرب" بجانب النجم المصري الراحل "عمر الشريف"، ومما يُذكر أن راتب قد قدم 7 أفلام فرنسية، و3 أفلام تونسية إنتاج فرنسي مصري مشترك.
وفي منتصف السبعينات، استقر "راتب" في مصر وبدأ بالظهور في السينما المصرية منذ ذلك الحين بشكل مكثف، حيث رشحه المخرج الكبير "صلاح أبو سيف" عام 1975م، في فيلم "الكداب"، وقد ساهم نجاحه في أداء الدور إلى تلقيه عدد كبير من العروض إلى أن أتت مشاركته في فيلم "الصعود إلى الهاوية" الذي قدمه عام 1978م، هو نقطة التحول الرئيسية في مشوار "راتب" السينمائي، حيث أدى دور "أدمون" باقتدار، وقد حصل عن دوره في هذا الفيلم جائزة الدولة وقام بتسلمها من الرئيس الراحل "أنور السادات" كأحسن دور ثاني، ونظراً لأن "راتب" كان عضوا في حزب التجمع، فقد كان المنتجون يرفضون التعامل معه لذلك السبب، وقد ظل لعدة شهور بلا عمل، حتى فاز بجائزة الدولة؛ فانهالت عليه العروض الفنية.
كان مرشحًا لدور خالد صفوان في فيلم الكرنك، الذي قدمه الفنان كمال الشناوي، ولكن غرابة لكنته وصوته في ذلك الوقت حرمته من الدور، وبحسب راتب فإن صلاح جاهين كان وراء استبعاده وأحمد زكى عن الفيلم، لأن راتب وزكي لم يكونا أسماء تجارية فى ذلك الحين، لكن ومن المتناقضات أنه وبفضل صوته استطاع أن يقدم الأداء الصوتي في فيلم "عمر المختار" لشخصية الضابط الإيطالي توميللى, وفي العام 1985م قدم "راتب" واحداً من أهم أدواره السينمائية والتي ترسخت في عقول وذاكرة المشاهدين، وهو دور "سليم البهظ" في فيلم "الكيف" مع النجمان يحيي الفخراني ومحمود عبدالعزيز، وقال ذات حوار عن فيلم الكيف: "لم أفهم سبب نجاحي فى هذا الدور، وحينما عرضوا على الشخصية ترددت، لأننى لم أتفهم كثيرا من ألفاظ الفيلم!".
شارك في بطولة عدد كبير من الأفلام منها كفاني يا قلب، وحب في الزنزانة، والبداية، وطيور الظلام، سباق مع الزمن، سيدة القاهرة، الأغبياء الثلاثة، حفار البحر، من نظرة عين، الأولة في الغرام، تيمور وشفيقة، جنينة الأسماك، ولا عزاء للسيدات.
وكان يرى أن فيلم "لا عزاء للسيدات" هو أهم المحطات الفنية في حياته، مبررا ذلك بـ (لأننى وقفت فيه أمام فاتن حمامة، ومن إخراج بركات، دورى فيه ليس من أهم الأدوار التى جسدتها، أهمية الفيلم تأتى من فرصة وقوفى أمام السيدة فاتن حمامة)، وقد كان راتب يصف السيدة فاتن حمامة بأنها "أم كلثوم التمثيل"، وقد شارك في جنازتها بالرغم من مرضه الشديد حينها.
كان المسرح يجري في دمه، خاض تجربة الإخراج المسرحي في مسرحيات الأستاذ، وزيارة السيدة العجوز، وشهرزاد، أما في الدراما فكان لـ "راتب" حضوراً قوياً، كما شارك في مسلسل "الراية البيضاء" الذى يعتبر من أنجح أعماله حيث قدم شخصية "د. مفيد أبوالغار" أمام الفنانة القديرة سناء جميل، وفي عام 1994م بدأ مشواره مع سلسلة أجزاء مسلسل "يوميات ونيس"، مع الفنان القدير "محمد صبحي"، حيث قدم راتب دور "أبوالفضل جادالله"، والد ونيس، ونجح في دوره نجاحا كبيرا جعله يرتبط بأذهان عدد كبير من الأجيال، وقد ظل مشاركاً في كل أجزاء المسلسل في أعوام 1995، 1996، 1997، 1998، 2009، 2010، قبل أن يعود مجدداً عام 2012م في مسلسل "ونيس والعباد وأحوال البلاد", ثم غاب بعدها لمدة عامين عن الظهور على الشاشة، ثم عاد في رمضان 2014م مشاركاً في مسلسل "شمس" للفنانة ليلى علوي، التي كانت تقول في كل لقاءاتها حول المسلسل: "أشارك جميل راتب في بطولة شمس".
كان يحب أن يشارك فقط فى الأعمال الهادفة التى تقدم رسالة للمجتمع، وتلقى العديد من الجوائز والتكريمات خلال مشواره الفني، حيث تم تكريمه من مهرجان القاهرة السينمائي عام 2005م عن مجمل مشواره الفني، وكذلك تكريمه في مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية فى الدورة السابعة 2017، وتكريمه من نقابة المهن التمثيلية عن مجمل أعماله 2015، وتكريمه من منظمة الأمم المتحدة للفنون عام 2018 خلال احتفالها السنوي بعيد الأب، وكذلك تكريمه من مهرجان القاهرة الدولى للمسرح المعاصر والتجريبى عام 2016م، وغيرها من التكريمات والجوائز.
لقد رحل عن عالمنا فنان قدير، كان له عظيم الأثر على خريطة الفن المصري، عظيم في فنّه وفي إنسانيته على حد السواء، ذات حوار سألته مذيعة فى برنامج تليفزيونى عن شخصيات يحب أن يشكرها وأثرت فى حياته، وقد ظنت أنه سوف يتكلم عن شخصيات مشهورة، فقال لها: "والله أنا أحب جدا أشكر ثلاثة أثروا فيّ بشكل كبير جدا، أولهم: سائق أوتوبيس رآني فى الزمالك ، فأوقّف الأوتوبيس ونزل كي يسلّم عليّ، وثانيهم: عاملة نظافة فى مطار القاهرة لم تجد ما تعبر به عن إعجابها بي إلا أن تعزمنى على زجاجة (حاجة ساقعة)، وثالثهم: سائق تاكسى قلت له أنني ليس لدي أولاد، فقال لي على الفور: " كلنا أولادك يا أستاذ جميل"، وأضاف أن الثلاثة أثروا فيه جدا ولم يستطع أبداً نسيانهم، وأنه يشكرهم من كل قلبه.
لقد كان فناناً جميلاً وراقياً، رحمه الله رحمة واسعة.