القاهرة 25 سبتمبر 2018 الساعة 10:46 ص
د. شعيب خلف
يأتي الموت في قص بهاء السيد ناتجًا من نواتج القهر، وسببًا من أسباب الخلاص ... إن الشخصية عند بهاء السيد تسعي للموت من أجل الميلاد، من أجل الحياة ... الميلاد الثاني، أو الولادة الثانية، كما يسميها " مرسيا إلياد " إن رمزية العودة إلي البطن ذات قيمة كُسمولوجية(كونية) دائمًا فالعالم كله يعود رمزيًا مع المريد إلى الليل الكوني، لكي يخلق من جديد أي لكي يولد ولادة ثانية " ( ) .
هذه الولادة الاستسرارية كما يسميها أيضًا " إلياد " تنطوي على موت عن الوجود الدنيوي وقد حفظت لنا الهندوكية ترسيم هذه الولادة، كما حفظته البوذية، " فاليوغى " يموت عن هذه الحياة لكي يولد في نمط أخر من الوجود : الوجود المتمثل في الخلاص، كان البوذي يعلم الطريق، والوسائل التي تؤدي إلى الموت عن الشرط البشري الدنيوي، أي عن العبودية والجهل لكي يولد ثانية في الحرية والغبطة والنرفانا التي لا تتقيد بشرط " ( ) ، فالموت إذن بالنسبة للنفس المفكرة معناه ميلاد طفلتها، لنفس الزمنية والانفصال عنها – أي التخلص من عبئها الذي يزداد ثقلًا " ( ) .
إذا كان القهر قد تدرج مع الشخصية الرئيسة من مرحلة زمنية لمرحلة، وتعدد معها بتعدد الأماكن التي تطأها حيث المراوحة بين التجول في القرية والمدينة، إن الموت يمر أيضًا بهذه الرحلة، في قصة " للموت ثلاثة وجوه " ( ) نلاحظ أن الموت يمر بموت أول، وثان، وثالث، في الموت الأول، وهو عنوان جانبي في القصة يقول " أصرخ بكل حنجرتي (خذوا سبع خبزات وسمكًا واشكروا معي )؛ لكنهم أخذوا السمك، والخبز، وأكلوا جميعًا، ولم يشكروا، ثم راحوا يغمدون رماحهم وسيوفهم في جسدي دون أن يستجيبوا لصرخات الأطفال ولا لبكاء أمي ولا لنظرات العتاب التي تشع من عيني " ص4 .
يأتي القهر الثاني، أو الموت الثاني، في القطار في رحلة السفر من القرية " حين وصل القطار لنهاية المشوار مددت يدي الوحيدة أحاول أن أتكئ بها على كتفي أحدهم لكنه هرول فجأة. وسقطت على وجهي فوق رصيف المحطة ...و .. داستني الأقدام " (ص5) الموت الثالث في الميدان، في المدينة التي ظنها مكانًا للخلاص نجد الصورة المقهورة للمخلص، المجهولة من المحيطين به " وكان يحبو .. بوجه مشوه، وذراع مبتورة، تزينها الأوسمة والنياشين وبندقية علاها الصدأ، ولما كان الجميع يهرولون .. يهرولون، وكانت الأم جالسة على (الطوار) تنتحب تكاد لا تصدق أنه وليدها " (ص5 ).
يستمر الموت الناتج عن القهر في قصة ( للموت وجه آخر ) " فجأة كان عجوزًا .. مكسور الجناحين وضاعت هويته في الترحال والجري وراء الشمس ..كانت العروق التي تفز تحت الجلد من الجهة اليسرى ملطخة باللون الأزرق ... تحسس مرتعشًا منطقة الصدر اكتشف على الفور أن (الإله ) الممتد بالداخل قد رحل.. شعر بالحزن .. وبدأ يموت .."( ص 9/10 ).
إن الطفل في قصة " الوليد " يولد ميتًا، وحارس القبور يريد تصريحًا بالدفن، على الرغم من أن حارس القبور ليس سلطة رسمية تريد وثائق رسمية، إنه يمارس هو الآخر قهره كسلطة تفرض سطوتها على الإنسان في لحظة من اللحظات الصعبة، وهي لحظة الفقد التي يتعرض لها الإنسان - أي إنسان - لحظات من الوقت "وقف وهو يطرقع أصابع اليد اليمني غامزًا العين اليسرى تاركًا حاجبيه يرقصان بطريقة تفضح إهانته حين وجه بلسان أخرس وقوام يتأرجح من وقع ما يريد بدأ يعري بعيون شرهه جيوبه ... جيوب الرجل الواقف تكشف عن حمل كاذب وكان قد بقر بعنف تلك البطن بخناجر من اعتاد تلك التجربة " (ص 32 ).
إن القهر يحاصر الرجل مما جعله يستسلم للموت بعد ذلك " الفساقي .. القبور... المجهول ... الأحزان ... القباب .. ثعابين.. حيات تستأسد تحاصر عنقه الهضيم تخنقه تهصره بلا رحمة تطحن ضلوعه .. الأذنان المحتقنتان ترتعشان تفيضان دمًا مغليًا " (ص33).
لقد استسلم الرجل من شدة القهر للموت " بيد حنون ربت صدر الأرض الملساء ينتقي الحصى من قلب الرمل يلقي به بعيدًا عن مكان الطفل مد ذراعًا ممصوصة ... هزيلة مرعوشة ليوسد رأس الطفل .. أرقده ... شده إليه وهو يحدق بعينين عانتا من الدموع والإرهاق والظلام في ذرات الضوء المتسربة من ثقب القبر ... فوجئ بالدود يزحف وئيدًا وقد بانت له مخالب وأسنان .. احتضن وليده بعنف أغمض عينيه ... استسلم ثم نام " (ص43 ).
هنا نلاحظ الولادة الثانية، لقد مات الرجل، وبعث الطفل " لمست أصابعه المرتعشة بطن الطفل الساكن اهتز جسد الطفل الناعم فوق الأرض الملساء.. فوجيء الحارس بصرخات الطفل تشق الأجواء تذبح صدر القبر رفس الطفل الأكفان رفسها بقدميه الطريتين اللدنتين راح يصرخ صرخات البعث الأولي " (ص45 ).
الخلاص :
إن تيمة الخلاص تيمة واضحة في الأدب الذي يعاني قهره ويعيشه، وللخلاص رموزه المتعددة التي نلاحظها متواترة عند بهاء السيد ففي قصة " عين الشمس " نري القصة تنتهي بانتظار المخلص " تذكر كلام المنجمين عن ذلك النجم الكبير الذي قالوا عنه أنه ينفع وقت الشدة فرفع وجهه إلى أعلى، وعندما لم يجد شيئًا قال لنفسه: لن يطول اختفاؤه .. غدًا يظهر " (ص42).
في قصة " رتوش في حديقة الصمت " نجد أنه يعزف على تيمة السيدة العذراء/ والسيد المسيح عليهما السلام كرمزين للخلاص " ... وإلا فمن هناك لا يعرف أم المسيح قالت لي إنها ستنتظرني وأكدت بأنها ستكون مع الآخرين مجرد إغماضه وكل شيء كان قد انتهى (ص 70) وتنتهي القصة أيضًا كسابقتها بانتظار المخلص ومضى كل في طريقه تاركًا المرأة الفرعونية في الميدان الواسع العريض .. تنتظر وليدها الغائب ومازالت تنتظر ... وتنتظر " (ص77).
ويستمر العزف على تيمة الخلاص في قصة ( النازح والقديسة وبائعة المشوي) حيث صار الرجل النازح الغريب هو الخلاص لكن لا يعرفه إلا القليل، فهذا الرجل (المطربش) حين تعرف عليه ما إن قرأ بطاقته حتى قفز يضمه إلى صدره بحنان وسعادة لقد وجد فيه صفات المخلص المنتظر ومن هنا لم يتمكن من كبح جماح السعادة المفاجئة فراح يصيح فيهم وقد وقف على منضدته وكأنه .. يخطب ( يا قوم لقد جاء من كنا ننتظره " (ص75) ولما هرب منه وقف مناديًا بلا جدوى " أنت أيها الرجل المهذب يا من تبحث عن ( قطب ) أنت أيها الرجل ذو النظرات البريئة يا من تحمل تحت إبطك الخلاص تعال سأدلك على معقل الشيخ أنا وحدي أعرف الطريق " (ص76).
في قصة ( تداعيات شاعر عجوز تنتهي لوحات القصة ( اللوحة الحادية عشر ) بقوله " رآه جيدًا وهو يرتدي طربوشه ويحمل سيفه ويمتطي جواده الأبيض وحبيبته البطة .. تمتطي الجواد خلفه تطوق بذراعيها الرقيقتين وسط العملاق و تهلل ( ص 118) .
لكن الملاحظ بعد ذلك أن محاولات الخلاص تنتهي جميعًا بالإجهاض من سلطة قهرية عليا أيضًا وهذا يؤكد أن الولادة الثانية بعد الموت هي الحل الوحيد للحرية، في ( تداعيات شاعر عجوز ) نلاحظ أن مدير السجن سلطة قهرية يجهض محاولة الجواد في الخلاص، يقول "شعر بنفسه يمتطي جوادًا في لون الحليب، ثم بيد مدير السجن وهي ترتفع بسرعة فائقة، لم يكن يتوقعها .. ثم تهبط بالسيخ الحديدي الملتهب، فتغوص في لحم الجواد الذي يمتطيه بإصرار ... وثبات، فيجمح الجواد الأبيض بدوره بعيدًا عن القصر والأميرة و الشجرة و.. جسده المعلق في فراغ " (ص100 ).
في مجموعة رحلة الجانب الآخر ( ) نجد محـــــاولات إجهاض الخلاص تستمر، إن المخلص الموجود في ساحة الحرب رمز للخلاص العملي حين يهبط الشارع يفاجيء بالدونية من الناس الناعمة المرفهة " قالت لي واحدة منهن كنت أحاول مقارنتها بأخرى من الجانب الآخر ياي .. ياي ! ملابسك خشنة ابتعد عني قليلًا سال العرق غزيرًا فوق جبيني كان ذلك في الأتوبيس الذاهب إلى الدقي صاح راكب من الدرجة الأولى بفزع ورعب وتأفف حطمت إصبعي بحذائك يا هذا نكس الجندي رأسه وهي ترى أن الجندي قد أصابه الخجل .. لماذا يا بني يتركونكم نوبة واحدة، حقًا يا أمي الغالية .. نعم يا جدتي لقد أخطأوا كثيرًا في هذا قلتها وأنا أبتسم .. كدت أختنق تماسكت وأنا أقفز من الأتوبيس "( ص10 /11 ).
لم يكن الخارج وحده هو الذي يجهل الدور؛ بل كانت الزوجة لا تعي أيضًا دور المخلص / الزوج فشكته لأمها فعاتبته كثيرًا، "قالت لي أنني أمضيت أجازتي القصيرة أحدق طويلًا في السقف دون أن أبادلها كلمة واحدة .. لم تقبل مني اعتذاري رغم أني حاولت أن أوضح لها أن التحديق في هذا الأيام هو مهنتي التي نأكل منها وأن يدي هاتين تمارسان اللعبة بنشاط فائق " في قصة ( التردي إلي القمة ) يعزف المؤلف على شخصية ( أحمس ) فيجعلها رمزًا للخلاص كما جاءت في جانبها التاريخي رمزًا للخلاص وبطلا للأرض المسلوبة ".. نعم فالليلة حين يختفي القمر سيبعث أحمس بالأمس قيل لنا ذلك كنا نمر بأكفنا المحمصة .. الصلبة .. فوق مقابر الأسلاف " (ص75 ).
ثم يقول " كم أتوق إلى تلك اللحظة ... أن أرى أحمس وجهًا لوجه مركبتي تجاور مركبته في عرض البحر .. لقد كبرنا يا أماه كنا بلا شعور نبحث عنه في البقاع بلا جدوى .. آلاف السنين نبحث عن ( أحمس ) بلا أمل حتى جاءت البشرى من وراء مقابر الأسلاف الحصينة ..كم تعذبنا يا أماه .. ونحن نري فتاتنا كل صباح ومساء ملقاة وراء البحر ... صياحها يمزق صدر الليل الحالك .. أناتها تذبح أفئدة الأبرياء " (ص71 ) . وجاء أحمس المخلص ليقض على الهكسوس / الغزاة / المغتصبون الهكسوس الرمز لكل طغيان وأحمس الرمز للخلاص .
الهوامش و التعليقات :
مرسيا إلياد، رمزية الطقس والأسطورة، ترجمة نهاد خياطة ط1، العربي للطباعة والنشر والتوزيع ،1987 ، ص 182 / 185 .
- مرسيا إلياد، المرجع السابق، ص185 .
- نفسه، ص 185.
- للموت ثلاثة وجوه، ضمن مجموعة الذباب لا يلقط عصافير، السابق .
- بهاء السيد، رحلة الجانب الآخر، أدب الحرب، الهيئة المصرية العامة للكتاب ،1994 وأرقام الصفحات في المتن.