القاهرة 18 سبتمبر 2018 الساعة 11:14 ص
د/ صلاح فاروق العايدى
فى بعض محاضراتى الأخيرة وأنا أحدث طلابى فى بعض مقررات الأدب ، عرضت لنا بعض الأمثلة اللغوية التى تحتاج إلى تفسير نحوى . فناقشتهم فيها ونصحتهم بالعودة إلى بعض متون النحو المعروفة من تلك التى تربينا عليها حين كنا طلابا ؛ من أمثال شرح ابن عقيل على الألفية وشرح شذور الذهب لابن هشام ، وكلاهما بتحقيق الشيخ الجليل محمد محيى الدين عبدالحميد رحمه الله . ومن قرأ هذه المتون يعرف أن محققها عمد إلى التفسير النحوى لشاهد المتن على القاعدة ، كما فسّر بعض مواضع المتن نفسه تفسيرا نحويا كاملا . فكانت المحصلة بالنسبة لنا أن ارتسمت فى أذهاننا صورة واضحة لأبواب النحو وأركان جمله ، حتى أصبحنا نقرأ بالنحو ؛ أى مثلما يقرأ النحوى كل نص يعرض له ، فيراه أركانا مرتبة للجملة ، ويميّز فيه بين ما يستحق الرفع وما يستحق النصب ، وهكذا ..
ولقد كنت حدثت طلابا آخرين فى مناسبات قديمة فى الأمر نفسه ؛ خاصة حين كنت أدرّس اللغة العربية لغير المتخصصين من أبناء الأقسام الأخرى . والمناسبة الأخيرة أعادت لنفسى هذا الخاطر المتكرر عن أحوال لغتنا العربية فى معاهدنا العلمية ومدارسنا فى مرحلة ما قبل الجامعة . فنحن طيلة الوقت ندرّسها للطلاب فى صورة قواعد صمّاء منزوعة من سياقها الأصلى ؛ كأن نقرر الأساليب ونغرق الطالب فى معيّتها دون أن نرده إلى أصولها فى أركان الجملة . وهذا يحدث خاصة فى مرحلة التعليم ما قبل الجامعى . فتكون النتيجة أن يحفظ الطالب أمثلتها التى لا تتغير ــ ومعظمها بعيد عن الاستعمال الفعلى ــ كما يحفظ امتحاناتها وإجاباتها النموذجية عاما بعد عام .
هذه واحدة ، أما الثانية ، فنحن نقوم بتدريس القاعدة / القواعد دون تطبيق . والتطبيق لا يعنى أن نأتى بأمثلة محفوظة ، نضع عليها أسئلة محفوظة ومتكررة مثلها . التطبيق أن يتدرب الطالب على القراءة النحوية فى نصوص كاملة ــ غير مخترعة ، وتراثنا القديم والحديث ملىء بأمثلة رائعة منها ، شعرا ونثرا ــ ويكون على الطالب فى هذه القراءة التطبيقية أن يشكّلها كلمة كلمة وحرفا حرفا . وأنا اليوم ــ بعد مضى ثلاثة عقود أو أكثر ــ لم أنس امتحان استاذنا الشيخ الجليل ؛ الدكتور مهدى علام ــ رحمة الله عليه ــ حين جاء برسالة عمر بن الخطاب إلى أبى موسى الأشعرى كاملة ، وطلب منا تشكيلها حرفا حرفا . ولولا أنه نبهنا إلى ذلك من قبل لما استطاع واحد منا إكمال الامتحان . ومثله فعل العالمان الجليلان ؛ الدكتور رمضان عبد التواب ، والدكتور عبدالعزيز الدالى ــ رحمة الله عليهما ــ فكانا يطلبان فى امتحاناتهما طيلة سنوات الدراسة الأربع مثل هذه الأسئلة التى تعتمد على فهم الطالب واستيعابه للمادة اللغوية ليمكن له تحقيق مثل هذا التشكيل الدقيق للنص ( الأدبى ) وفق القاعدة اللغوية . وكنا فى الوقت عينه ندرس المتون اللغوية المعتادة ( شرح ابن عقيل على الألفية وشرح شذور الذهب لابن عقيل أيضا وأمثالهما ) إضافة إلى المذكرات التى يقررانها من تأليفهما علينا . وهو ما جعلنا نقرأ الكلام كله ــ لا مجرد النصوص المختارة للدراسة فى النحوــ بعد أن أصبحت عادة وإلفا ، بوصفه نصوصا لغوية ، نضبطها وفق القاعدة النحوية ؛ حتى أننا فى كثير من الأحايين كنا نفصّح العامية من هذا الباب وبسببه .
فى الوقت نفسه ، كان أساتذتنا ــ وكلهم شيوخ وعلماء أجلاء ، رحمة الله عليهم جميعا ــ ومنهم على سبيل الذكر لا الحصر : مصطفى ناصف وأحمد كمال زكى وإبراهيم عبد الرحمن وعبد القادر القط وعز الدين إسماعيل ولطفى عبد البديع وثناء أنس الوجود ومحمد عبد المطلب وصلاح فضل ( أمد الله فى عمريهما ) كانوا جميعا يدرّسون لنا مقررات الأدب بعين الشعر مرة ، وبعين الناقد مرات ؛ أعنى هنا أنهم كانوا يدرّسون لنا النصوص نفسها التى كنا نقرؤها بعين اللغة ، فنشأنا على قراءتها أيضا بعين الناقد وإحساس الشاعر ، حتى أصبحنا ــ بالإلف كذلك ــ نميّز بين الكلام الجميل والكلام غير الجميل ، ما يصلح شعرا وما لا يصلح ، ما فيه روح القص وما يخلو من تلك الروح . وقد أفضى بى ذلك إلى أننى تعودت على تظليل الجمل الشعرية فى متون الفقرات ( النثرية ) وتظليل الجمل غير الشعرية فى متون قصائد الشعر ؛ قديمها وحديثها .
وهنا أيضا لا أنسى امتحان أستاذى الدكتور أحمد كمال زكى ــ رحمة الله عليه ــ حين كان سؤاله لنا فى الدراسات العليا : بيّن كيف تحلّل بأحد مناهج النقد قصيدة مما درست أو مما تحفظ . ومن قبله أيضا لا أنسى امتحان استاذنا الدكتور مصطفى ناصف فى سنتنا الأولى ــ أكرر : سنتنا الأولى ــ فى قسم اللغة العربية ، وفى مقرر نظرية الأدب : اكتب ما تعرفه عن الصدق ( الفنى ) . وللأسف نسيت الكلمة الثالثة التى تكمل الامتحان . لكن تخيّلوا أن الامتحان كله مكوّن من كلمات ثلاث ، وللطالب فيه الحرية الكاملة فى قول ما يشاء . ومن ذلك وبسبب مثل هذه الامتحانات نشأنا على التفكير والجرأة على فهم النص من عنديّاتنا ، حتى لو لم نكن موفقين . وهنا لا أنسى موقف أستاذينا الكريمين ، الدكتور صلاح فضل ، والدكتور محمد عبد المطلب ، فى محاضارتيهما وفى الورشة الأدبية التى كانا يشرفان عليها ، وهما يسمعان منا تعليقاتنا الساذجة على النصوص المختلفة ؛ النصوص التى هى من عندنا أيضا أو من اقتراحنا ، فيؤكدان على صواب الصائب منها ، ويوجهاننا إلى صواب ما جانبنا فيه الصواب .
أين هذا النهج من مقررات الأدب والنصوص السقيمة ؟ خاصة فى مدارسنا ، وهى تلح على سؤال الطالب عن معانى الكلمات ومرادفاتها ؛ خاصة تلك التى تحتاج إلى معجم ليعرفها الأستاذ ، فما بالك بالطالب ! ومن ذلك مثلا سؤالهم عن مفرد ( النسوة أو النساء ) . وهما لفظان بمعنى واحد ، لكن لا مفرد لهما من جنسهما . أو كسؤالهم عن جمع العندليب ، وهو جمع شاذ جاء على غير مثال ( أى دون قياس مضطرد ) ، فجمعه عنادل . هذا دون النظر إلى أننا فى بيئتنا الطبيعية لم نر العندليب ولم نسمع به ؛ خاصة فى المدن . ولا أدرى إن كان بقى من جنسه فى بلادنا أفراد أم هاجر إلى بلاد وبيئات أخرى ؛ هربا من مثل هذه الأسئلة التى تطارده وتطاردنا .
أما النص الأدبى نفسه ( شعرا أو نثرا ) ، فهو نص يختاره جهابذة الوزارة من السادة المؤلفين ؛ أصحاب الذوق السقيم الذين لا علاقة لهم بالأدب ولا باللغة ، نص يختارونه بعد نزع كل جوانب الأدب والأدبية منه ، فكل اهتمامهم منصب على مثل السؤال ( وهو سؤال تكرر كثيرا فى الامتحانات العامة للثانوية العامة ، كما أن الأمثلة التى جئت بها من قبل كلها من أسئلة الامتحانات المقررة ؛ أى أننى لا أفترض أسئلة ولا أتجنى على أحد ) ، فيقولون فى سؤالهم عن شوقى : أخطأ شوقى فى قوله :
وطنى لو شُغلتُ بالخلد عنهُ .. لنازعتنى إليه فى الخلد نفسى(1)
أى أنهم يعمدون إلى تشويه كل جميل فى الأدب ؛ حتى تلك النماذج الجميلة التى تفلت من بين أنيابهم ( التربوية(2) ) . ولكم أن تسألوا طلاب الثانوية العامة عن معاناتهم مع أيام طه حسين ، بعد أن نزعوا منها كل جميل وشوهوها تشويها متعمّدا بزعم الاختصار والإعداد التربوى ، فلم يبق منها إلا بضع أوراق لا تسمن ولا تغنى من جوع ، ولا يفهم منها الطالب شيئا . بل إن تشويههم لذلك النص وصل إلى حد تغيير العبارات الأصلية فى نص طه حسين تحت مظلة زعم الإعداد التربوى ( والإعداد التربوى بريء من ذلك ) وهم فى الحقيقة إنما يبحثون عن كلمات أخرى تناسب أسئلتهم الساذجة المعقدة .
ولذلك فقد أثمر هذا التشويه المتأصل فى مقررات اللغة العربية عن اختيار قطعة نثرية من مقدمة محقق ديوان حاتم الطائى ، وتقديمها للطلاب بوصفها نموذجا للنثر الجاهلى فى الصف الأول الثانوى ، وما زال النص مقررا بهذه الصفة فى مناهجنا الموقرة ، دون أن يتنبه صاحب الاختيار أو أحد من السادة الذين يدرسون المقرر إلى أن لغة النص المختار بعيدة عن لغة الأدب الجاهلى ، ومليئة بالإفراط العاطفى فى تمجيد شخصية حاتم الطائى ، دون سبب مقنع لذلك ، ودون توضيح عن علاقة هذا النص بالنثر الجاهلى . والعجيب أن يكون سؤال رئيسى من أسئلة هذا الدرس ( الفارغ ) من قبيل : ماذا فعل حاتم فى أيام القحط ؟ فأين الأدب فى هذا السؤال الساذج ؟
إن أمثلة هذه الاختيارات الساذجة والأسئلة السيئة التى توضع إرضاء لوجهة نظر السيد التربوى ، لا تعلّم أدبا ولا تعلّم لغة ، مهما ادعوا أن مثل هذه الاختيارات تراعى الجوانب الاجتماعية والخلقية ، لأنها ببساطة اختيارات بعيدة عن المنطق . وأنا هنا أعنى صلاحية العبارات المختارة لتكون موضع سؤال محفوظ ( مكرّر )، فالعجيب فى مثل هذه الاختيارات أن إجاباتها المنطقية ــ إذا صدقنا النص موضع السؤال ــ بعيدة عن الإجابة النموذجية التى يراها السيد التربوى ويُلزم الطالب بحفظها . أى أننا ببساطة أصبحنا أسرى عين ثالثة ، لا تعرف الأدب ولا تعرف اللغة ، وتقدم نماذج شائهة للطلاب فى التعليم ما قبل الجامعى ، وأحيانا فى الجامعى للأسف الشديد . ثم يدّعون أن هذا أدب وتلك لغة ، وينتظرون أن يتعلّم الطالب من ذلك الأدب واللغة . وأنا أود أن أسأل أولئك أصحاب تلك العين الشائهة : ألم تشاهدوا مرّة بعض أفلام الكرتون المدبلجة باللغة العربية الميسّرة !؟ ألم تلحظوا تفاعل أبنائنا مع تلك اللغة الجميلة إلى درجة أنهم يقوّمون أنفسهم بأنفسهم ، ويستعملون هذه اللغة الجميلة ، المستقيمة الصحيحة لغويا والجميلة أدبيا ، خاصة ما قبل المدرسة . فإذا جاءت المدرسة ــ وآه من المدرسة ! ــ أفسدت تلك اللغة وأعادتنا جميعا إلى نقطة الصفر .
فهل عرفتم الآن لماذا تضعف لغتنا العربية الجميلة ؟! ببساطة لأننا نقدّم لغة شائهة ونماذج سيّئة ، وطرقا عقيمة فى التعليم . وهى بالمناسبة بعيدة عن كل ما اتفق عليه علماء اللغة فى طرق تعليمها . ومن لا يصدقنى فليعد إلى مثل كتاب الدكتور نايف خرما المنشور فى أواخر الثمانينيات من القرن الماضى عن نظريات اللغة وطرق تعليمها(3) ، أو فليعد إلى تشومسكى وغيره ممن اهتم بهذه القضية فى بعض دراساته . فكل هذه الدراسات تؤكد حقيقة واحدة : تعلّم اللغة ــ أى لغة ــ إذا ما أُحسن تعليمُهاــ لا يحتاج لأكثر من ثلاثة أشهر . وهذا يفسّر سر دورات تعلّم اللغات فى المعاهد العلمية المختلفة ، وكلها يقف عند الأشهر الثلاثة تلك . أما نحن ، فإننا نقدم اللغة والأدب لأبنائنا لأكثر من اثنتى عشرة سنة ، وبعدها لا يحسن الطالب كتابة اسمه واسم أبيه ، ولا يستطيع أن يعبر عن نفسه ولو بجملة واحدة ، صحيحة لغويا ، وجميلة المعنى والمبنى. فأى لغة تلك التى يظل الطالب يتعلمها سنوات طويلة ثم لا يعرف منها شيئا! وأى أدب تدّعون أنكم تعرفونه !
وربما يحسن هنا أن أذكر هذا الموقف الذى حدث معى قبل سنوات طويلة لأبيّن ما أعنيه . فقد دار نقاش طويل ، لأكثر من ساعة ، ولأكثر من مرة ، بينى وبين أحد زملائى( المعلمين الأوائل ) فى المدرسة الثانوية ، حول قصيدة النثر وعدم اقتناعه بها ، فإذا به فى نهاية الحديث ، ليفحمنى وينهى النقاش ــ أو هكذا ظن ــ أقرّ أنه منذ تخرّج من الجامعة ــ أى من أكثر من ربع قرن ــ لم يقرأ الشعر ولم يقرأ القص ، ولا يقرأ شيئا من الأصل ــ باستثناء كتاب الأضواء وأمثاله من كتب الامتحانات الخارجية ، وهذه وحدها ضرها أكثر من نفعها مثلها فى مثل الخمر والميسر ! ــ وهو لا يحب الشعر ولا يحب الأدب عموما ( لاحظوا أن هذا كلام مدرّس أدب ولغة ثانوى عام ) . أما مدرس الأدب الجامعى(4) ، فأحدهم ــ حديثا للأسف ــ أقر أنه لا يعرف شيئا عن مناهج النقد الأدبى ولا نظرية الأدب ( رغم أنه مكلّف بتدريسهما ، ويتفاخر طيلة الوقت أنه دكتوراه فى الأدب والنقد والبلاغة ) وأن قصارى جهده أن يقدّم للطلاب شرح الكلمات ( لاحظوا شرح الكلمات ) فى تلك النصوص التى يختارها عشوائيا ويدرّسها لطلابه . وهذا حال الأدب فى جامعاتنا .
أما حال اللغة ، فهو لا يقل سوءا . يكفى أن تراجعوا مقررات النحو فى بعض تلك الجامعات لتشاهدوا العجب العجاب . فمع الكفاءة الكبيرة لأولئك الأساتذة ــ وكل التقدير لهم ــ إلا أن قصارى ما يقدمونه للطلاب ــ خاصة لطلاب الأقسام غير المتخصصة ــ هو شواذ القاعدة ، بتفصيلاتها النحوية الكثيرة ؛ التفصيلات التى تغيب فى أحيان كثيرة عن أذهان الأساتذة المتخصصين( وهذا لا يختلف كثيرا عن طبيعة مكوّن مقررات النحو فى مدارسنا ) . فأى معنى وأى نتيجة تُرجى من مثل تلك الطريقة فى تدريس اللغة .
وهنا نعود فنسأل : هل عرفتم لماذا يكره الناس اللغة العربية ؟ ببساطة لأن أمثلتها المقدمة شاذة وشديدة التعقيد ، وطرق تدريسها بالية وتعتمد على الحفظ والتلقين ، ولا تخرج عن تاريخ الأدب وتاريخ اللغة ، على خلاف تلك اللغات الأجنبية التى يقبل الناس على تعلّمها ، خاصة الشباب ، فتعليمها يعتمد على الاستعمال ، لا القاعدة المهملة ، ولا القاعدة الشاذة . أما الأدب الذى يرونه فى تلك اللغات الأجنبية ، فهو الأدب القصصى الرفيع ، والمقالات الواضحة ، فى موضوعات شتى ، وبمستويات متقاربة المنشأ . وبالتالى يصبح تعلّمها سلسا ويسيرا ؛ حتى إن أبنائنا فى الثانوية العامة ــ الصف الأول مثلا ــ يقبلون على كتابة موضوعات متنوعة فى حدود صفحة واحدة ، مرة واحدة فى الأسبوع ضمن المقرّر . والنتيجة طبعا أن مستويات تعلّم اللغة الأجنبية يتقدم ؛ خاصة مع كونها شرطا فى كثير من الوظائف المرموقة التى يبحث عنها الشباب ( وليت اللغة اللعربية تكون شرطا فى تلك الوظائف ، حتى ولو لم يكن استعمالها واجبا فيما يمارسونه من أعمال ). أما لغتنا العربية فحالها ( لا يسر عدوا ولا حبيبا ) مع أنها يُسر لا عُسر . ونحن ــ كما قال شيخنا جميعا من قبل ، الدكتور طه حسين ــ نملكها كما كان القدماء يملكونها . لكننا فيما يبدو تنازلنا اليوم عن صك تلك الملكية ، واكتفينا بأن يترجم لنا مَن بقيت لديه معرفة بأصولها ، عن حالها وحالنا البائس .
ولذلك ، فنحن اليوم بحاجة إلى ثورة حقيقية بشأن هذه اللغة ؛ نحوها وأدبها . فإذا لم نكن قادرين على أن نقدم للناس فى مدارسنا وفى معاهدنا العلمية ما يقرّبهم منها ، ويردهم إلى بابها ، فعلى الأقل اتخذوا من الإجراءات العملية ما يؤدى إلى اهتمام الناس بها مثلما يهتمون باللغات الأجنبية وبصور التكنولوجيا المختلفة . وأقل ما نستطيعه فى ذلك أن نجعل إجادتها ــ بشهادة معتمدة من معاهد علمية ، وبامتحانات عملية حقيقية ــ شرطا للتقدم وللتعيين فى الوظائف الحكومية منها والخاصة ، سواء بسواء .
اجعلوا اللغة العربية يا سادة ، قيمة عملية ، واتركوا الناس بعد ذلك يبحثون عنها ، وثقوا فى الناس ، فهم أقدر منا وأجدر بالبحث عنها وعن غيرها . ومثلما تعلموا اللغات الأجنبية والكومبيوتر ، سيتعلمون اللغة العربية بطريقتهم هم . وستختفى عندها العين الثالثة ؛ عين النماذج الشائهة ، وستبرز وتبقى فحسب عين اللغوى الناقد ، وعين الأدب الجميل .
إشارات :
(1) البيت من سينيّته المعروفة :
اختلاف النهار والليل ينسى .. اذكرا لى الصبا وأيّام أنسى
والأبيات الأولى فيها مقررة على طلاب الصف الثالث الثانوى ، إلى قوله بعد البيت المذكور :
وهفا بالفؤاد فى سلسبيل .. ظمأ للسواد من عين شمس
وهو بلفظه ومعناه ينفى مسألة الخطأ التى يدعيها أصحاب الامتحانات فى مثل هذه الأبيات .
(2) الإشارة هنا للإعداد التربوى لا تعنى التقليل من قيمة التربية وعلمائها الإجلاء ، لكنها تعنى فحسب الاختلاف معهم فيما يقومون به من عمليات إعداد لا تراعى خصوصية النص الأدبى ، فهم ــ بطبيعة الحال وبحكم تخصصهم ــ بعيدون عن فهم روح هذا النص . وبالتالى ، فمن الضرورى أن تكون الاختيارات من البداية مسندة إلى أصحاب الأدب أنفسهم ؛ أى الكتاب المرموقين من الروائيين والشعراء المشهود لهم بالثقافة . ولا بأس بعد ذلك من تدخل عمليات التربية فى الإعداد ، شرط أن يدور حوار مجتمعى واسع ــ فى إطاره الثقافى ــ حول طبيعة القيم التربوية التى يمكن أن يقدمها هذا الإعداد ، لأن مسألة القيم التربوية ــ والقيم عامة ــ مسألة ثقافية وفلسفية بالأساس وتحتاج إلى حوار ثقافى لا تربوى فحسب .
(3) أعنى كتابه : أضواء على الدراسات اللغوية المعاصرة ، وهو منشور ضمن سلسلة عالم المعرفة فى أوائل ظهورها فى العالم العربى . والكتاب معروف ومشهور لكل من يهتم باللغة .
(4) كل التقدير لأساتذة الجامعات المصرية ، ففيهم أساتذتنا وأصدقاؤنا ممن ذكرت ، ولكنى عنيت فحسب بعض النماذج التى تسلّلت إلى جامعاتنا وهى لا تستحق أكثر من كونها ( مدرسا ) يحمل شهادة الدكتوراه . فمثل هؤلاء ــ وهم ليسوا قليلين ــ لا يعرفون أكثر مما كتبوا فى دراساتهم التى حصلوا بموجبها على تلك الشهادة . ولو أنصف السادة المشرفون لما استحقت أمثال هذه الرسائل العلمية مجرد القراءة ، فهى مليئة بالسخف والخرف ( الأدبى ) ، ويكفى أن تنظر لعناوينها التى تنم عن جهل بالمنهج وبالموضوع معا ؛ حتى إن بعضها يحشد ( المصطلحات وأشباه المصطلحات ) فى تلك العناوين دون تمييز لما بينها من تنافر . فإذا سألت أحد أصحاب تلك الرسائل عن منهجه فى الدرس أجابك إن موضوعى كذا ، فإذا كررت السؤال ونبهته إلى أن الموضوع يختلف عن المنهج أجابك مرة أخرى أن موضوعه كذا وأنه يتبع منهجا تحليليا نقديا ، كأن المناهج الأخرى غير تحليلية وغير نقدية !!!