القاهرة 11 سبتمبر 2018 الساعة 01:42 م
الطاهر لكنيزي / المغرب
كلما أُثير موضوعُ آليات إنتاج شِعر الأطفال، فإنّ أوّل معنى لشعر الأطفال، يتبادر إلى الأذهان، هو تلك المحفوظات والأناشيد التي نادرا ما يفكّر فيها المدرّس، والتي يستظهرها الأطفال في المدرسة، على هامش الدروس.
بالرغم من أن أهميتها لا تقل عن أهمية الدروس الأخرى التي يعتبرها بعض المدرسين أنها تتميز بالصرامة، لأنها أساس الثقافة والتعليم، فإنهم يعتبرون حصتها( وقلما تخصص لها حصة) على أنها ضياع للوقت، ونشاط يبعث على اللهو والتسلية ومن باب( والشعراء يتبعهم الغاوون.) كما أنهم لا يدركون أنه من خلالها يستنبط الطفل معاني السلم والسلام و الإخلاص والوفاء و الرحمة و التعاون و العطف والإنسانية و الصدق و الحب والخير والجمال، وكل القيم النبيلة التي لا يستطيع الطفل إدراكها بالملموس إلا عبْر نماذج يقدّمها الكاتب. وقليل منّا من يدرك أن الشعر الذي يمسّ بعض الكبار في الصميم، يمكن أن يفعل كذلك بقدر ما في الصغار أيضا.
من بين التساؤلات التي يمكن أن تطرح حول موضوع بعض آليات إنتاج شعر الأطفال، هناك سؤال يلح على كل مهتم بهذا الموضوع، وهو: كيف يمكن للكبار تدبيج نصوص شعرية للأطفال ترسم عوالم الطفولة بمعجم يعوّض كلماتهم المتلعثمة، ويعبّر عما يؤثّث مخيلتهم الفضفاضة، وغير المحددة الأبعاد، والتي تعجّ بالمخلوقات العجيبة، والأحلام اللازوردية التي لا أحد يصدّقها ويعمل على تحقيقها إلا الصّغار أنفسهم؟ كيف السبيل إلى كتابة نص يستسيغه الأطفال، ويردّدونه كأية أغنية تشدّ بتلابيب أرواحهم، و تنسرب بين الفينة والأخرى من بين حناياهم لتتكسر على شفاههم، فينتشون لسماعها ويطربون مستمعيهم؟
من المعلوم أن هناك صعوبات كثيرة تكتنف الكتابة للأطفال، فتغدو أصعب من الكتابة للكبار. وقد يرى البعض أن كل من فشل في الوصول إلى الكبار عبر كتاباته يتجه نحو الأطفال. أي أنه عندما تعوزه أدوات وقدرات قمينةً بإثارة جمهور القراء الراشدين، فإنه يحوّل مجرى كتاباته نحو حقول الصغار؛ بيد أنني أرى أنه كما للكتابة للراشدين خصوصياتها، فللكتابة الموجهة للصغار خصوصيات أخرى. الاختلاف إذا لا يعدو أن يكون سوى نوعية المتلقي، و الآليات التي بدونها لن يتحقق الإبداع مهما كان توجّهه.
من بين هذه الآليات :
1) معرفة المتلقي: إن كتابة نصوص شعرية للأطفال رافد من علوم التربية وفن يتطلب الإلمام بمراحل نمو الطفل، والتوغل في عالمه، وسبر أغوار وجدانه، وتطلعاته وأحلامه، واستكناه العوامل المؤثرة في شخصيته و محيطه من دين وعادات وتقاليد. وبالتالي فالكاتب يجب أن يكون مخالطا للأطفال، قريبا منهم، يحسن الاستماع إليهم ومحاورتهم، والقدرة على تتبع و فهم أفكارهم وأفعالهم من خلال الملاحظة الدؤوبة.
2) ثقافة متعددة المشارب: يقول مثل فرنسي: « Un sac vide ne peut pas se tenir debout. » (الكيس الفارغ لا يستوي قائما.) إن ثاني عامل مساعد على الولوج إلى كتابة الأطفال هو القراءة، فالقراءة، ثم القراءة : صمّام الأمان لكل مثقف إن لم نقل لكل متعلم, والطفولة هي مرحلة الشحن التي تتزوّد فيها خزّانات الذاكرة والمخيلة. و كل عملية إفراغ لا تتم إلا بعد الشحن طبعا. فالكتب هي الروافد التي يتغذى منها نهر الكتابة؛ فكلما كثرت و تنوعت انهمر سيل الإبداع دافقا مترقرقا، وكلما شحّت جفّ النهر حتى لن يبلّل منقار يراع. فعن طريق القراءة أيضا تتشكل ذاكرة الطفل ويتكون ذوقه الفني. والذوق الفني أو الشعري كما يقول نزار قباني" عجينة تتشكل بما نراه، ونسمعه، ونقرؤه في طفولتنا"
من خلال المثال السابق يمكن أن نهمس في أذن كل من يتوجه بالكتابة إلى الأطفال، أنه يجب عليه أن لا يقلل من قدرة القارئ الصغير على تعلم وحفظ كلمات جديدة، غريبة عليه. إن أحسن وسيلة لإغناء رصيده اللغوي هي أن يصادف هذه الكلمات في سياق مؤثر جذّاب، وتكوّن لديه صورا واضحة يتمثلها، فتجعله يفهم معناها من خلال السياق.
إذا كان هاجس الكاتب هو الإثارة والإفادة والتسلية، فيجب أن لا يمرّر كل عِبرة أو درْس أو مغزى بطريقة مباشرة فجّة، على شكل وصايا ونصائح تمطرق رأس الطفل، وتذكره بالأوامر والنواهي التي يتلقاها في المنزل فينفر منها؛ بل يجب أن يبلور المغزى( القصد) بتواز مع نمو الحبكة التي قد تكون إجابة عن أسئلة تؤرق الطفل حين لا يجد لها جوابا عند أبويه. يكفي أن تتميز نصوص الكاتب بفنية تتغيا جمالية الأسلوب وتذكي المخيلة لارتياد عوالم أخرى.
3) استعادة الطفولة: ليست الكتابة للأطفال التدني والنزول إلى الصغار، والاقتراب من عالمهم ولغتهم، وإنما القدرة على مجاراتهم في نزقهم، وخفة روحهم، وشغبهم، واندهاشهم من الأشياء المحيطة بهم، بمعنى أن على من يكتب للأطفال يجب أن يكون فعلا ما يزال يحضن بداخله طفلا. وفي هذا الصدد يعتقد بودلير أن "الشاعر مثل الطفل الصغير مسكون بالدهشة، و لا يملّ من التحديث في كل الاتجاهات، ومن الاهتمام بكل شيء حتى التي تبدو للآخرين غارقةً أو مجلّلةً بالتفاهة، فهو مثل طفل صغير يرى كل شيء جديدا : الصور والألوان والوجوه." إنه كذلك، مثل كتكوت ينقف كل يوم، بل كل آن بيضة الأحداث؛ يمسح عن عينيه غبش اللحظة، ليرى الحياة بدهشة مولود جديد. لا بد للكاتب أن يستعيد طفولته، و يسائل الطفل الذي كانه ذات مرحلة عمرية، أو الذي مازال بداخله في حالة كمون. عليه أن ينصت إلى قلبه، وأهوائه، وانفعالاته، ووجدانه، وانشغالاته، واهتماماته وأحاسيسه.
واهمٌ من يظنّ أنّ الطفولة مرحلةٌ عمرية نمرّ منها خلال حياتنا، ومتى قطعناها قطعنا معها البتّة. إنها أرومة تلك اللّينة، والتي لا قدرة للزمان على استئصالها من تربة النفس. فكلما هطلت عليها زخّات من غمائم الماضي ، أورقت فبرعمت وأزهرت، ثمّ أتمرت. وللتدليل على هذا، لن أحيلكم على الفلسفة، أو علم النفس، وعلم الاجتماع، أو الطب النفساني؛ بل على أنفسكم. هل منكم من لم تندلق منه بعفوية ضحكة طفليّة في غمرة الجدّ أو الحزن حتى، حتى لقد يخجل من كونه راشدا و صدرت عنه هذه الحركة ببراءة الأطفال؟ من منكم من لم تنخرط يداه بتلقائية في عملية لهو وتسلية، أو تعُجْ به قدماه على فسحة من اللعب، أي نوع من اللعب الذي هو من بين الأنشطة التي تخصّ الأطفال، برغم المسؤولية التي تسيّجه بعوسج الالتزامات اليومية المبتذلة؟ من منكم من لم يتفحص، ويتلمس برغبة طفل ودهشته لعبةً اشتراها لابنه وقد يزاحمه أحيانا في اللعب بها؟
يمكن القول أنه كلما استطاع الشاعر الوصول إلى نفسه(الطفل الذي كانه)، فإنه يستطيع الوصول إلى الصغار. فالشاعر الطفل يكتب بمهارة عالية وفنية تتجلى فيها روح الطفولة الشفافة المعلّبة بالبراءة، و بلغة تصاغ بمهارة وفنية، تتساوق وفنيةَ الخيال وعوالمَه التي تسحر مخيلةَ الطفل ووجدانَه، لأنها نابعة من روح شاعر يستعيد طفولته بالشعر، كما يقول محمد شكري:" حين نفقد طفولتنا، لا يعيدها لنا إلا الشعر." وفي نفس السياق كذلك يقول نزار قباني:" الطفل والشاعر هما الساحران الوحيدان القادران على تحويل الكون إلى كرة بنفسجية معدومة الوزن."
4) الرصيد اللغوي: اللغة، وأقصد بها المعجم؛ فالكلمة كائن حي لها جرْسها، ولونها، ومزاجها، وطعمها، ورائحتها. ويرى "نتشه" أن: " لكل كلمة رائحتَها، فكما أن هناك تناسقا وتنافرا للروائح، فللكلمات كذلك." على المبدع، قبل أن يُقحم الألفاظ في سياق ما، أن يتعرّف عليها ويعجمَ عودَها، ويتذوقَها بكامل حواسّه حتى تشكّل فسيفساء، ولا يشعر القارئ بتنافر بينها.
عندما يقول أحدهم إن بعض الكلمات عصيّةٌ على إدراك الطفل ( التلميذ) أو إنها ليست في متناوله؛ فإنه ينسى أن هذا الطفل لا يملك رصيدا لغويا مهمّا، يمكننا أن نقارنه مع ما نحن بصدد تلقينه إياه؛ فهمّنا في العملية التربوية هو تزويدُه بما يمكّنه من التعبير عما يريده، وعما يعتمل بداخله ويحسّ به، بطريقة سليمة وسلسة تتيح له التواصل مع الآخرين. ذالك أن الأمر لا يتعلق إلا بكلمات متداولة وأخرى غير متداولة، ولهذا يجب أن لا نتحفّظ من تلقين ناشئتنا كلّ مستويات اللغة ( ( les registres de langue.
إن طفلين لهما نفس السن، لن يكون لهما حتما نفس المستوى الثقافي ، ونفس الحاصل الذكائي، ونفس الميول والأهواء والأحلام والتصورات حتى لو كانا توأمين؛ فما بالنا باختلاف العمر والبيئة و الأسرة. هل كنا نفهم كل الكلمات التي وظفها الشعراء الذين سبق ذكرهم؟ بالطبع لا؛ بيد أن القراءة المنتجة للإدهاش، و الربط الفني بين الأبيات، والتجانس اللفظي، و جمالية اللغة و طفوحها، و رونق الكلمة، و سلاسة النظم ، و رشاقة التعبير، والدلالات المؤثرة، والقدرة على ابتكار التغييرات بصورة تشكيلية، حيث تضحى المفردات ألوانا ترسم لوحات تحيل على الواقع، كل هذه العوامل أو بعضها كانت توفر لنا متعة وسعادة، وتدفعنا إلى البحث عن معنى ما أبْهم علينا، فتزداد نشوتنا عندما تتجلى لنا الفكرة المطروحة بوضوح، وغالبا ما ندرك بعضها بالحدس.
أنا من الذين يؤمنون بأن الكلمات كالعملة، ويجب تداولها وإلا جمدت فماتت، وبموتها تنحسر اللغة. و من الفروض على الذي يكتب للأطفال أن يمتلك ناصية لغة ثرّة ومتعدّدة المستويات، حتى يكون حافزا لإغناء و تطوير وتنمية لغة الطفل، وتكونَ نصوصُه جسرا يعبر عبرها القارئ الصغير نحو قارات أخرى.
5) الإيقاع: للموسيقى كذلك دور فعّال في دوزنة مشاعر الطفل وتحسيسه بأن هناك نظام في الكون رغم تجلّي الارتجال والفوضى؛ إنها تبثُّ فيه ملكة الإيقاع، وتعوّد أذنه على استساغة كل ما هو متناغم ورخيم ينضح بالغنائية؛ والأم هي أوّلُ معلّم للشعر عبر ترديدها لمقطوعات وأهازيج مموسقة، والتي ينصت إليها الطفل باهتمام وتداع كليّ حتى ينام على هدهدة الإيقاع ولو كان رتيبا رتابة اللازمة. قد يستغرق منّا حفظُ أغنية وقتا اقلّ ممّا يستغرقه نصّ يعتمد الوزنَ، أو الإيقاعَ الداخلي، كما أن هذا الأخير يأخذ منّا كذلك، وقتا أقلّ من الذي يحتاجه حفظُ نصّ منثور. فلكي نحبّب إلى الأطفال النصوص الشعرية، يستحسن أن تكون موزونة و مقفاة لتسهيل استذكارها، وترديدها فتحصل الفائدة المرجوة منها.
6) الطبع أم التطبع: قد يظن المرء أن الكتابة للأطفال أو الكتابة عامة تستدعي انتظار الإلهام كي تتواشج الكلمات وتنساب طيعة رائقة حتى آخر كلمة في النص. غير أنها تتطلب نظاما وتحضيرا واستعدادا نفسيا وماديا. يقول "بول فاليري": " إن الإلهام يوحي لنا بِبَيت شعري، ولكن العمل يمنحنا الثاني." وهذا يعني أن إتقان الكتابة يستدعي العمل بجدّ والحفر باستمرار في عوالم الطفولة حتى يكون النص تحفة، وقد نشوهها إن أضفنا أو حذفنا شيئا منها. أما نزار قباني فيقول:" أنا من أمّة تتنفس الشّعر، وتتمشّط به، وترتديه. كلّ الأطفال عندنا يولدون وفي حليبهم دسَم الشعر، وكل شباب بلادي يكتبون رسائلَ حبّهم الأولى شعرا."
فهل يكفي أن تكون ممارسا لشيء ما لتتقنَه، أم أن هناك جينةً يرثها من يكون منذورا للكتابة للأطفال، أم أنه لا غنى للكاتب عن أحدهما:الموهبة التي تنمّى بالممارسة والصقل والتهذيب ؟