القاهرة 11 سبتمبر 2018 الساعة 10:48 ص
عاطف محمد عبد المجيد
يبدو أن أكثر شيء يحب الأنثى في هذا الكون هو القهر الذي يلازمها طوال الوقت وبصور متعددة، وما من أنثى إلا وعانت في حياتها من صورة من صوره، وفي هذه السطور قراءة لروايتين، البطل في كل منها هو القهر وإن اختلفت صورته فيهما.
" 1 "
في روايتها ” تذكرْ دومًا أنني أحبك “ الصادرة عن دار غراب للنشر والتوزيع تناقش وفاء شهاب الدين علاقة الحب ما بين الرجل والمرأة، سواء أكان حبًّا صادقًا من الجانبين، أو من جانب واحد، خاصة من جانب المرأة، التي قد تتعرض للخيانة من رجل يُمثل عليها دور الحب، إلى جانب عدة قضايا أخرى تخص المرأة التي يغدر بها الرجل، ناظرًا إليها في معظم الأحيان على أنها مكان آمن لتفريغ شهوته، معبرًا في أحايين قليلة عن حبه لها كإنسانة لها جسد وروح.
تتحدث عن الرجل الذي يخون امرأته تاركًا إياها تلوك مأساتها بسببه، ومعاناتها من علاقته بها، وحيدة تتلوى بين براثن الحياة بما فيها من وحوش بشرية, المرأة هنا لم تكتفِ بالصمت على خيانة الرجل لها، بل حاولت أن تثأر لنفسها، حتى ولو قتلت ذلك الرجل الخائن في خيالها، أو أطلقت رصاصاتها على صورته المُعلّقة على الحائط: " نظرتُ إليه وقد أفرغتُ رصاصات مسدسه في رأسه، فلم ينزف، فعلمت لحظتها أن أجساد الأحبة حين تتخلى عن الحب تغادرها الدماء. أحببته فمنحني قلبًا من الجنة وجسدًا من جحيم، ابتسم فعلمت أن حياتي قد اختزلها القدر بكف رجل، عبس فأفرغت كل حناني تحت قدميه نُشدانًا لابتسامته، يوم لقائنا الأول قَبّل يدي وناداني بمولاتي، فرضيت أن تكون كل سنوات عمري بساطًا سحريا يحمله حيث أماكن الخيال ودروب السعادة ".
الرواية تسرد هنا قصة امرأة أحبت رجلًا، غير أنه كان سببًا في عذابها، بغدره وخيانته لها، مما أدّى بها إلى محاولة قتله, ولأنها لم تستطع أن تفعل هذا في الواقع، صوّبت رصاصاتها إلى صورته: " توقعتُ أن تقتلينني، لم أتصور أن تصوّبي رصاصاتك لصورة ", الرواية هنا -على الرغم من كون حدثها الأهم هو قصة حب بين اثنين- إلا أنها تحمل لنا عبر صفحاتها كمًّا ضخمًا من الآلام المكبوتة، والعذابات التي اجتاحت جسد الراوية وروحها: " لا تُقدّم النصيحة أبدًا لبركان ينفجر، ولا تواسيه، فلا تعلم كم يعاني".
الأنثى المغدور بها هنا جهزت حقيبتها تاركة صورة تنزف على الحائط، متعجبة من أصل الصورة/الرجل بلحمه ودمه، الذي صوّر له غروره أن يطلب التضحية من بركان انفجر, ليس هذا وحسب، بل إن الراوية تشعر هنا بخيانة ما، مما جعلها تشعر وكأنها أسيرة وحدة وغدْر يرفرف فوقها، يذكرها أنها في طريق الحب لم تتعلم سوى الوفاء، لكنها تسير وقد خيمت على قلبها عناكب الجزع، ومنحتها الصدمة روح التحدي, تذكر دومًا أنني أحبك، رواية نجد في سطورها معاناة ما وجراحًا معنوية أصابت جسدًا ما كان له أن تقترب منه هذه الجراح، وها هي الراوية تبدو وحيدة في الحياة لا تدري إلى أين تتجه: أَلِشقيقة شغلتها الحياة عن التواصل مع كل أقاربها، أم إلى أم تخلت عن مسئوليتها المقدسة وسكنت قبرًا تبكي عنده كلما شعرت باحتياج، أم إلى أب ظل طوال حياته يُمثّل دور فتى الحب الأول بلا إتقان، وحينما أجاد الدور اكتشف أنه أضاع حياته لهثًا خلف سراب، بعد أن غرر الحب به ومنحه لقبًا بلا رجل؟ بعد كل هذا لم تجد سوى أخيها لتذهب إليه وتُلقي بنفسها بين ذراعيه، قاصةً له ما حدث لها من خيانة زوجها لها، وأنه تزوج غيرها وأنجب طفلين, لكنها في هذه اللحظة تتساءل هل سيغدر بها هو الآخر، مثلما غدر بها الرجل الذي ظنته حبيبًا وقضت عمرها بين ذراعيه، ظانة أنها جزء منه، ثم تكتشف بعد فوات العمر غدره بها وخيانته لها.
" 2 "
لم أكن من المحظوظات، لم أحصل على زوج ولا على تعليم، كل ما حصلت عليه الحرمان من طفولة سرَقَتْها مني المصانع، من ورشة خياطة لمصنع مياه غازية، لمصنع تريكو, هذا ما تقوله سهام العربي على لسان بطلة روايتها " إسدال " الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب.
تناقش العربي في روايتها هذه حالة القهر العام الذي يقع على الأنثى، وما كلمة إسدال التي جعلتها عنونًا للرواية إلا إشارة إلى كل قيد يمنع الأنثى من ممارسة حياتها بحرية غير منقوصة، دون أن يتحكم مؤثر خارجي في كتابة سيناريو حياتها, ليس الإسدال هنا هو الزي الذي ترتديه إحدى بطلات الرواية ويعيقها عن الحركة فحسب، بل هو الضباب الذي يخيم على العقول ويجعلها تحتجز الأنثى في دوائر القهر الذي يُمارس عليها سواء من قِبَل مجتمع ذكوري لا ينظر إليها إلا لكونها سببًا لمتعة الفِراش، أو من قِبل رجل ليس سوى ذئب يفترس جسدها افتراسًا لا رحمة فيه، رجل كلما كشفت له لحمها كشف لها هو عن أنيابه.
بطلات العربي إناث يكابدن عذابات الحياة القاسية " أصعب شيء ألا تجدي في هذا العالم الواسع ركنًا يخصكِ، تبكين فيه ", العربي تحاول هنا أن تدخل إلى دهاليز عالم الأنثى، متجهة مباشرة إلى أعماقه، معبّرة عن الأنثى ككيان مكتمل، لا كجسد مُشْتهًى يفتقد إلى روح تبث فيه الحياة.
هنا تكتب العربي روايتها متحليةً بقدر كبير من الجرأة الروائية التي تجعلها قادرة على التعبير عن عوالم المرأة وأدق تفاصيل حياتها، دون أن تضع أمامها رقيبًا يُمسك يدها عن الكتابة كيفما تريد." كنا نمارس الحب مثل موجتين متعانقتين فوق فراش وثير هو البحر، تحركهما نسائم صيفية، نمتزج ثم نهدأ ", لا تجد العربي حرجًا في ذِكْر النهود النافرة وغيرها من مفاتن الأنثى.
إسدال رواية بطلاتها معظمهن ريفيات تركن قراهنّ ثم انتقلن إلى القاهرة إما لإكمال الدراسة وإما للعمل لمساعدة الأسرة في نفقاتها. ذهبن إلى القاهرة، المدينة ذات الوجهين، وجه تبدو فيه مدينة الأزقة والحواري وأولاد البلد الطيبين، وآخر تبدو فيه مدينة الأحياء الراقية والفيلات ورجال الأعمال والنصابين, العربي ترصد بعينِ راويةٍ عليمةٍ في روايتها هذه رحلات معاناة حياتية تتعرض لها فتيات عانين الأمرّيْن في بلد لم يعد يملك إلا ورقة توت لا تستر عورته، أو ربما يرتدي مثلهن إسدالًا مثقوبًا، يرى العالم كله عوراته من خلاله إلا هو.
هنا يبدو واضحًا أن العربي لا تريد أن تكتب عن المرأة كما يفعل بعض الكُتاب الذين لا تتعدى كتابتهم عنها حدود تضاريسها الجسدية ومفاتنها وفتنتها, الرجال يكتبون عن المرأة من بُعد كرسام يحاول رسم بورتريه لشخص تفصله عنه مئات الأمتار، أما العربي فقد دخلت، أو تسللت إلى داخل كيان المرأة وعبرت عنها من داخله لا من خارجه، مما يجعل من روايتها تسجيلا لحال معظم النساء في مجتمع تربى على اضطهاد المرأة وحرمانها من كل حقوقها، مستندًا إلى كونها ناقصة عقل ودين، وأنها ليست رشيدة بالحد الذي يجعلها تتخذ في حياتها قرارات حكيمة.
هذا وفي دراسته عن الرواية يقول الروائي محمد جبريل إن سهام العربي تمتلك أدواتها، قاموسها اللغوي واضح الثراء، لا تكاد تلح على كلمة أو جملة، وهي تحسن اختيار الكلمة الأصدق تعبيرًا، وتجيد موسيقى اللغة وإيقاعها ونقل المعنى بما يرفض الجفاف والمباشرة, جبريل يرى كذلك أن العربي تحرص على بساطة العبارة ووضوحها، وعلى إحكام العبارة في الوقت نفسه واعتبار التقنية أداة للتوصيل والإضاءة وليس للإبهار، أو الزخرفة أو التوشية.