القاهرة 05 سبتمبر 2018 الساعة 12:25 ص
د.خالد عبدالغني
وفي شهر مايو من عام 2005 ألقيت محاضرة بمركز إبداع الفتاة بالدوحة حول الفن التشكيلي عند ليوناردو دافنشي وديوان أناشيد مبللة بالحزن لعيسى الشخ حسن وملحمة الحرافيش لنجيب محفوظ كانت حديث الصحف والناس لفترة طويلة من الزمن.
وفي 13/9/2006. كان لقائي الثاني بالأديب الكبير جمال الغيطاني – كان اللقاء الأول دون موعد في أحد شوارع القاهرة في صيف 2004 وكان عيسى الشيخ حسن حاضراً ذلك اللقاء بل كان الفاعل الأهم فيه واقتصر دوري على التصوير الفوتوغرافي لهما والذي احتفظت بعده في مكتبتي بصورة بديعة وفريدة ونادرة لهما معاً، وكان عيسى أيضاً صاحب اللقاء الثاني الذي عرفني بموعده - في محاضرة تحدث فيها الغيطاني عن نجيب محفوظ وكانت قد ألقيت بالمجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث بالدوحة وطلبت منه أن ينشر لي دراسة حول نجيب محفوظ وعاشور الناجي في جريدة أخبار الأدب التي يرأس تحريرها وأعطيته الدراسة ووعدني بنشرها قريباً، وفعلاً وفىَّ بما وعد ، ونشرت في العدد التذكاري رقم 700 بتاريخ 10 ديسمبر 2006 صفحة 14 و15 بمناسبة ذكرى ميلاده وعلى الغلاف صورة كاملة لنجيب محفوظ بعدسة جمال الغيطاني.
وبعد عودتي لمصر عام 2007 تولى – بمبادرة كريمة منه - عيسى الشيخ حسن إهداء كتابي التحليل النفسي والأدب "الملحمة والرواية والشعر" لعدد كبير من المبدعين والنقاد والإعلاميين الذي أثمر حواراً مطولاً - في إذاعة مونتكارلو الدولية - مع فايز مقدسي في برنامج أفكار تناول موضوع الكتاب ونجيب محفوظ وكان سؤال المذيع هل رأيت نجيب محفوظ ؟ وكانت أجابتي بالنفي لأني يوم أن تعرفت على عالم نجيب محفوظ كان عمره قد تجاوز الثمانين عاماً بقليل ، وكنت في مرحلة المراهقة وكان اللقاء مستحيلاً، فكيف الوصول إليه! ؟ وحكيت له كل ما سبق حول دخولي عالم نجيب محفوظ .
كما نشرت عدداً من الدراسات عن نجيب محفوظ بمجلة ضاد الصادرة عن اتحاد الكتاب المصريين، ومجلة الرواية وإبداع الصادرتين عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ومجلة تحديات ثقافية، ومجلة عمان الثقافية بالأردن، وجريدة أخبار الأدب بمصر ، والشرق بقطر. وقمت بجمع كل هذه الدراسات لتنشر أولاً في سلسلة نجيب محفوظ بالهيئة المصرية العامة للكتاب وبإشراف الأديب يوسف القعيد الذي لم يكن جاداً في نشر الكتاب حيث ظل الكتاب حبيس الأدراج عاماً كاملاً ، وفي تلك الأثناء كان حماس المفكر والشاعر الكبير مهدي بندق عظيماً فشجعني على التقدم بالكتاب إلى المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة وكان تحت عنوان "نجيب محفوظ وسردياته العجائبية " وفعلاً نشر الكتاب بأسرع مما كنت أتوقع في عام 2011. وكتب عنه عرضاً - في تحديات ثقافية تلك الدورية التي يصدرها ويرأس تحريرها - له يقول فيه "يعلم مؤلف هذا الكتاب أن الروائي الأعظم نجيب محفوظ قد صرح يوماً أنه لم يطلع على نظرية رائد التحليل النفسي سيجموند فرويد Freud والتي ضمنها كتابه تفسير الأحلام والذي ترجمه د. مصطفى صفوان وراجعه د.مصطفى زيور. لكنه – أي مؤلفنا الشاب – قد عقد العزم على ألا يلقي بالاً لما يقول المبدع عن خلفياته الأداتية ، ليكرس كتابه بأكمله للبرهنة على أن نجيب محفوظ إنما كان رائداً للكتابة الروائية العربية – مثله مثل ديستوفسكي في الأدب الروسي – التي تجمع إلى شكلها الواقعي غرائب الأحلام وعجائب الأساطير ودلالات الرموز في مستواها الجمعي المستور.
وفي رأيي أن تلك المغامرة النقدية في تناول بعض الروايات الهامة من أدب الأستاذ نجيب ، رغم كونها ليست الأولى في هذا المضمار ، فلقد سبقتها محاولات جادة من جانب كثيرين، إلا أنها لحرية بالالتفات لما بذل فيها من جهد ، ولتناولها موضوع الدراسة من زوايا جديدة . فكاتبنا الدكتور خالد عبد الغني يستعرض آراء من سبقوه من النقاد بدقة وأمانة جديرتين بالتنويه والإشادة، موضحاً كيفيات تعاملهم مع منهجية نجيب محفوظ في استخدام الحلم سواء باعتباره – من وجهة نظرهم – آلية فرويدية أو بعد فرويدية Post-Fruedism ، آخذاً على بعضهم (جمال القصاص مثلاً) إفساده لدلالات النص المحفوظي بالتطرف في تأويل سريرة صاحبه (= نجيب محفوظ) كما لو كان مريضاً يخضع بما كتب للتحليل النفسي وليس أديباً عبقرياً ذا عرض ناصع الجيب وافره!
لعل نجاح خالد عبد الغني في التحرر من تأثيرات من سبقوه على هذا الدرب الشاق في التفسير السيكولوجي هو ما أغراه بالانتقال من تحليل وظيفة الرمز Symbolic Function إلى اقتراح دمجه ضمن الوسائط المختزلة للوقائع البشرية خاصة الاستثنائي منها ليتم بهذا الدمج فهم الواقع على نحو اكثر ثراء .
في هذا السياق يختار المؤلف سيرة عاشور الناجي (من ملحمة الحرافيش) ليطابق بين مصيره ومصير نجيب محفوظ نفسه باعتبارهما نموذجين للباحثين عن العدل والملاقين الاضطهاد بسبب بحثهم هذا ، حيث يتعرضون للنفي والصلب (كما الحلاج) وطعنات السكاكين ، وما من شك في أن التوفيق إنما كان حليف مؤلفنا حين ربط دلالة الناجي (بما تعنيه صفة اسمه) وبين نجاة محفوظ من محنة محاولة اغتياله ، مذكراً بأن نجيب وإن كتب الحرافيش قبل المحاولة الأثيمة إلا أن ذلك لا يمنعنا من أن نضع في الحسبان فكرة استبصار نجيب محفوظ بما سيتعرض له من اضطهاد قادم بفضل غوصه المستمر في عالم الأحلام الذي يشع بالنبؤة ضمن ما يشع . وهذا ما حدا بنجيب إلى تسمية محنة عاشور الناجي وعشيرته التي حصدتهم بالـ " الشوطة" ، وإنها لنفس التسمية التي يمكن لنا أن نطلقها على ما جرى لمصر "المحروسة" (لا أدري لمَّ الاصرار على هذه التسمية الزائفة؟) حيث تحولت رمال الفكر الوهابي القادمة من الشرق على أكتاف الرياح الشريرة إلى مدافع رشاشة وقنابل ورصاص وسكاكين تقتل أطفال المدارس [عدة المستقبل] والسياح ضيوف البلاد ، وتحرض على قتل غير المسلمين (أقباط مصر في مقدمتهم) حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ! وكما جرى تكفير المفكرين من أساتذة الجامعات والتفريق بينهم وبين زوجاتهم الأستاذات أيضاً ، انطلقت دعاوى الحسبة (القضائية)
بالضد على النقاد والشعراء والمثقفين ، حتى اكتملت باغتيال أحدهم فعلاً ، وكاد أن ينجح اغتيال ثانيهم (والدهم الحاني الجميل) لولا أن نجَّاهُ الله بمعجزة لا تتكرر.
كذلك لم ينس الكاتب – خالد - أن يقارن بين عاشور الناجي الذي ارتضى لنفسه احتياز قصر البنان (الأصابع) في غيبة صاحبه ، وبين محفوظ الذي قبل جائزة نوبل كرشوة من الصهاينة مكافأة له على تقديره لليهود في أولاد حارتنا ، علاوة على تأييده السياسي لاتفاقيتي كامب ديفيد ومعاهدة الصلح مع إسرائيل [وهو تفسير يتماشى وما روج له بعض المثقفين المتشنجين ، جنباً إلى جنب التيار الفاشستي "الملقب دلعاً" بالإسلام السياسي] وأياً كان الحال فقد تمكن خالد عبد الغني من معالجة الأمر في مجمله بمهارة إذ اعتبر أن خطأ الرجلين : عاشور الناجي ونجيب محفوظ إنما وقع بحسن نية ودون تواطؤ مقصود مع قوى الشر، وآية ذلك أن محبة الناس لأديبها العبقري ظلت قائمة مثلما استمرت محبة الحرافيش لعاشور الناجي، لا سيما وأن الرجلين كليهما أوقف ما آل إليه من ثروة – أياً كان مصدرها – على أعمال الخير.