القاهرة 05 سبتمبر 2018 الساعة 12:21 ص
د.خالد عبدالغني
في العام الدراسي 1987 – 1988 كنت في قريتي القريبة من الشمال الشرقي لمدينة القاهرة أدرس بالسنة النهائية بالمرحلة الثانوية العامة القسم الأدبي، وكان اهتمامي بالفن التشكيلي آنذاك كبيراً فرسمت صورة بورتريه لنجيب محفوظ وأبرز ما فيها تلك الحسنة عند خده الأيسر ، بعد أن رسمت أم كلثوم وتوفيق الحكيم وعباس العقاد وطه حسين وكانت تلك الأعمال موضوع جوائز بسيطة حصلت عليها أيام الدراسة الجامعية فيما بعد ، وانتظمت في كلية الآداب بالسنة الأولى في العام الدراسي 1988 – 1989 وعند عودتي للقرية في أحد الأيام أسمع الخبر يتردد في الإذاعة وهو فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل ، وقبل ذلك تعرفت على زميل يدرس بقسم الفلسفة ، وأخبرني بأنه عاد من المملكة الأردنية الهاشمية ومعه نسخة من رواية أولاد حارتنا ، وكنت أعرف أنها ممنوعة من النشر في مصر، وأن زميلي يعتبرها نسخة مهربة وممنوعة من التداول.
وهذا المنع ربما شجعني على قراءتها علاوة على أنه قال لي يومها: أن نجيب محفوظ يهاجم الله "سبحانه وتعالى" والأنبياء في تلك الرواية، وكانت أول قراءة منتظمة لي لنجيب محفوظ سبقتها قراءات سريعة ومبسطة ومعلومات في الصحف أو بعض المجلات أو متابعة لبعض الأفلام المأخوذة عن قصصه ، حتى درس لنا الدكتور السيد فضل - الناقد والأستاذ الجامعي وعميد كلية الآداب فيما بعد - بعض روايات نجيب محفوظ ذات الطابع النفسي وهي الشحاذ والطريق فزاد من أعجابي بعالم نجيب محفوظ رغم التحفظات الدينية التي أحاطه بها بعض الدعاة وكان أهمهم الشيخ عبد الحميد كشك والشيخ محمد الغزالي وبخاصة حول رواية أولاد حارتنا التي كنت أرى في اليوم الذي قرأتها فيه أن نجيب محفوظ استحضر القرءان الكريم وقصة خلق آدم وحواء وكذلك قصص الأنبياء ليحكي تاريخ الإنسانية
وبالرغم من نشأتي الريفية القريبة إلى التدين إلا أني لم أستطع أن أجاري المنتقدين من أنصار الجماعات الإسلامية الذين كانوا ينتشرون في الجامعة حينها ومحاولاتهم الجادة لضمي– هذه كانت طريقتهم مع كل طلاب الجامعة- إليهم وتجنيدي في صفوفهم في موقفهم من نجيب محفوظ أو من حبي للفن والأدب.
وبعد سنوات بسيطة كنت قد تخرجت من الجامعة وعملت في مجال الصحافة والمعلومات وذات صباح في عام 1994 قرأت الخبر المفزع عن محاولة إغتيال نجيب محفوظ بأيدي أحد الشباب على خلفية فتوى بتكفيره ، وهزني الحدث إذ كيف لشاب أن يقتل شيخاً عمره 83 عام ، وكيف طاوعه قلبه وكيف آمن عقله وكيف أمسكت يده بالسكين ؟ بل والأدهى من ذلك كيف صدرت تلك الفتوى من جاهل بالدين وبالفن وبالأدب بل وبالحياة نفسها ؟.
وظللت أتابع القضية وأخباره الصحية زمناً وأقرأ له كل ما تيسر لي ، وفي عام 2000 سافرت للعمل خارج الوطن وتعرفت على صديقي الشاعر السوري الكبير عيسى الشيخ حسن وزاد من عمق علاقتنا أنه يعشق كل ما هو مصري حتى لغته تحولت الى اللهجة المصرية . ليقول لي :" كنا ونحن صغارا نتباهى بتقليد لغة المصريين التي نراها في السينما ، وكنا نتسابق لقراءة رواية أو كتاب لمبدع مصري وإن نجيب محفوظ وجمال عبدالناصر وأم كلثوم هم من سيبقوا في التاريخ"، ورأيت في مكتبته في حجرته التي يسكنها – إذ كان يسكن في مكتبة لا في حجرة - معظم روايات نجيب محفوظ وغيره ولقد منحني الكثير منها.
وعندما جاء لزيارة مصر في صيف عام 2004 عاد ومعه حقائب تصنع مكتبة كاملة، وكان – عيسى الشيخ حسن - دافعاً قوياً لي لكي أبدء في مشروع القراءة النفسية للأدب الذي رأى بحدسه قدرتي على الإضافة إليه – ولعلي أكون استطعت تحقيق حدسه - .
وكانت البداية أن تحدثت عن الحرافيش ونجيب محفوظ في محاضرة عامة تحدثت عنها الصحف لأكثر من أسبوع بالدوحة ، ونشر لي في الصفحة الأدبية الرئيسية بجريدة الشرق التي يعمل بها مقالين عن الحرافيش ، وفتح لي الباب للنشر في مجلة عمان الثقافية بالأردن، لأحقق منها انطلاقة بدأت من عام 2006 وحتى توقف المجلة في نهاية 2009 نشرت خلالها دراسات نقدية للأدب شعره ونثره من منظور علم النفس، وفي 28 أغسطس 2006 سافرت للخارج وكنت مقيم لمدة يومين في أبو ظبي، وسمعت بخبر خلود نجيب محفوظ للرفيق الأعلى في 30 أغسطس وأنا في أبو ظبي وعندما سافرت أيضا لمكان عملي في الدوحة وكان حديث عيسى الشيخ حسن وعزائه مما لا ينسى، وكانت الشرارة التي أشلعت في حواسي هذا الكتاب، فقد كتب يقول :"عرفت نجيب محفوظ يافعاً تستوقفني عناوين روايات خان الخليلي، خمارة القط الأسود، الشيطان يعظ، اللص والكلاب..الخ فوق أغلفة مزينة برسوم تماثل ملصقات الأفلام، وطبعات من الورق الفقير الأصفر، تعمد مكتبة مدينتنا الصغيرة إلى عرضها بأكثر من طريقة لعلّ مراهقين مثلنا يقبلون على شرائها مضحين بمصروف الجيب الزهيد، وكان علينا أن ننتظر مواسم الصيف لعلنا نستطيع شراء رواية أو روايتين. وكان علينا أيضاً أن ننتظر إلى أن نصل إلى الثانوية العامة لنحفظ مقتطعات من الثلاثية وزقاق المدق كي ننجح في آخر العام. وفي الوقت الذي كان فيه أحمد عاكف ورؤوف علوان وسيد عبد الجواد يثرثرون فوق وسائدنا متبرمين ضجرين قاطعين أشواطاً طويلة ملء صفحات تتقلب بين أصابع متلهفة يهمها أن تطمئن على مصائر أشخاص معجونين بماء الواقع، في ذات الوقت كانت فلسفة نجيب محفوظ تنحفر في أذهاننا ، فلسفة الحياة الواقعية التي تنحاز إلى شروطه القاسية، ولا تنتصر لرغباتنا الفظة في أن ننقذ ابطالنا من مصائرهم الصعبة، إلى الحدّ الذي تتهم فيه الكاتب بضرب من العدمية تجاه أبطاله الذين يقضون أمامه دون أن يمدّ يديه إليهم. ذلك أن محفوظاً " الرائي" يدرك لعبة الواقع الماكرة فيكتفي بحمل الكاميرا ويصور من بعيد، من زوايا مختلفة تحاول عبثاً أن تبعدنا عن أبطالنا الذي يختنقون بين طيات الورق الأصفر الفقير ، بالرغم من خدعة الأغلفة الملونة بملصقات الأفلام. كان عليّ أن أعاتب محفوظاً قبل أن يرحل و أنا أشارك سعيد مهران نقمته الحادة على ضياع الثورة التي أكلت أبناءها، كان عليّ أن أشارك أولاد حارته البحث عن المطلق في العدل، وأشارك حرافيشه محنة تقلب الأمر بين تيارات عدة، تنتفض في البدء ثائرة على الظلم الذي سرعان ما يعود، وكأنه لا نهاية لهذا الشقاء الإنساني الطويل. وكان علي أن أعيش معه في أحلام فترة النقاهة، وإن كنت أعرف أن محفوظاً ـ من دون تحفظ ـ هدية مصر والعرب إلى العالم في القرن العشرين عموماً، و أن " جائزة نوبل" وإن جاءته على طبق السياسة المريب، فإنها استعادت هيبتها في ثمانينيات القرن الماضي بدعوتها روائياً مثل نجيب محفوظ، وشاعراً مثل المكسيكي أوكتافيو باث إلى قائمتها، بعد أن فقدت بهاءها و هي تتنقل بفعل السياسة من أديب مغمور إلى أديب مغمور. كان عليّ أن أطوف خان الخليلي في أمسية قاهرية عذبة، بين دكاكين المشغولات الشرقية التي صممت على عجل من أجل السياح الباحثين عن سحر الشرق، وبعض لوحات الفن التشكيلي المغفلة من أسماء الرسامين، وبين مقهى الفيشاوي الذي يأتي إليه الرجل ليقضي بعض الوقت هناك. كان عليّ أن أعود إلى أعماله الأخيرة لأرى استبصاره بالنهاية ـ كما يؤكد ذلك صديقي د. خالد محمد عبد الغني- . كان عليّ أن أردد بأسى: " كم نحن بحاجة إلى روايةٍ عن عرب ما بعد 11/9 يكتبها نجيب محفوظ ".