القاهرة 04 سبتمبر 2018 الساعة 09:44 ص
كتب: أحمد رجب شلتوت
هل ثمة علاقة بين مزاج الكاتب وحالته الإبداعية من ناحية وبين تعاقب فصول السنة؟ هل حقا الصيف فصل للّغو بينما الشتاء للجد كما رأى الدكتور طه حسين، ألذلك اعتاد نجيب محفوظ أن يجعل الصيف للتأمل و التفكير في رواياته التي يكتبها في الخريف والشتاء، أما إبراهيم أصلان فيرى أن الكتابة حالة شتائية، فحر الصيف يدفع بالفيض الإبداعي بعيداً، على العكس منهم نجد كامي مثلا يفضل الكتابة صيفا ومثله كيتس ورامبو.
علاقة عكسية
تؤكد دراسة أجرتها إحدى الجامعات الأمريكية أن أمزجة البشر عموما تتأثر بالطقس، إذ بيَّنت أن الميل للعنف يكثر في أيام الحر لارتفاع إفرازات الأدرينالين مما يزيد درجة التوتر، أما البرد، فيساعد على هدوء الأعصاب؛ فتكثر جرائم السرقة والسطو والاحتيال؛ بما أنها جرائم “أقل عنفا” من تلك التي تحدث في المناطق الحارة. فهل يمكن تعميم تلك النتيجة على الإبداع؟ كما خلصت الدراسة إلى أن الشعور بالدفء الفيزيائي هو أبسط الدلائل التي يمكن للناس أن يتعرفوا من خلالها على عالمهم الاجتماعي، وبالتالي فالعلاقة بين الجو والمشاعر علاقة عكسية فمع ازدياد درجة الحرارة في شهور الصيف تنخفض المشاعر وتفتر العلاقات الودية، حيث أن انفعال الإنسان يتأثر ويزداد مع درجة الحرارة ويجلب توتراً ونفوراً وبالتالي تتباعد العلاقات، ويحدث العكس مع انخفاض درجات الحرارة، فقد لاحظ الباحثون انخفاض معدلات الاكتئاب في الشتاء. الدراسة المنشورة منذ ثلاثة سنوات في مجلة أكتا سايكولوجي (acta psychology)، تعمم النتائج على كل ما يمارسه البشر من نشاط، فهل حقا هناك ارتباط بين تغير فصول السنة والحالات الإبداعية والمزاجية لدى المبدعين؟
كل الفصول صالحة
الأديب الكبير محمد جبريل لا يربط بين تغير الفصول وملائمتها للحالة المزاجية والابداعية لدى الأديب, ويقول "من جهتي أكتب في فصل الصيف والشتاء حسب الفكرة، ومنذ بدأت علاقتي بالكتابة الأدبية وأنا أحاول أن أكتسب عادة الكتابة اليومية، بصرف النظر عن كل شىء، أنا أكتب لأني أستمتع بالكتابة، لكن تعلمت ألا أحاول الكتابة في ظروف غير مواتية: الرغبة في النوم، اعتلال المزاج، الانشغال بقضايا ملحة خاصة أو عامة، قد أجلس إلى المكتب في بيتي ويمر دون أن يسعفني الخاطر بما أخطه على الورق. فأتشاغل بالتطلع من الشرفة، أو أشرد في التأمل. حاولت أن أرتب نفسي للكتابة في مواعيد محددة، وقت الصباح، وقت ما بعد القيلولة، في المساء، ثم تبينت أنه من الصعب أن أحدد وقتًا للكتابة. كل الأوقات صالحة مادام التهيؤ للكتابة قائماً. ويصعب القول إني أخصص وقتاً للكتابة، ليلاً أو نهاراً. أنا أكتب عندما تواتينى الرغبة في الكتابة، وفي أى مكان أجلس فيه. لكن بصراحة أخفقت في الإبداع المنتظم كما كان يفعل أستاذنا نجيب محفوظ.
حياة أخرى
ويشاركه الروائي مصطفى البلكي رأيه، قائلا " الكتابة حياة, لذلك فالحياة المكتملة هي التي توجد خطا مستقيما يمتد في اتجاه واحد, لو تم وحدث قطع في لحظة ما, سيكون القادم مضطربا, ولا يحدث فيه أن يسمع الكاتب ذلك الصوت الذي ينمو بداخله ليقول له: أنت بخير, وتلك القطيعة لا يصبح للتأمل فيها أى وجود, ومهما سمعنا من أقوال بأن بعض المبدعين يحددون أوقاتا معينة للكتابة, فهذا لا يعني بأنه كان في قطيعة مع الكلمة ومع العالم الذي أوجده, فمن جلس ليكتب عاش قبل هذه اللحظة زمنا مارس فيه فعل التأمل والتكوين, فلا شيء يأتي من فراغ, ودائما هناك شيء, حياة أخرى تستغرق وقتا ما قد يمتد لسنوات أو شهور يكون فيها المبدع في تشابك وتواصل مع شخوصه. صحيح تختلف الطقوس من كاتب لآخر, لكن يظل الأمر في النهاية مرتبطا بتعريف المبدع للكتابة التي تمر عبر مرحلتين, مرحلة التكوين و الخلق, والمرحلة الأولى قد تأخذ وقتا أكبر, حيث يتم خلالها تشكيل العالم المراد رسمه, تكون فيه المعايشة قائمة بين المبدع ومفردات العالم الذي يتكون بداخله من خلال حالة سفر دائمة في براح اللامرئي, يتم هذا بقرار منه, وبمعنى أوضح لولا علاقة الود بينه وبين هذه الحياة ما وجدت المرحلة الثانية, والتي أطلق عليها عملية فك القيد أو التحرر أو الخلاص, وهي مرحلة الكتابة, أثناء هذه المرحلة يصبح للزمن مذاقا خاصا, يتحول النص لطفل, يكبر مع الأيام, تصاحبه سعادة لدى من يقوم برعايته, فتنعكس هذه الحالة على حركته, لذلك من خلال ما سبق, أؤمن بأن الكاتب يكون في حالة حركة دائمة خلال كل الفصول, حركة لا تتوقف عبر التأمل والكتابة, ووقت أن يضع نقطة ويتنفس بعمق ويقول: انتهى كل شيء, ستبدأ مرحلة أخرى من خلال عالم آخر يدخله عبر نفس علاقة الود التي تقيم حياة.
الروائية الفلسطينية بشرى أبوشرار تؤيد العميدين طه ومحفوظ ولا تكتب صيفا، فهو بالنسبة لها "فصل موات إبداعيا"، لم أسأل نفسي يوما أين تذهب مني حروف الأبجدية حين يقترب تموز من كوكبنا من أين تأتي إليّ من جديد والكون عاصف، ماطر يستنيم على صقيع الوقت تصير حالات تزهر في قلبي براعمً من روح فكرة وجمال حرف الآن أكتب حروفي والحروف واهنة ذاوية أنا امرأة من قلب مطر مطر ، تهدأ روحي من نوات تدق زجاج نافذتي ، أزيح دمعات الملح حين يسكنني المطر أرنو إلى الظل ، أهرب من حر وشمس تتوسط سماء الكًون أعشق الظلال، أمضي إلى نسمات جبلية باردة تعيد لي أبجديتي أستعيد ذاتي من صقيع الوقت ، ألون منه حروفي، أنثرها لتحوط كوني كما قوس قزح ، ألونها من روح نوات تسكنني ولا تغادر أرهف السمع حين تدق الريح على زجاج نافذتي، أسافر وغيمات حبلى بمطر الحكايات في تموز أرحل بعيدا أرحل عن ذاتي، عن وجعي ولا أعرف أين أجدني. أستعيدني من خريف الوقت، ألملم حكايات لم تكتب بعد من أوراق خريفية تصير قلادة تسكن روايةً من ربيع وخريف وشتاء كم يحزن قلبي حين أغيب بعيدا عن حروفي في صيف يطارد أحلامي وسكينتي أنا هنا على بوابات الانتظار أرنو إلى خريف وشتاء وربيع أنا هنا لا أجدني لأن الكتابةً حياة والحياة في قلبي وروحي مطر مطر".
كائنات صيفية
وأخيرا يقول القاص سمير الفيل قائلا " الكتابة تتأثر بالفصول. وعلى غير الشائع فإن فصل الصيف بالنسبة لي هو الأكثر كتابة، والسبب بمنتهى الوضوح هو ذهابي إلى شقة لنا في مصيف رأس البر. تخرج الأسرة للسباحة في البحر صباحا، أو للتنزه على النيل مساء، وأبقى بمفردي في الشقة لأكتب. هكذا أنجزت مجموعاتي القصصية الثلاثة الأخيرة " شمال.. يمين" ، " صندل أحمر"، و "جبل النرجس". وفيما يبدو فإن الصيف باتساع مساحة نهاره يمنح الناس فرصة للسهر، أما أنا فأحمل حقيبتي وفيها مسودات قصص الجديدة، أجلس قرب البحر لأستنشق اليود، ولأحنو على شخصياتي المسكينة، وحين يتطاير الورق أجري للملمته قبل أن يصيبه البلل!؟