القاهرة 14 اغسطس 2018 الساعة 11:30 ص
قصة : فؤاد حجازى
تتلفت بحثاً عن بقعة ظل، وتدفع نقالة معدنية لها أربع عجلات صغيرة، محاذراً الاصطدام بنقالات أخرى .
وترقب مطلع العربات، وكلما وقفت عربة إسعاف اقتربت منها. وحين ينزلون المريض، تبتعد في أسف، وقد تجاهلك السائق .
فور خروجك من مستشفى الطوارئ الجامعى، دلوك على عربة إسعاف تابعة لها. اتجهت إلى سائقها فاعتذر. إنه حقاً يتبع المستشفى، لكنه ينقل إليها مصابى الحوادث فقط. حاولت إغراءه بالمال فتمسك بمقولته. اتصلت بمرفق الإسعاف، فأعلموك أنهم لا ينقلون من المستشفى ولكن ينقلون إليها. عرضت مضاعفة الـ خمسين جنيهاً أجرهم، فلم يصغوا إليك .
النقالات الخارجة من باب المستشفى تزداد.. والشمس تزحف وتقترب من جدارها. ومحال أن يقبل سائق تاكسى نقلها. وحتى لو وافق، فكيف وجذعها متصلب، وعاجزة عن النهوض. نظرت إلى وجهها، راعك سكونه. اتصلت بالإسعاف ثانية لعل وعسى. أخبرك أحدهم أنه لحظك ستصل عربة بمريض عندك، وتستطيع العودة معه، وأخفيت أنك لا تريد العودة إلى بيتك بالقرب منهم، ولكنك تريد الذهاب إلى مستشفى الحميات .
دب الأمل في نفسك، وقد بدأت الشمس تشوى ذراعيك. تحرك النقالة لتبعد وجهها عن الشمس. ونظرت في حنق إلى الحارس الربعة، أمام بوابة خشبية في طوله، يمتد سور بحذائها إلى الجدار فلجت ألواحه الخشبية، صانعاً فناءً خلفه، يمنع أية نقالة تخرج من باب المستشفى أن تظل فيه، حيث بها نغمشة ظليلة. وزاد حنقك وأنت تراه ينهر أهل المرضى ليسرعوا في عبور بوابته إلى الخارج. واتهمته بالغباء المطلق، ولم تنس حماقته معك مرتين .
دخلت المستشفى حوالى العاشرة صباحاً، وفور عبورك الباب وجدت نفسك في صالة كبيرة، وغاغة شتتت تركيزك، تصطدم النقالات ببعضها بعضاً، وأنت لا تعرف أين تولى وجهك .
دلك أحدهم على طبيبة الاستقبال في فتحة إلى يمينك. انتظرت حتى فرغت من نقالات أخرى، وسألتك عن حالتها. أخبرتها أنك عثرت عليها مبكراً ملقاة أمام حجرة النوم. تحرك أطرافها ولا تستطيع تحريك جذعها. حاولت حثها على القيام فقالت أنها مستريحة هكذا. تشدها من ذراعيها، وتشجعها على النهوض، فاحتجت وهى تقول عن نومتها هكذا: عادى .
وجهتك الطبيبة إلى طبيب آخر لمتابعة حالتها في صالة صغيرة في جوار فتحتها تقود إلى صالة أخرى موازية للصالة التى أنت فيها، وفي الجوانب أبواب حجرات. وبعد قليل تفصد منك العرق، فتلفت حولك ونظرت أعلاك. لا منافذ للتهوية، أو تكييف . والجو مشحون بالقلق والضجر اللذين ينسابان من الوجوه .
وفي مقدمة الصالة الصغيرة مكتب جلست إليه ممرضة وفي جوارها دولاب قصير من صاج رصاصى، وجاءك صوت الطبيبة مشفوعاً بابتسامة أنها ستأتى بعد قليل لتركيب قسطرة للبول. وانهمكت في نقالة أخرى، وأغلب الظن لم تسمعك تعلن أنها لا تعانى من التبول. ضحكت الممرضة وهى تتمتم .. وكيف ستذهب إلى الحمام . وبعدها ضحكت من جهالتك التى لم تدركها في حينها .
وسألك الطبيب المتابع عن حالتها ، فأعدت القصة ، وبادرك :
- معك ترمومتر .. ؟!
وتلقائياً رددت :
- معى بامية وملوخية .
- اشترِ واحداً بعشرة جنيهات .
ووصف لك موقع صيدلية في الشارع .
وحين عدت رفض الحارس إدخالك فهم لا يسمحون إلا بمرافقين فقط . حاولت إفهامه أنك أحدهما دون فائدة . واضطررت لإزاحة ذراعه وركل بوابته .
طلبت منك الممرضة وضع الترمومتر تحت إبط زوجتك، حتى يحضر الطبيب الذى يفحص مرضى آخرين .
فعلت، وناولته للممرضة . ابتسمت قائلة :
- الصبر
عاودت وضعه حتى جاء الطبيب .
- الحرارة مرتفعة .
- كم .. ؟
- 41 .
أصابك الفزع. فنصف درجة زائدة، عندما تصاب بالإنفلونزا تجعلك تهلوس، فما بالك بأكثر من ثلاث درجات .
- هات ثلجاً .
سهمت غير فاهم .
- يوجد محل عصير قصب وسط الشارع .
وعند عودتك منعك الحارس من الدخول .
- يا بنى آدم إنسانة تموت .
وأزحته من طريقك غاضباً .
وقالت الممرضة :
- كسر الثلج وضعه تحت إبطيها وفي مزنقى فخذيها .
هل كان عليك أن تستعير القائم الحديدى المدبب الطرف من العصارة. انتشلتك من حيرتك زجاجة محلول صوديوم فارغة، كانوا قد علقوها في ذراعها لتخفيض الحرارة وشبكوا أخرى .
كسرت بها الثلج، لكن كيف تضعه للمريضة .. ؟!
أسعفتك رؤية قفازات مطاطية على مكتب الممرضة. أخذت بعضها وحشوتها بالثلج، ودسستها للمريضة والماء يقطر منها .
جاءت طبيبة خمسينية وسألتك عنها فأعدت القصة. مررت عجلة صغيرة بين قائمين حديدين رفيعين، أسفل قدميها وقالت للمتابع :
- أعصابها سليمة .
وحررت استمارة لعمل أشعة. وأشارت إلى حجرة في آخر الصالة إلى اليسار. دفعت النقالة محاولاً تفادى نقالات أخرى رائحة وغادية. عليها نساء ورجال في ثياب رثة، وفلاحون وعجزة لا تكاد تسترهم ملابس، وقد غزرت لحاهم، بعضها أسود، وأخرى يتخلل سوادها رماد وبياض .
سلمت الاستمارة ونفحت الممرضة عشرة جنيهات، وحمدت الله أن معك عشرات فكة. وبعد عودتك إلى المتابع جاء اختصاصى في المخ وأسمعته القصة، وحرر ورقة لعمل أشعة وكذا الباطنى الذى حرر فضلاً عن عمل أشعة للبطن، إجراء تحاليل متنوعة للدم. وسألت اختصاصى المخ بعد أن طالع صور الأشعة فطمأنك أنها سليمة. اقتربت من وجهها، الذى بدأ يخلو من التعبير، وحاولت رفع روحها المعنوية .
- مواطنة صالحة .. ؟!
ابتسمت في وهن وتعلقت عيناها بك .
سألتك يوماً السؤال الأزلى: ماذا نأكل اليوم .. ؟ قلت : ما رأيك في البامية لم نأكلها من زمن .
ردت أنها تعبانة. خلاص.. شوية كشرى والسلام. ويبدو أنها خافت من "قمصتك" .
فقالت : حاضر : سأعملها اليوم. فعاجلتها بالقول أن تقميع البامية قد يستهلك ولا داعى لتقمص دور المواطن الصالح لترضيك. ومن يومها، كلما كلفتها بعمل، سألتها : ستعملينه بمزاجك ولا مواطن صالح .. وتنساب ضحكاتكما .
اقترب موعد آذان العصر، وأنت في انتظار الفرج. سألت الممرضة فأفهمتك أن اختصاصى الباطنة هو الذى سيقرر. وحثتك جارة لحقت بكما أن تذهب لاستدعائه، كما يفعل بعضهم، وسوف تجده في إحدى الحجرات، أو فى جانب من إحدى الصالتين. نظرت هنا وهناك.. ورجعت خائب المسعى، وجلست على حافة النقالة، ولم يلبث أن حضر .
سألك وأعدت القصة. تفحص صور الأشعة، وقرأ نتائج التحاليل . حك بأصابعه مقدمة صدرها، وسألك عن اسمها .
- بدرية علام .
- حاجّة بدرية.. أين تسكنين ..؟
- شارع الشيخة عائشة .
نظر نحوك، فهززت رأسك بالإيجاب .
- عندنا مشكل ..
طب قلبك ..
- الحرارة لا تنخفض، ولا نعرف السبب . سأحولها إلى مستشفى الحميات، وهناك سيقومون بأبحاثهم ويقررون العلاج .
وأعطاك صور الأشعة ونتائج التحاليل .
وعربات الإسعاف تتوالى، صاعدة هابطة، رأيت ذراعها الذى وضعوا في أحد عروقه المحلول يرتعش، منبئاً عن ازدياد الحرارة. شدت الجارة طرف ملاءة السرير التى وضُعت تحتها في البيت، حتى يُمكن حملها إلى النقالة. وطوقت ذراعها. هل تشد طرفها الثانى وتُكلفتها لعلها تعرق، فتنخفض الحرارة، كما تفعل أنت عند الإصابة بالإنفلوانزا.. في الداخل حاولوا التخفيض بالتبريد فأية الطريقتين أجدى لحالتها .. ؟!
وفيما بعد لمت نفسك كثيراً، لربكتك مع أنك مجرب لواحدة، والهواء الذى رجوت أن يفيد، شارد من شمس سليطة النيران، فكيف سيخفض حرارتها. وحتى عندما شد النيل القريب حيله متكاتفاً مع أشجار شاطئيه، ولطف الهواء، رأفة بالإنسان والحيوان، كنت ما زلت حائراً، هل تحبك الملاءة حول جسدها.. أم تتركها يلفحها الهواء، وسقطت في بئر من الزلال، لا تستطيع التشبت بشيء .
والجارة تشد الملاءة، تعرى جانب من فخذها لعدم ثبات أنبوب القسطرة المطاطى، بين طيات جلبابها، فدارته بسرعة، وإذا بمن ينادى : الأستاذ ثروت زكى. وعاونكما السائق في حملها إلى نقالة الإسعاف. انكشف جزء من فخذها ثانية، فتبلدت وأنت تمسك بكيس البول الذى قارب الامتلاء. وعلق السائق: طبق وأفرغه فيه. التقت عيناك بعينى الجارة، مهوناً الأمر أنهم في الحميات سيفعلون .
صعدت إلى جوار السائق، ولازمتها الجارة في الخلف. ولم تكد العربة تتحرك، حتى سمعتما نقراً خلفكما. قالت الجارة :
- لا تريد الذهاب إلى الحميات .. !
نظر إليك السائق مستطلعاً ..
الحميات ذات سمعة سيئة، وأحياناً يتعللون بنقص الأجهزة، ويحولون المرضى إلى المستشفى الدولى. وهذا لا يضمن شيئاً، فكثير منهم يذهب إلى العالم الآخر من هناك.
وإذا ذهبت إلى الحميات، كم من الوقت ستستغرق أبحاثهم .. ؟ وهل سيتركونها في الاستقبال حتى يتفرغ طبيب لها ..؟ وإذا ذهبت بها غصباً عنها، قد لا يتقبل جسدها العلاج .
ولسوف تلوم نفسك كلما تذكرت مطاوعتك لها، وأنت الذى كثيراً ما سخرت من تصرفاتها .
قررت فجأة أن التليفزيون طراز قديم لا يلتقط الفضائيات، ولم تنتظر حتى تدبر ثمن الجديد، واشترته من مصروف البيت. اتهمتها – كعادتك – أن مخها حجرى، فردت أن الله سينصفها، وذكرتك بيوم انقطع فيه الماء، وفشل سكان العمارة وأنت على رأسهم، يا من عملت مهندساً للتنظيم في الحى، في إعادته، وأبلغت الطوارئ، فأعطوها رقم المهندسة المسئولة. وجرهما الحديث إلى حاضر يا أمى، واطلبينى عند أى طارئ، وسمعتها بدرية توبخ العمال الذين ادعوا – عندما حضروا- أنه ما دام المياه تصل إلى أسفل العمارة، فليسوا مسئولين عن صعودها للأدوار العليا ، حتى بالمواتير. وزاد الضغط، ووصل الماء، فقالت مغيظة: الله دائماً يرضينى، فاندفعت : أصل ربنا لا شغل له إلا مرضاة حضرتكم. أرينى كيف سنأكل في باقى أيام الشهر ونحن في أوله. وإذا بمكالمة من ابنكما عماد من أمريكا، يملى عليها رقم حوالة أرسلها. هللت وصفقت: ألم أقل لك .. ربنا دائماً يرضينى. وكثيراً ما دخلت الشقة مزهوة.. فقد أوقفها شخص في الطريق، وذكرها أنه تلميذها وهو الآن ضابط شرطة وتحت أمرها في أية خدمة.., وآخر يعمل طبيباً... و... حتى تسكتها بإشارة من يدك مشفوعة بشبعنا من هذه القصص. حثك السائق بنظراته لتسفر عن وجهتك. ولما وجدك صامتاً قال :
- كان بإمكانهم تحويلك للمستشفى الجامعى خلف الطوارئ، وبه كل التخصصات .
وتمتمت في نفسك ، بدلاً من زحلقتى بعيداً، ووضعى في موقف محير : قلت :
- مستشفى البنان .
وفي الطريق، راودتك فكرة العودة إلى البيت، واستدعاء اختصاصى حميات، فإذا قرر ذهابها إلى مستشفى الحميات يكون بمعرفته وتحت إشرافه .
وكيف ستصعد بها على النقالة إلى الدور السابع .. ؟!
جاءت عربة الإسعاف، ومثلها لا تقف أمام العمارة كل يوم. ورجوت السائق أن يصعد معك .
وجاء عمال من محال قريبة للمعاونة. وكنت من التعب تتخبط بمقدمة النقالة في جوانب السلم، وخاصة بعد كل بسطة. ولم يوارب باب، ولم يشرئب عنق، وهم الذين يتنابذون بالألقاب، ويزعقون، إذا انتثر شيء من كيس قمامة أمام باب شقة، أو نقط غسيل على آخر .
وبينما العربة تغادر، انشق الشارع عن جارة في عمارة في الجوار التقتها يوماً في دورة لترقى المعلمين.
وبعد أن هدأ الوجيب تحججت إحداهن أنها لم تكن في شقتها ساعتها. ظل فمك مغلقاً، فأنت تعرف نفاقها، وكثيراً ما نهيت بدرية عن صداقتها، لكن مخها الحجرى لا يستجيب .
في اليوم التالى سمحوا لك بدخول غرفة العناية، فوجدتها مفتوحة الأبواب. وقفت أمام سريرها، تتلفت حولك. طبيب مشغول مع مريض على سرير مجاور عارٍ تماماً. نزلت إلى الاستقبال وسألتهم إذا كان لديهم عربة إسعاف لنقلها، فهزوا رءوسهم نفياً. عدت ثانية، وبتلقائية حملتها إلى نقالة بمساعدة امرأة تقوم بأعمال النظافة، بعد أن ركنت مقشتها جانباً. بدت منتفحة كزكيبة معبأة، وقد برزت نتوءات لها في أكثر من موضع، وعيناها جاحظتان كعينى ضفدعة. تطلعت إليك. خلتها ستقول شيئاً، لكنها لم تفعل. منحتها عشرة جنيهات وأنت لا تدرى علام .
سألت الطبيب، الذى لاح لك شاباً صغيراً، تشككت في خبرته :
- متى حدثت الوفاة .. ؟
¬- في الثامنة صباحاً .
أثارت الإجابة حفيظتك. لماذا لم يتصلوا بك، وقد جاوزت الساعة الحادية عشرة، وعندهم بيان كامل عنك منذ أحضرتها في المساء .
وماذا لو تأخرت، مطمئناً أنها في العناية المركزة .. ؟
لكنك لم تتفوه بشيء ، ووقفت ساهماً أمام النقالة عند باب المصعد .
في حيرتك، انبثق من الردهة رجل ثلاثينى. عيناه سوداوان لامعتان، وكأنه ينظر من ثقبين في عمقهما، و قال أنه يعرف رجلاً عنده عربة إسعاف، مرخصة لنقل الموتى، وسألك بصوت كالفحيح: هل يتصل به. وافقت ومنحته عشرين جنيهاً إكراميةً. وسرعان ما جاء الرجل وطلب مئة وخمسين جنيهاً فوافقت.
نزلت إلى الدور الأرضى. كان الإداريون يشربون القهوة، وأحدهم يعاتب فراشاً، لأن قهوته دون وش.
سألت عن تقرير الوفاة، فأشاروا إلى محاسب أمامه كمبيوتر .
وظننت أن لك باقياً، فقد دفعت في المساء ألفين وخمسمائة جنيه، كانت في جيبك، على أن تكملهم خمسة آلاف في اليوم التالى، حسبما طلبوا كدفعة أولى، فإذا بالمحاسب يحرر قسيمة بستة آلاف وثلاثمائة وخمسين جنيهاً. كتمت غيظك. لو امتنعت عن الدفع سيتصلون بالشرطة، وستدفع مرغماً، وليس عندك وقت للعطلة.
فتح المحاسب باباً لحجرة خلفه بها مستخدمون، فرشوا فرخاً من جريدة، وعليه أرغفة بالفول والطعمية، وفي جوارها أكواب شاى. حرر أحدهم القسيمة، بعد أن تأكد تليفونياً من المحاسب أنك سددت المبلغ. أخذتها وعدت للمحاسب فأعطاك تقرير الوفاة .
أسرعت إلى المسجاة على النقالة أمام باب المصعد، وانحنيت وقبلتها دون أن تكشف وجهها، ربما لخشية ترسبت في اللاوعى، من صورة قد تطغى على صورها وهى حية في مخيلتك. كانت باردة كالثلج. فهل ذهبت بعد أن غادرت في منتصف الليل ووضعوها في ثلاجة. أم أن توقف أجهزة الجسم والحجرة المكيفة فعلا ذلك. وهل كذب عليك الطبيب الذى اقترح عليك الانصراف، عندما استفسرته فور خروجه من الإنعاش، فقال أنهم يشتبهون في التهاب في المخ أو إلتهاب رئوى، وأنها ستمكث في العناية عدة أيام. منحك قوله "عدة أيام" بعض الأمل وأنها ستقاوم. وحذرت نفسك ألا تبالغ في التفاؤل، مستنداً إلى ما يقال في أوربا وأمريكا أن جسم المرأة قوى لتحمله الحمل والولادة، وأن النساء يعمرن إلى ما فوق التسعين، وأنت ترى كثيرات من زوجات أصدقائك قد ذهبن دون الستين أو بعدها بقليل .
وهل خدعك طبيب الاستقبال، الذى قرر دخولها العناية المركزة فوراً، وأنت تحاول أن تسبر غور عينيه.. هل رأى أملاً .. أم أن الحالة ميئوس منها وأدخلها لغرض آخر .. ؟!
ولكنك لم تكن تستطيع أن تصرح بذلك.. وفي قادم الأيام ستبكت نفسك، التى لم تع أنها كانت فى حضرة الموت منذ عجزت بدرية عن النهوض من أمام حجرة النوم.
وبمساعدة سائق الإسعاف وضعت النقالة في مدخل العمارة. أطلت امرأة من نافذة علوية وسألت، فأجابتها أخرى في الدور الأرضى أن أبلة بدرية ماتت. جرح صوتها العالى الفضاء وضاق صدرك، ووخزك ألم ممض، وكأنها لم تمت إلا الساعة. ترك السائق رقم محموله، وقرب العصر اتصل يعرض خدمته.
وجاء من قال : البقاء لله. لم تملك نفسك، وانهالت دموعك. تبخر تعهدك لنفسك الذى حافظت عليه في المستشفى بعدم البكاء، فسوف يكون عندك الوقت الكافى لتفعل وتحزن كيفما تشاء. وعندما وقفت في مقدمة متلقى العزاء، بعد الدفن، تسربت دموعك كلما سمعت (البقاء لله) وتلجلج لسانك، فبالنسبة لك زوجتك موجودة بشكل ما، ولا تموت إلا عند نطق هاتين الكلمتين .
وأصغيت لمجاوريك من ذوى القربى، فسمعتهم يردون : عظم الله أجركم. أو : جزاك الله خيراً .
خدشك الرد، لأنه غير منسجم مع كلمتى العزاء، ورددت : شكراً .
لماذا هجر الناس : البقية في حياتك، وردها : حياتك الباقية ، متماشياً معها .
زمزم حاملو النقالة .
ووقفوا في المدخل لا يريدون الصعود، واتجهت الأنظار إليك ..
قال أحدهم:
- ستبهدل في الطلوع والنزول .
واقترح آخر أن يتم الغُسل في شقة في الدور الأول خالية، يستخدمها المالك كمخزن للمهملات.
ترددت .. وإزاء رفضهم وافقت. وأتاك أحمد العطار، وطمأنك أنه قام بما يلزم في مدفنه. زال ما في نفسك من قلق ونويت أن تطلب من عماد أن يشكره. وكان يستضيفه دوماً، لكن بدرية لم تستلطفه، يضايقها عدم خلعه حذائه المترب عند باب الشقة وتظن أنه يستفيد من ابنها الهاوى لتحضير العطور، في إعداد ما يبيعه منها في محله. وتأبى أن تعد له الشاى زاعمة أنها ليست خادمة لأحد. يا ماما أنت تجاملين ابنك. تدخل حجرة النوم وتغلق الباب.
وعندما صفصفت في شقتك وأغلقت الباب، سحبت كرسياً إلى الشرفة .
تتطلع إلى أعالى البيوت وإلى زرقة السماء، المنثور فيها مسحوق ظلمة الليل. وتسح عيناك لقول الطبيب: حدث توتر مفاجئ، ولم تستجب لأى إسعاف. ماذا يعنى بالتوتر .. ؟!. ويتداعى جسدك المسترخى، تكاد تتزحلق عن كرسيك. فكيف تصلب عودك، ولم تتناول شيئاً سوى أكواب من الشاى مشفوعة بلقيمات. وكانت لو عافت نفسك الطعام لعلة أو اعتلال مزاج، لا تتركك، وحتى وهى مريضة أو تعبانة، قبل أن تتناول شيئاً .
وكانت في مرضها، كثيراً ما تسألك الذهاب إلى السوق .
يخيب رجاؤها، وقد توسطت الشمس السماء، وهى التى تذهب من النجمة، وتأخذ وش القفص من خضر أو فاكهة، وتتفاخر أن الباعة يرجونها استفتاحهم، فوجهها السمح سيجعل يومهم ندياً، ثم تتصعب بشفتيها وتسخر: الحاجة في السوق تقول يا نينى..حتى يأتى الخائب ثروت يشترينى.
وحز في نفسك ألا تخرج من شقتها معززة مكرمة. هل خشيت دهس الشقة من قبل النسوة اللائى قمن بالواجب لوجه الله وبعد عدة أيام أرسلن في طلب مئتى جنيه لأهل الله. وكيف كان سيتم الغُسل.. فوق كنبة أو سرير. هل سيرفعون المراتب أو الشلت.. وهل سيراق الماء الدافئ على الأرض المفروشة بالسجاجيد، قبل إعدادها وتعطيرها. لا شك أن النسوة يعرفن كيف يفعلن.. ولمت نفسك لتواطئها مع المزمزمين.. ولكن كيف كنت ستجبرهم على الصعود وأنت لم تكح معهم .
ترى .. ماذا قال الناس عن هذا التصرف .. ؟!
لا .. كان لابد أن تنزل من شقتها محفوظة المقام .
ذات يوم أخرجت بدرية كيس لحم من الثلاجة. رجوتها أن ترحمك منه. حقاً لونه وردى يشرح القلب، مقطع في حلقات كأنها من عمود التربيانكو ، لذيذ الطعم، لكن عند مضغها، فليجرك الله. وقد نبتت بين أليافها شعيرات دقيقة، تشبه شعيرات تقصفت من أستك عريض في لباس قديم. وتستجيب بصعوبة للشوكة والسكين. ترفع رأسك عن طبقك وتقول : اسم الله على مقامك ..
هل هذا لحم حمير. تقمع ضحكة وترد : اشتر أنت. آه تمسكك من يدك التى توجعك . فهى قد جربت أكثر من جزار، وأنت لا تعرف طريقاً إليهم.
ولا بد أن عماد صحا مبكراً، في مدينته في شمال وسط أمريكا، ليلحق بالجنازة بعد صلاة العصر .
وكلف أحمد بتصويرها بالمحمول ونقلها، وهو معه على الخط .
وسلط صديقه الكاميرا على وجهك، وقد اغرورقت عيناك. اقتربت من المدفن، تخنقك العبرات، ورجل داخل المقبرة يتلقفها من آخر خارجها . بينما وقف من يلقنها ردها على الملاكين حين يسألانها عن هويتها ودينها .
أهى حقاً التى يدخلونها.. ؟!.. وسيغلقون عليها فتحة مستديرة بدت معتمة، وها هو شاب قد أعد دائرة من الأسمنت والرمل وصب عليهما الماء، وبإحدى يديه قطعة من الطوب الأحمر، وفي الأخرى مسطرين .
انسابت دموعك وشهقت. تقنع نفسك أنها ليست هى .. ولكنها أمامك يحملونها ويوسدونها.
لا.. هى غادرت .. كيف وقد احتضنت جسدها منذ قليل .. ؟!
تغزر دموعك.. لا تريد التسليم أنها لم تعد هى ويمور داخلك بالغضب، وقد طغى عليك إحساس أنها اختطفت منك.
وفي طريق العودة همس في أذنك شقيقها: لماذا عند غريب، معى مفتاح مدفن الخال، فطلبت منه أن يسأل أحمد عن التكلفة، وقد ظننت أنه سيترفع، لكن خاب ظنك وطلب ثلاثمائة جنيه.
وعزم عليك صديق بسيجارة محشوة بالبانجو، ليخفف عنك. لم تجد في نفسك رغبة، وعجبت فيما بعد.. لعزوفك نهائياً.. وتمنيت لو كانت عائشة لتفرحها، وهى التى كثيراً ما ألحت لتقلع عن ذلك. وفى السهرة عاتبك زوج الجارة التى رافقتها في المستشفى لأنك لم تطلب المفتاح وكان جاهزاً في جيبه.
واتصل ابنك يعرض مساهمته في مصاريف السهرة والجنازة .
- لم تمت .. ذهبت في مشوار وراجعة .
وسمعته يتمتم: لا حول ولا قوة إلا بالله، وكادت يدك تعصاك وتغلق الخط. ولو انقطع فمن سيصالحكما .. ؟! حاولت تنعيم الشروخ في صوتك وقلت :
- أنا هكذا مستريح نفسياً.
والمال يتسرب من يدك بعد السهرة للخيمي ألف جنيه لأن عامله رص عدة صفوف من الكراسى في جوار الحيطان، ودارى الخرب منها بقطع من قماش السرادقات المزخرف بألوان مختلفة، قبل صلاة المغرب، وجمعها بعد ساعة من صلاة العشاء وللمقرئ مئتى جنيه لصاحب آلة زلزلة الصوت مئتى جنيه، عزاك صديق أن التأمينات والنقابة سيعوضان.
ذهبت إلى النقابة بشهادة الوفاة التى أخذتها من مكتب الصحة، وناولت القائم بالعمل بطاقة صرف المعاش، فخرمها فى مكنة صغيرة، ليتعذر استخدامها في مكنة الصرف الآلى. وطلب شهادة وفاة مكتوبة على الكمبيوتر من السجل المدنى، وأن يرفق بها شهادة إدارية موقع عليها من موظفين لم ترهما في حياتك، يقران أنك من قام بالصرف على الجنازة، وكذا يقران على ظهور صور بطاقتى الرقم القومى لك ولها وبطاقتها النقابية أنها صحيحة. وبعد أن تنصرف ستقرأ الإقرار الذى أعطاه لك، ليوقعه اثنان من الشهود من أعضاء النقابة، أن النقابة قامت بصرف مصاريف الجنازة، وملحق بالإقرار إيصال باستلامك لشيك رقم... بالقيمة لتجهيز المرحومة، ومذيل بنموذج لشاهدين على استلامك للشيك، ولتوقيع أمين الصندوق، واعتماد رئيس اللجنة النقابية، وتمزق هذه الأوراق، وكذا بطاقة عضويتها، وتلقى بالمزق أرضاً، وتدق عليه بعصبية بكعب أحد قدميك .
وفي التأمينات سيطلبون شهادة إدارية أنك لم تتزوج بعد وفاتها لأنهم سيصرفون لك معاشها الذى سيكش أكثر من ربعه، وسترد: وهل لحقت ..؟!. ولما كان الجو حاراً، والهواء قد حبسه شيطان، قمت بتشغيل المروحة، فأبت أن تدور. بحثت عن تليفون الكهربائى في مسقط وملقط دون جدوى. ودق جرس الباب . سألك الطارق :
- شقة الحاجة أم عماد، التى توفيت منذ يومين .
هززت رأسك بالإيجاب، وقد فشلت في التعرف عليه من سحنته النحاسية وعروقة البارزة على رقبة مشرئبة .
قال :
- هذه جمعة مباركة لتلاوة القرآن على روحها .
أوسعت له، وأشرت إلى حجرة الجلوس. لم أطراف جلبابه وهو يجلس، وقطب أسارير وجهه وبسطها، وتلى آيات تنذر المخطئين بالعذاب والسعير. قررت إعطاءه خمسة جنيهات، وتمنيت أن يتلو دون هذا التقطيب والبسط، وأن يخفف من علو صوته المتحشرج كتروس آلة تدور في عكس اتجاهها. لكنه أرحم من فقي السهرة، الذى بالغ في تحريك قسمات وجهه، وبين كل وصلة وأخرى يعلن عن اسمه وعنوانه، حتى أنك أطللت من حزنك وتساءلت..هل جاء للتلاوة أم ليعلن عن نفسه، في مكبر صوت أخبل يتردد رجع صداه كالهزيم.
وزال انقباضك وهو يدلف إلى آيات تبشر بجنة بها نخيل وأعناب. وعندما قام لقمت قعر يده عشرة جنيهات، فانسلت عيناه إليها، قبل أن يولى مغادراً.
ولم تكد تغلق الباب، حتى سمعت خرفشة عليه، ففتحت .
طفلة الجارة فوق شقتك، متسمرة وأمها خجلى، تحاول شدها. دخلت ومددت يدك فى حقيبة زوجتك للتسوق، وأطبقت على بعض الطوفى والبمبونى. فردت راحتك أمام الطفلة.
تلاقت نظراتكما دون أن ترمش أو تستجيب ليد أمها. بعد لأى .. أخذت ما في يدك، واستدارت صاعدة ببطء .
عدت ثانية إلى الحقيبة، فقد لمست يدك مفكرتها. تصفحتها، فإذا بها تحوى أرقام المحمول للكهربائي والسباك ومصلحي التليفزيون والبوتاجاز والثلاجة، ومشحم الغسالة، وأرقام خدمات عطل التليفونات وانقطاع الماء والكهرباء .
وضعتها في طبق خوصى، عليه التليفون الأرضي .
وجاء الكهربائي، وكسلت أن تصنع شاياً، أو تحتفى به بتقديم فاكهة أو حلوى، كما كانت تفعل، ودارت المروحة.. وضايقك عدم سؤاله عنها.. وترددت فى إخباره .. لكن عند انصرافه انفلت لسانك. قال :
- كانت سيدة كريمة .. رحمها الله .
دمعت عيناك .. كيف سلم بموتها بهذه السهولة .. ؟ .. ومسحت عينيك بظهر يدك ..
وماذا تريده أن يفعل .. ؟!
تجلس في الشرفة، وبصرك معلق في سماء أكسبها الليل عمقاً .. ويومض من بعيد سنا النجوم، وقد تحرر من ربقة الزمن .