القاهرة 07 اغسطس 2018 الساعة 10:01 ص
فردوس عبد الرحمن
كيف نتحدث عما نعرفه، ونشعر أن ما نراه حقيقيًا، وكيف نحاكم ضمائرنا أو الضمائر الأخرى، إذا كان ما بداخل الهوة السحيقة للنفس، هو ما لم نره ولم نعرفه أبدًا.
إننا وحيدون إلى حد أكبر مما ينبغي، لأن الكلمات لا تؤنسنا ولا الأفكار تسلينا.
أنت وحيد حتى مع ذاتك، غائص في ظلماتها التي لم تخبرك أبدًا بالحقيقة، حتى من أسميتها روحك سابقًا لم تكن روحك، بل كانت نظامًا ميتًا من التعاليم والتصورات، بينما الروح الحية، الروح الفاعلة، شيء آخر تمامًا.
علينا إذن الحديث مع أرواحنا ككيان بعيد جدًا ومجهول.
كيف يصل الإنسان بعقله المتورم هذا، إلى تلك الجملة المدهشة: "لا أعرف"؛ لأن غير المرئي وغير القابل للتفسير هو الوحيد الذي يعمل بداخلنا.
الإجابات هراء، إنها الماء الميت في صحارى النفس، بينما هناك ظلمة مربكة، تدفعك بقوى مجهولة، كي تؤمن بفكرة ما أو تدعي حقيقة ما أو تحب شخصًا ما، لعلها الكراهية هي ما يدفعك إلى ذلك وليس الحب. من أين تعرف قل لي؟
إن الوعي الأعلى لن يوصلك إلا إلى ركامات من العتمة، فوقوفك على سفح جبل لتدرك كم هو مظلم وقاس وعنيد، ثم صعودك عليه بجهد قد تضيع معه حياتك، كي تمسك بالنار السماوية، سوف يجعلك تدرك أن العتمة أكبر من الضوء، حين تحترق روحك هناك وتتحول إلى رماد مضاف إلى عتمتك السابقة.
الظلمة أشد جاذبية من النور، حتى أنك لتسقط فيها، بنفس البساطة والعبثية التي جُلِبت معها إلى الحياة.
كم أنت مغرور وبليد إلى أن تعرف ذلك.
أنت تريد أن تتحول إلى كبير بإمساكك بتلك الأسرار التي هي ليست في مقدورك أبدًا، لكنك لا تدري، أن هذا الكبر وتلك الضخامة، ما هما إلا تورم يعيق حركتك ويعميك عن رؤية تفاصيلك اليومية التي هي جذر السر.
نحن لا نستطيع التمييز، فالعظيم والبطل والكبير ينتظر من الاعتراف والتبجيل ما يوقد به روحه، أما العادي فيمضي في طريقه دون أن يأبه لأحد، ليس لديه ذلك الانتظار الطفولي ليؤكد على أحقيته في الوجود.
ربما كان الكبير صغيرًا والبطل تابعًا، بينما العادي الذي لم يلهث وراء الأسرار، واحتفظ بسره الأعظم داخل كينونته، دون أن يحدق فيه، هو من عاش كبيرًا، ومضى بهدوء، منصتًا إلى روحه التي قالت له الكثير من الخفايا، ولم يشعر بالحاجة إلى إفشائها.
أعتقد أنه مازال هناك مشوار طويل ورحلة شاقة، كي يصل العظيم إلى العادي، الابن الضال إلى عشيرته، وأن ترجع الأنا الكبيرة إلى بيتها الصغير.
نحن نعيش بما لا نعرفه، وما لا نعرفه هو ما يسيرنا على هذه الأرض، ولو عرفناه لتوقفت المسيرة إلى الأبد، فالحيوانات أقدم عمر منا بملايين السنين، والنباتات أسبق بملايين أخرى. فسِرْ بما لا تعرف، لأن المعرفة تقتص أوصالك وتقربك من الفناء، سوف تفقدك القوة الدافعة للعيش لأننا لسنا سوى (سر) فلماذا تريد أن تعرفه فتقطع حياتك؟
الفضول هاوية. انظر أسطورتك القديمة، حين بدأ الوعي يبزغ ويحولك إلى مخلوق فضولي، فتنبهت إلى عريك، وشعرت بالفضيحة، هكذا هي الأسرار حين تنكشف، تتحول أنت إلى فضيحة، فتنعزل بدونيتك ويضيع منك حق الخلود.
نحن نعيش بجوار حياتنا وليس فيها، إن عرفنا أكثر، تلك المعرفة التي هي بحد ذاتها حجر كريم مزيف.
نريد أن نعرف لماذا نحب ولماذا نكره، والزمن يسير بقدميه الكبيرتين ليدهس قلوبنا جميعًا دون أن يأبه لحب أو كراهية.
لأن داخلك الأعمق والأشد ظلمة، لا يحوي حبًا أو كراهية، فالعواطف هي القشرة التافهة لأرواحنا والمرشد الأعمى الذي يضللنا ويسيرنا في دروب بعيدة عن كينونتنا.
تلك المعرفة الضئيلة والهشة، تعطلنا عن امتلاك الغموض الذي هو أصل الروح والقوة الفاعلة لصيرورتنا.
حين يرحل أحد الأحبة، فيحزن القلب وتبكي العين، هل تعرف أن نفسك الحقيقية لا تأبه. إنها تُعِدُّك تافهًا، فتهرب وتتركك وحيدًا مع بؤسك. هل تعرف أن هذا البؤس وتلك المشاعر الحارقة بالفقد، ما هو إلا فجيعة الخواء، الذي يحدث دائمًا، بسبب ذلك الهروب المروع للنفس.
"آه أيها المغرور الأبله" هكذا تقول نفسك " أنت لم تعرفني حقًا، عد إلى رشدك وسوف أعود إليك، بعتمتي ويأسي وقلبي البارد" هذا هو صمت المعرفة، صمت الإجابات.
الله أيضًا يتكلم بصمت، لأن الكلمات دائمًا تقول ما لا ينبغي أن تقوله، والمقدس الوحيد في الكتب السماوية، هو ما لم يقله الله، أو قاله تحت ركام الكلمات، كي لا يسمعه أحد أو يراه أحد. الإلهي فينا غير منظور، فلماذا تريد أن تفهم، فتعيش ذاهلًا؟
كيف تجرؤ على الرغبة في الإمساك بالنجوم، أليست السماء التي فوقك، هي صورة تقريبية للموت؟ لماذا لا تعيش كمولود حديث، ذلك المولود الذي هو وحده يملك سر الحياة، كي تأتي السنوات بعد ذلك، لتخطفه منه مرة أخرى، عندما يبزغ وعيه، ويضيء الجزء السطحي من وجوده.
عش كامرأة واقعة في الهوى، ترتجف من نظرة عين، أو كرجل عجوز، يعرف من الحكمة ما يعجز عن النطق به.
كان (باتسو دويتشي) أحد أساتذة الزن العظام، يصفع السائلين على آذانهم أو يركلهم ويطرحهم أرضًا، وكان معلمون آخرون يجيبون على الأسئلة ب "مو" و(المو) هذه مجرد صوت ليس له أي معنى وكان يطلب من المتسائل أن يظل يردد تلك الإجابة ليل نهار، قبل النوم وبعده، قبل الأكل وبعده، لحظة الدخول والخروج، قائمًا وقاعدًا، مو- مو- مو حتى يصير هو (المو) نفسها، كانت هذه وسيلة لاحتلال المو، مجال الوعي، احتلالًا كاملًا، وحين تتطابق الأنا مع (المو) يكون الوعي في وضع فريد، يسميه إريك فروم (اللاشعور الشعوري) أو (الشعور اللاشعوري) وتلك هي المرحلة التي يدرك فيها الذهن المحدود، أنه موغل الجذور في اللامحدود ويظن إريك فروم أيضًا، أن هذا هو الوقت الذي تسمع فيه الروح صوت الله الحي مباشرة وباطنيًا، وقد يقول الشعب اليهودي إن موسى كان في هذه الحالة الذهنية في طور سيناء عندما سمع الله يلفظ اسمه "أنا الذي هو أنا"، "يهوه الذي هو يهوه".
لم يكن أبي يعرف (المو) هذه، لكنني كنت عندما أسأله عن شيء في طفولتي يجيبني: "عشان" وكنت أكتفي بهذه الإجابة وأسكت، لعل هذا، هو ما فجر الأسئلة الكونية الكبرى بداخلي، لذلك أكتفي الآن بالصمت كإجابة، أو تكون الظلمة الداخلية التي حدقت فيها طويلًا، هي الإجابة الوحيدة التي حصلت عليها.
أصبحت أعاف الإجابات العقلية، وتثيرني جدًا تلك الإرشادات:
ابحث عن كنزك غير الموجود
تكلم من دون استخدام لسانك
اعزف على آلتك الموسيقية التي لم تحضرها بعد
مثل هذه النصائح، تفتح في وعيي مسارات جديدة، تأخذني إلى منطقة اليقظة والتنوير كما يطلق عليها (الزن)
هذه الفكرة تتواشج بشكل كبير مع لفظة (هُوُ) التي يرددها المتصوفون في حلقات الذكر، وقد يقول قائل إن (الهُوُ) هذه هي من ضمير الغائب (هُوَ) ويقصد بها الله الحي، لكنني أقول: إن ترديدها بهذا الهوس داخل حلقات الذكر، يفرغها من معناها، وتتحول إلى محض صوت، يقوم باحتلال الوعي بشكل كامل، تتحول الأنا معه إلى (الهُوُ) نفسها، ومن ثمَّ تصل إلى حالة من الغياب والنشوة، يسميها المتصوفة (الكشف). أعتقد أن الانعتاق من المعنى بالفعل، يصل بنا إلى هذا الكشف.