القاهرة 07 اغسطس 2018 الساعة 09:53 ص
إعداد : د. أحمد فرح
جوخة الحارثي قاصة وأكاديمية من سلطنة عُمان، صدرت روايتها الثانية " سيدات القمر" عن دار الآداب، بعد ثلاثة مجاميع ورواية سبقتها عنوانها " منامات".
عملها الجديدة يثير الفضول عند من لا يعرف إلا القليل عن عُمان، حيث الرواية تحفل بما يمكن أن نسميه، فولكلورها وحكايتها ومزاج أناسها .
الحارثي ترصد حركة التمدين للسلطنة وانتقالها في سلم القيم، وإن بدا عملها شبه مكرس للنساء، غير أن مشهدها يتجاوزهن إلى علاقات التشابك بين الجنسين اجتماعياً وطبقيا .
يمكن أن نعد هذه الرواية، رواية الأصوات التي تتجاور في بعثرتها حركة الزمن، لأنها لا تخضع إلى تواتر سرد الضمائر المتعددة وفق حركة نظامية، سواء في عودة الزمن إلى الوراء أو في تقدمه إلى الأمام .
قراءة العنوان الرئيس من خلال علاقته التناصية وشعريته, إحالته أولا على مرجعيته الأسطورية التي تجعل من القمر رمزا للأنوثة، وثانيا على المتن السردي الذي يحيل عليه، ويقيم تعالقه معه على مستوى الدلالة واستراتيجية البناء، خاصة وأن بنية العنوان النحوية التي هي جملة اسمية مبدوءة باسم جمع مؤنث معرف بالإضافة إلى الاسم المضاف: القمر تظهر العلاقة بين الاسمين، كذلك يستدعي شخصية النساء بلقبها الذي يحمل معنى الرائحة الذكية وليس بأسمائها، ما يدل على القصد المضمر والمعنى الرمزي الذي تخفيه الكاتبة من خلال استخدام اللقب بدلا من الاسم .
خرجت الكاتبة على التقسيم التقليدي للرواية إلى فصول حيث لم تستخدم الترقيم أو العنونة بديلا، بل جاءت بعض الفصول في مساحة لا تتجاوز الصفحة الواحدة أو الصفحتين، مستخدمة الحوافز الديناميكية التي تجعل الرواية تنتقل من وضع إلى وضع آخر مختلف.
يتناوب كل من ضمير الغائب وشخصية عبدالله ابن التاجر سليمان على سرد وقائع وأحداث الرواية وتقديم شخصياتها، أو القيام بنقل أقوالها وأحاديثها، الأمر الذي يكشف عن محاولة الكاتبة تقديم وجهات النظر مختلفة بحيث يسهم ذلك في كسر أحادية الرؤية التي يمكن أن يقدمها الراوي الوحيد لأحداث ووقائع الرواية، التي تتوزع أحداثها بين أماكن متفرقة في عمان والقاهرة وألمانيا وكندا، وإن كان المكان العماني الريفي والمديني بتحولاته وتبدلاته التي تطرأ عليه يظل هو المهيمن على عالم الرواية، كاشفا عن علاقة التأثير المتبادلة بين تلك الشخصيات والمكان، في التحول الذي يظهر على تلك الشخصيات وواقعها وسلوكها ومفاهيمها، دون أن يغيب حضور الماضي في الحاضر بسبب تنوع تجارب الشخصيات، وتمثيلها لأنماط وعي اجتماعي وتاريخي مختلفة، تنطوي كل منها على رؤية مختلفة للعالم الذي تعيش فيه وإلى ذاتها، حيث يكتفي الراوي الشاهد بتقديم تلك الحالات وأنماط الوعي والسلوك والقيم من خلال أفعال الشخصيات وعلاقتها ببعضها البعض .
يظل السؤال الذي تطرحه ميا إحدى الشخصيات الرئيسة في رواية “سيدات القمر” للكاتبة العمانية جوخة الحارثي ( ومن يحزن لحزني أنا؟) معلقا في فضاء العالم السردي للرواية حتى خواتيمه، بوصفه السؤال الذي يختزل في دلالته مرارة الواقع الذي تعيشه تلك الشخصية، باعتبارها ذاتا أنثوية أولا، والصوت الآخر المعبر عن فجيعة المرأة ثانيا في ظل ثقافة ذكورية متوارثة .
وتدور أحداث الرواية حول ميا التي تقع في حب على بن خلف الذي شاهدته لمرة واحدة فقط، وظلت متعلقة بحبه، لكن من طرف واحد بعد أن سافر حبيبها المفترض إلى لندن للدراسة، ولأن المرأة في ذلك الوقت ليس من حقها أن تعترف أنها تحب، ناهيك عن قدرتها على الدفاع عن حبها، فقد تزوجت من أول رجل تقدم لخطبتها ويسمى عبد الله الذي رزقت منه بابنة أصرت على تسميتها لندن، الأمر الذي تصفه الكاتبة، في حديثها، بأنه "دفاعها الوحيد عن حبها لمن أحبته وذهب إلى لندن، أنها فردوسها المفقود .
وتدور أحداثها حول موضوع مسكوت عنه إلى حد كبير وهي ظاهرة العبودية والاسترقاق التي كانت سائدة في زمن الحدث الروائي، من خلال مناقشة الأحوال الاجتماعية لشخصيات مهمشة في المجتمع.
تخلو الرواية من حبكة تلم تبعثر شخصياتها وأزمنتها وتداخل أصواتها وعدد الساردين، ولكنها في المنحى العام تحاول أن تجعل لفوضى التشظي وظيفة الدمج بين خطاب المكونات الاجتماعية المتنافرة .
ما يثير الاهتمام في الرواية، غياب فكرة الصراع ببعده التصادمي، وإن بدا على نحو ما، في منطويات الشخصيات التي تكابد كي تحتل موقعا في الحياة, كما تبدو بدرجة أخرى معنية برصد عملية التحديث، حيث تتساكن أو تتفاعل القيم قديمها وجديدها في فضاء متداخل.
من خلال تطور وظائف السلالة العائلية التي تتابعها الرواية، يمكن ملاحظة ديناميكية التحول، فالسلالة العائلية مرصد الزمن الحامل ترسيمات المراحل وعلاماتها ورمزية حضورها .
شيخ العشيرة والتاجر، قطبا السيادة في هذا المكان الروائي، ولا نجد كبير فرق بين ملامح الاثنين، سواء في طريقة العيش، أم في الحيازة الاقتصادية، بما فيها حيازة العبيد والإماء. وتبقى للشخصية النسائية موقع اعتباري في الرواية، فنحن أمام سيدات يسردن أنفسهن دون أن يحظى هذا السرد بعنصر المفارقة أو الانعطافة الحادة. وسنرى أن الفضول المتولد عن مفهوم السر المجتمعي، الذي يشكل قطب الإثارة عادة، يغيب عن الرواية، على عكس الكثير من الروايات الخليجية، والروايات التي تكتبها النساء عموما, فالحكايات تخلو من مكابدات الجسد، أو فكرة اضطهاد المرأة، على نحو واضح، بل يصبح الحب الرومانسي موضع الاهتمام، لأن التعويض عن فداحة الحب في المجتمعات المغلقة، يجري عبر دمجه في اللحظة الاجتماعية المتحركة، أو اعتباره هاجسا رومانسيا يخطر في بال كل الشباب, في حين يشكل خطاب الجنس، معادلا لفكرة المنع أو الحجب في روايات خليجية كثيرة، وخاصة الرواية السعودية .
"ميا"، وهي الشخصية الأولى التي تقدمها الرواية، فتاة تقع في حب رجل من أول نظرة، بعد أن تلتقيه في مكان عام، ولا تتمنى سوى أن تراه فقط من بعيد, لكن أمنيتها تذهب أدراج الرياح، بعد أن تعلن لها أمها خبر خطبتها من ابن التاجر، أو المهاجر، كما يرد في الرواية، فلا يبقى من تلك الذكرى بعد أن تتزوج، سوى اسم مولودتها الجديدة التي تطلق عليها اسماً غريباً " لندن" لأن الفتى الذي أعجبت به قبل زواجها، كان قد ذهب إلى لندن .
زوجها خطبها لأنه وقع في حبها من أول نظرة، وبقيت حياتها معه عبارة عن سرد لفولكلور العائلة وعادتها، فهذه المراة في ملمحها الروائي، ليست على علاقة وثيقة بالحياة بعد أن استسلمت لأقدارها بدت لها الحياة منشطرة شطرين كالليل والنهار : "ما نعيشه وما يعيش داخلنا" . وهكذا نتعرف على شخصيات أخرى تشكل محاور متكافئة في مصائرها، فأختها خولة ترفض الزواج لأنها تنتظر ابن عمها الفاشل في دراسته بكندا، ويقف أبوها الشيخ مع رغبتها، ولكن الحبيب المنتظر كان قد ارتبط بكندية، تتركه في النهاية ليستسلم لحياته الزوجية, عندها تشعر بفقدان الرغبة في متابعة دورها السابق، فتطلب منه الطلاق, خولة تبدو على صلة بمطالب الحياة الحديثة، فهي تقف بين جيلين من النساء شبه المتعلمات، والدارسات في جامعات حديثة. ستكون الانتقالة الواضحة في فكرة اكتمال شخصية المرأة الحديثة، عند الجيل الجديد التي تمثله ابنة ميا "لندن" التي تقع بحب زميلها في الجامعة، وهو من عائلة خدمت عائلتهم, يوافق أبوها على خطبتها، رغم الفوارق الطبقية، ولكنها تكتشف خيانات الحبيب وتمرسه في بيع الكلام لكل النساء، فتتركه متفرغة إلى نجاحاتها في العمل كطبيبة، رغم إدراكها صعوبة وضعها العاطفي.
حركة الحياة تبدو هادئة في الرواية، حتى ولو شعر بعض أناسها بالضرر، وسنجد ذاكرة القمع تستوطن البطل الرجل قبل المرأة, فالراوي الأول عبد الله، زوج ميا، التاجر الذي يسافر ويتصل بالعالم الخارجي، يفتتح بصوته وهو في الطائرة، مدخل الرواية ويختمها أيضا، حيث تراوده أطياف الاضطهادات التي مر بها، كما تراوده لحظات حبه لميا وأفكاره عن ابنته ومستقبلها. والد عبدالله سامه العذاب في الطفولة والصبا، سواء بتعريض جسده إلى العنف، أو بتجويعه رغم الثراء الذي يتمتع به، وأمه ماتت مسمومة على يد عمته القاسية، فلم يعرف الرعاية والحنان سوى في حضن مربيته العبدة محظية الأب. ولكن تلك القسوة لم تمنعه من أن يكون متسامحاً وطيباً مع زوجته وابنته.
على هامش تلك الشخصيات نكتشف بعض الحكايات عن وريث المشيخة الذي لم يهادن الإنجليز، فاضطر الرحيل وعائلته إلى مصر والمكوث في القاهرة زمنا طويلا، ثم العودة إلى الديار، واستئناف حياته الهادئة. مجتمع العبيد والإماء، يحظى أيضا باهتمام الرواية، وما بين مرحلة العبودية والتحرر منها، تتبدل الشخصيات، وتصبح العودة إلى الماضي من بين استرجاعات الذاكرة البعيدة لأبطاله : معاناتهم في السفن التي حشروا فيها بعد أن سرقوهم من أفريقيا، وباعوهم إلى الشيوخ والتجار في الخليج، ثم صدور قانون تحريرهم، وهروب بعضهم إلى أماكن أخرى وبقاء الجيل القديم أسرى العبودية كقدر, وسنجد على هامش تلك الأحداث علاقة بين والد ميا وبدوية متحررة من فكرة الزواج، حيث يلتقي في الصحراء تلك البدوية الجميلة والشغوفة بحريتها واستقلايتها، ليلقي عليها أشعار قيس بن الملوح والمتنبي .
وتلعب لغة السرد دورا هاما من خلال ما تتميز به من شعرية مكثفة وموحية، وجمل قصيرة ساهمت في منح السرد رشاقته، حيث ساهم استخدام الرواية لتقنية تيار الوعي أو التداعي الحر في العمل على كسر وحدة الزمان والمكان في الرواية، وسمح بحرية الانتقال بين الوقائع والأزمنة والأماكن المختلفة.
يتميز السرد الروائي إلى جانب لغته التي تميزت بشاعريتها الكبيرة وبإيقاعها السريع الذي شكل عنصرا مهيمنا في الرواية، ساهم في تنامي حركة السرد من خلال استخدام الجمل القصيرة المكثفة، إلى جانب تعدد لغاته التي تتمثل في استخدام المفردات المحلية، التي تحيل على البيئة الاجتماعية للرواية، بالإضافة إلى الشعر التقليدي الذي قيل في العشق، وتوظيف الوثيقة بصورة مكثفة جعلتها لا تشكل عبئا على السرد وحركته، بل ساهمت في الإضاءة على مرجعية القول أو الحدث .
تحاول الرواية أن تقول الكثير عن تحولات الواقع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وصراعاته السياسية، وعلاقة المرأة بالمرأة، والمرأة بالرجل، والمرأة بذاتها مع التحولات التي يشهدها جسدها في مرحلة البلوغ، وكذلك علاقة الآباء بالأبناء، وحكايات العشق المتحقق أو الموئود، وعلاقة الجميع بما يطرأ على الواقع من تغيرات وتبدلات، حيث تتداخل حالات الخيبة والشوق والشعور بالغربة والتشبث بالأحلام أو خسارتها، وتناسخ الأدوار التي يقوم بها الآباء مع الأبناء مع تبدل المواقع والشخصيات في هذا العالم الروائي الذي تعمق تحولاته من المنحى الدرامي للوقائع والأحداث في واقع يحتشد بالمفارقات التي تمثلها حيوات شخصياته المتباينة من حيث شرطها الاجتماعي ودرجة وعيها وأنماط سلوكها وردود أفعالها على الواقع، ورؤيتها التي تقدمها إلى ذاتها وإلى العالم المحيط بها، حيث استطاعت الكاتبة أن تقدم عالما سرديا حافلا بحيوات غنية ومعبرة، تقوم بنيته على الاتصال والانفصال في آن معا، وإن ظل السرد والوصف هما العنصرين المهيمنين مقابل محدودية استخدام الحوار.
لقد سمح تحطيم وحدة الرواية زمانيا ومكانيا، والاستفادة من شعرية اللغة واقتصادها في منح السرد رشاقته وكثافته، والقدرة على الحركة في أمكنة وأزمنة مختلفة تلتقي فيها وتتقاطع وجوه كثيرة ومصائر متقاربة استطاعت الكاتبة أن تستجلي أبعادها ودلالاتها، وانعكاسها بصورة درامية على مرآة تلك الشخصيات ووعيها لذاتها وللواقع ولعلاقتها بالآخر.