القاهرة 31 يوليو 2018 الساعة 11:37 ص
أجرى الحوار: صلاح صيام
النحت المصرى اعتمد على الكمال وليس الجمال
"عبد الناصر" استدعانى للاستماع إلى شكواى وأزال أسبابها
الانفتاح الساداتى حول المثقفين إلى "بهلوانات"
شهدت فترة فاروق حسنى انفراط العقد الثقافى
زوسر مرزوق، المثال المصري الوحيد المسجل اسمه بـ "موسوعة الفن العالمي"، بعد فوز مشروعه على مشاريع فناني دول العالم جميعًا الذين تقدموا لتنفيذ منحوتة حجرية تعبر عن تضامن الشعوب وانضوائها تحت مظلة الأمم المتحدة، واستضافته من هيئة الأمم المتحدة لينفذ لها تمثالها الرمزي بمدخل حديقتها الشهيرة "تمثال الأمومة" الذي عكف على تنفيذه هناك لمدة ستة أشهر كاملة.
نال عدة جوائز، منها: وسام الجمهورية من الطبقة الأولى عام 1988، جائزة بينالى الإسكندرية عام 1974، جائزة بينالى فينسيا عام 1978، والعديد من جوائز الإبداع المحلية.
صاحب التمثال العملاق "نسر الصحراء" بمدخل قوات الأمن المركزى على الطريق الصحراوى مصر - إسكندرية، وصاحب تمثال "دنشواى" بمحافظة المنوفية، وتمثالي نجيب محفوظ وثروت أباظة بمقر اتحاد كتاب مصر.
صمم أول موسوعة أزياء "الشخصية المصرية" منذ عهد الفراعنة حتى ثورة يوليو ذات الستة أجزاء والثلاثة آلاف صورة ملونة مرسومة بخط اليد، وهو أول مصري يُسند إليه تصميم وتنفيذ ديكور "أوبرا عايدة" للمخرج العالمى البولندى كوزمان بوبووف عام 1991.
الفنان العالمي زوسر مرزوق صاحب 35 معرضًا تشكيليًا للنحت في مصر، و6 معارض عالمية في أوروبا وأمريكا، وصمم ونفذ ديكور ما يقرب من 300 مسرحية لمسرح الدولة، والقطاع الخاص، وأخرج 18 عرضًا مسرحيًا لمسرح الدولة، وصمم قاعة "الغد" للعروض التجريبية التي ستشهد تكريمه في 14 ديسمبر المقبل.
سألناه عن الثقافة وأحوالها, والمثقفين بعد ثورتين, ونصيب ميادين مصر من التماثيل فكان هذا الحوار:
لماذا يتهم المثقفون دائما بأنهم وراء تدهور أحوال الثقافة؟
المثقفون نوعان, الأول يعكف على تكثيف ثقافته, ودعم وعيه بكل الأساليب الكلاسيكية والحديثة, والثانى -وهو الشائع- الذى يكتب أكثر مما يقرأ, ومن الظلم أن نصفه بالمثقف, لأنه ينضم لمن وصفهم طه حسين بأشباه المثقفين, وهذه صفة امتدت على أغلب فئات المجتمع, فعندما سافر "الصنايعية" إلى دول الخليج بحثا عن أموال أكثر وتركوا "الصبيان" الذين تحولوا إلى "أسطوات" قبل الأوان, وقس على ذلك باقى المهن؛ فإذا طبقنا ذلك على المثقفين نجدهم بالفعل وراء تدهور أحوال ثقافتنا.
ما تقييمك للثقافة بعد ثورتين ؟
للأسف الثورتين أفرزتا أسوأ ما فى الشعب المصرى, وبالطبع المثقفين, لأنهما ليس لهما رأس مدبر وقائد يلتف الناس حوله, فتوهم كل واحد أنه صاحب هذا الإنجاز, وتحول الحوار بين الناس إلى صراع , وتحول الشعب المصرى إلى شعب "مودي" انفعالي, ابن اللحظة, يحكم على الأشياء بالقطعة, وليس لديه رؤية شاملة للأحداث.
فى أى العهود ازدهرت الثقافة.. وفى أيها تدهورت؟
ثروت عكاشة وزير الثقافة فى الستينيات له الفضل الأكبر فى ازدهار الثقافة حيث أنشأ نهضة شاملة تمثلت فى إقامة أكاديمية الفنون ومعهد السينما ومعهد الفنون الشعبية, كما حرص على تكريم الفنانين ووضع معايير ثابتة لتقدير المبدعين, ثم يوسف السباعى الذى اهتم بالكيف وليس بالكم لأنه فى الأصل مبدع فنان يقدر الفن, ثم عبد القادر حاتم الذى عمل عكسه.
وبدأ الانهيار مع سياسة الانفتاح, وظهرت طبقة طفيلية وصولية عشوائية تمكنت من مقادير البلد فى جميع المجالات, فرضت قوانينها وثقافتها وصبغت المجتمع بصبغتها وخلقت فئة من المثقفين مسطحى الموهبة, غير أنهم يملكون قدرة هائلة على تمجيد الإنجازات الوهمية لهذة الطبقة العجيبة, فكثرت المحسوبية والكلمات الهابطة والأعمال المباشرة السطحية, وأصبح الفن وسيلة للشهرة وليس غاية فى حد ذاته, وظهر الانتماء للأشخاص واختفى الانتماء الوطنى؛ بمعنى فقدنا الأغانى الوطنية مثل "دع سمائى فسمائى محرقة" و "وطنى الأكبر" وغيرها, ليحل مكانها "العنب العنب" و"بحبك يا حمار" التى تخاطب الغرائز وتدغدغ الأحاسيس وتقضى على الأحلام القومية.
وفى مجال المسرح ظهر المسرح السياحى للوافدين العرب مواكبا لما يحدث فى الحوامدية من بيع وشراء للبنات القصر, وطغت النواحي المادية على النواحى الفنية, وأصبح نجاح العمل الفنى يقاس بإيراده وليس بمردوده الفنى, ومن ثم فقدت مسارح الدولة هويتها وحاول القائمون عليها محاكاة مسرح القطاع الخاص؛ فاستعانوا بنجومه على أمل جذب جمهور هذا النجم, ولكن لم يستطع النجم أن يقدم على مسرح الدولة ما يقدمه على مسرح القطاع الخاص, فصدم جمهور مسرح الدولة فانصرف عنه, ثم حاول المسؤلون ثانية فأمسكوا العصا من المنتصف فقدموا أعمالا لا هى قطاع عام ولا خاص, والمثال الصارخ على هذا مسرحية " الست هدى" لأمير الشعراء أحمد شوقى التى حولوا أشعارها إلى العامية, ولم يحترموا لغة "شوقى", ففقدت المسرحية جلال لغة "شوقى" ولم تكتسب بساطة الشعر العامى.
أما فى الفن التشكيلى فشهدت فترة فاروق حسنى – رغم نشاطه البارز- انفراط العقد الثقافى لأسباب شخصية بحتة, لأن كبار الفنانين لم يقبلوه وزيرا, فبدأت عملية "تصفية الحسابات" وضرب كبار الفنانين تحت شعار زائف "إعطاء الفرصة للشباب" ولم يحسن اختيار مساعدوه من الشباب الواعد لأنهم تلاميذ أوفياء لكبار الفنانين, فالتف حول الوزير الباحثون عن الشهرة, فقطعت الأشجار الوارفة التى يستظل تحتها المثقفون, وزرعت مكانها مساحات شاسعة من النجيل الذى يداس بالأقدام وليس له أية فائدة اللهم إلا طعام الخرفان, وكان من الأجدر أن يحتضن الوزير ووزارته الأجيال كافة, تزامن ذلك مع إلغاء مهرجانات المسرح المصرى, والمسرح القومى, والمسرح العربى, والمسرح التجريبى, فانقطعت الصلة بين المسرح وتراثنا, وأصبح شغل الفنانين الشاغل محاكاة الفنون الغربية دون وعي, وعشنا على الفتات المتساقط من موائد الفن الغربى , بعد أن لاكته الأفواه .
لك موقف مع الزعيم الراحل جمال عبد الناصر.. احكه لنا
بعد حصولى على بكالريوس الفنون التطبيقية عام 1964 بتقدير عام امتياز, لم يكن هناك دراسات عليا فى الكليات الفنية وكنت أريد استكمال دراستى العليا, فأرسلت خطاب إلى الرئيس جمال عبد الناصر أطالبه فيه بضرورة إنشاء قسم للدراسات العليا بالكلية, وتفضل الفنان صلاح جاهين بنشر صورة الخطاب فى جريدة الأهرام, ولم أكن أتوقع ردا, إلا أنه بعد عدة أيام فوجئت باستدعاء من رئاسة الجمهورية لمقابلة الرئيس, وعندما وصلت إلى مكتبه هدأ من روعى وقال لي: أنا لم أفهم شيئا مما كتبته, فاشرح لى ما تقصده, فشرحت له الموقف كاملا, فضحك بشدة وقال لى أعدك بعرض الموضوع على المختصين وسيكون هناك رد العام القادم, ولكن ما هذه اللغة القاسية؟ وكنت قد كتبت فى الخطاب "إذا لم تكن الكلية تستحق إنشاء قسم للدراسات العليا فلتوفر الدولة أموالها ويوفر الطلاب وقتهم", وبالفعل أنشأ القسم فى العام التالى .
باعتبارك مثّال .. ما نصيب ميادين مصر من الأعمال الفنية؟
ميادين مصر تخلو من الأعمال الفنية إذا اعتبرنا النحت من أهم الإنجازات المصرية الفنية والذى من خلاله وصلتنا الحضارة الفرعونية، ويمكن القول أن النحت المصرى أثر تأثيرا كبيرا فى التركيبة الاجتماعية للإنسان المصرى، بمعنى أن النحت المصرى اعتمد على "الكمال" وليس"الجمال"، وكان لذلك امتداده فى الأمثلة المصرية "على الأصل دور"، والجمال ليس ظاهريا بل باطنيا، ومن ثم تميز المجتمع المصرى بعلاقات اجتماعية تعتمد على الجوهر أكثر من المظهر، وظهر هذا واضحا فى أعمال محمود مختار، إذ نجد أن تأثير "رودان" كان واضحا على أعماله فى فرنسا، ولكن عندما عاد وانخرط فى ثورة 1919 وتعرف على سعد زغلول وسيد درويش تخلص من القيمة المظهرية التى تعلمها من "رودان" وعاد إلى أصوله المصرية فى الاهتمام بالكتلة وكمال التكوين، واهتم بالحركة الداخلية أكثر من الخارجية، وظهر ذلك واضحا فى تماثيل "نهضة مصر" و"شيخ البلد" وغيرها، إلا أنه منذ قدوم الخديوى إسماعيل وكان يحلم بأن تكون مصر امتدادا لفرنسا، تغير المفهوم تماما وأصبح الاهتمام بفن "عصر النهضة" الذى يعد امتدادا للعصور الإغريقية التى تعتمد فنونها على الجمال وليس الكمال، فجسدوا الآلهة بشرا فى حفلات صاخبة ولم يهتموا بالكتلة والفراغ؛.
ومن ثم انتشرت فى مصر وقتها تماثيل لزعماء ليسوا مصريين" إبراهيم باشا أبو أصبع" وغيره، و بقيام ثورة 1919 ظهرت بعض الأصوات التى تنادى "بمصرية مصر" وكان من أشد المتحمسين لهذا الاتجاه الدكتور لويس عوض؛ فظهرت تماثيل جمال عبد الناصر فى مداخل المدارس والمصانع، وتزامن ذلك مع ظهور بدر الدين أبو غازى - إبن أخت محمود مختار- فأقام له متحفا فى حديقة الحرية, واكب ذلك اهتمام "عبد الناصر" بالفن والفنانين والمثقفين عامة، وكرمهم فى أكثر من محفل، وأنشأ جائزة الدولة التشجيعية والتقديرية للفن، وكان طبيعيا أن تتجه الأنظار إلى تكريم الرموز المصرية التى كرمها "عبد الناصر" من قبل، فأقيمت تماثيل لعباس العقاد وأحمد ماهر وطلعت حرب وطه حسين وغيرهم، ولكن- تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن-، فاهتم "عبد الناصر" بالبناء المعماري للإنسان المصرى، وظهر مفهموم "أهل الثقة" و"أهل الخبرة" وكانت الغلبة لأهل الثقة فظهرت طبقة من المتسلقين عملوا على أن تكون لهم اليد العليا فالتف حولهم أنصاف المثقفين وأنصاف الفنانين أملا فى مكاسب سريعة، وسعيا وراء شهرة مسطحة، وجذبتهم الأضواء فالتف حولهم من هم أقل منهم فنيا وظهرت الدعوات المسمومة لتقليد "فن الغرب" حتى أن كليات الفنون اهتمت بدراسة تاريخ الفن الأوروبي على حساب الفن المصري، دون الاهتمام بدوافع هذه الفنون المستحدثة وعلاقاتها بمجتمعاتها الغربية، وحاول بعض الأذكياء تمصيرها تمصيرا زائفا وتحويل رموزها إلى مصريات، فعلى سبيل المثال "رواية البؤساء" لفكتورهوجو تحول فيها "القس" إلى "شيخ " لتصبح مصرية!
وماذا عن عصر السادات؟
جاء عصر أنور السادات ليكسر الحصار الحديدي الذي كان مفروضا من قبل على المجتمع المصري وارتمى فى أحضان سياسة الانفتاح العشوائية، فكثرت الاتجاهات المتناقضة، كل يسعى وراء احتلال جزء من العقل المصري والثقافة المصرية لما يخدم أغراضه وكان طبيعيا أن تظهر طبقة عشوائية تفرض ثقافتها وقوانينها وظهر سلطان رأس المال وأصبح هو صاحب اليد العليا وحتى لا يتهموا بأنهم غير مثقفين، ظهرت "الثقافة المسطحة" التى أطلق عليها "الثقافة السياحية", إرضاء لكل من يملك المال، وظهرت طبقة من الفنانين "أدعياء الفن" ذوي قدرة خارقة على "ليّ ذراع" القيم الفنية بما يخدم أغراضها فتعارضت الآراء، واختلفت الاتجاهات, وضاعت الثوابت وفقدنا بوصلة الحوار مع القضايا الوطنية، وظهر ذلك واضحا فى الأغنية المصرية وما آلت إليه إذا فقدنا الانتماء، وفى مناخ كهذا لم يعد غريبا أن نهتم بالشكليات أكثر من المضامين، وفقد الفن لغته حتى أصبح يتم تفسيره بلغات أدبية وليست فنية، وبالتالى يتم تفسير العمل الفنى بما يخدم مصالح صاحبه، فارتدى بذلك ثوبا مرقعا لا يستر عورته، وظهرت فى الميادين أعمالا ليس الهدف منها تخليد فكرة وطنية أو قيمة اجتماعية أو حتى شخصية مؤثرة فى المجتمع المصري, وإنما ظهرت أعمال تغطى سوءات مرحلة ما أو تجمل مرحلة أخرى, "كتاجر الخضار الذي لا يبيع خضارا وأنما يستتر وراء المهنة لتجارة المخدرات"، و هذه الأعمال تضر الشخصية المصرية أكثر من المخدرات لأنها تصيب الانتماء والعقل المصري وتفت فى عضد المجتمع، وعلى سبيل المثال تمثال نفرتيتي فى المنيا، وتمثال طه حسين فى مغاغة والعقاد فى أسوان.