القاهرة 24 يوليو 2018 الساعة 11:46 ص
كتب:شكير نصرالدين
عاشها ليحكيها،حياته الخاصة و حياة الآخرين من حوله، و في أفقه.لأنه جابها طولا وعرضا،وسبرها عمقا: إنها حياة/حيوات واحد من أكبر أدباء
القرن العشرين،بل و الانسانية،الذي وصلت معه الرواية إلى أعلى قممها: الكاتب الكولومبيغابرييل غارسيا ماركيز (1927 ـ 2014 ).حياة تقلَّب فيها بين الخصاصة والوفرة،و الشهرة التي طبقت الآفاق،من آراكاتاكا،إلى الإليزيه وهافانا،رفقة فرانسوا ميتران أو فيديل كاسترو،شهرة وإن كانت سببا في غير قليل من الحرج و جرَّت عليه الكثير من اللوم،تقلب بين حِرف عديدة جامعها المشترك هو الكتابة:في مجال الصحافة و السيناريو للتلفزيون و السينما،في السياسة ملتزما بقضايا الطبقات المسحوقة في أمريكا اللاتينية أو عبر العالم،مدافعا عن الشعوب المستضعفة،التي رزحت لعقود تحت جبروت الدكتاتوريات المتسلطة،المتعاقبة على الحكم في تلك الأراضي الشاسعة جنوب "العالم الجديد".
أرض الأساطير و الخرافات، أرض الأعراق و القوميات و اللغات المتعددة.تعددية داخل الوحدة،استمرارية التاريخ البعيد والقريب،منذ السكان الأصليين،الهنود،مرورا بالوافدين الجدد،من مستكشفين إيبريين،إلى المرحَّلين قسرا من أفريقيا،ضحايا تجارة العبيد البربرية.هذه المكونات:الهندي ـ الإيبيري ـ الأفريقي هي ما جعل من أمريكا اللاتينية بوتقة امتزجت فيها ثقافات عديدة،أزتيك،إنكا،مايا،كيتشه، اسبانية،برتغالية وفرنسية،لهجات كريولية؛وفنون كتابة مختلفة: مذكرات المستكشفين و الرحالة والمبشرين الأوائل،وفنون الرواية و القص كما عرفها الغرب الأوربي:أدب العادات،روايات الفروسية،واقعية بلزاك،و تيار الوعي المتصل.من رحم هذا الإرث الحضاري و اللغوي و الجمالي المتنافر،إضافة إلى الروابط التاريخية و الاجتماعية،ظهرت أسماء وازنة في مجال الرواية و القصة،من الخمسينات القرن الماضي إلى العصرالحاضر:بورخيس،كاربونتيي،كارلوس أونيتي،كارلوس فوينتس،خوليو كورثزار،فارغاس يوسا:ولغابرييل غارسيا ماركيز مكانته الرفيعة في هذا المشهد الأدبي بامتياز.
وبقدر ما كان على غارسيا ماركيز العمل ميدانيا من خلال اشتغاله الاعلامي و السياسي على النهوض ببلاده والخروج بها من حال التخلف و التبعية إلى حال الرقي و الاستقلال،اهتم شأن مجايليه بالكتابة من خارج قوانين الكتابة كما هي في غرف الغرب الأوربي المستعمِر السابق،و إن لم يتم القطع مع الواقعية كما هي معروفة عند بلزاك ومن جاء بعده،فإنه اجترح لنفسه أسلوبا يجمع بين القَدامة و الغرابة،وكان ذلك ما اصطلح عليه النقاد الغربيون بـ"الواقعية السحرية"،مع ما في هذا التوصيف من رغبة في ربط ذلك "الهامشي" بـ "المركزي الأوروبي" المتمحور على ذاته،ومع ذلك لهذا الربط مظهره الإيجابي،أي النظر إلى الآداب العالمية فيما يجمعها،داخل الحوارية الكبري،التي سوف نأتي على التفصيل فيها لاحقا.
من صلب هذا الزخم الرمزي منه والواقعي،الأسطوري و العقدي،عمد غارسيا ماركيز إلى إعادة خلق الواقع بواسطة رموز خارقة للطبيعة،وهذا الإجراء الجمالي وليد أمريكا اللاتينية التي كانت على مدى العصور بلاد الأحلام و الخوارق،والملاحم و اليوتوبيا؛مستلهما الحكايات الشفوية حمَّالة المعتقدات الشعبية الخرافية،وتحويلها إلى حكايات قصصية و روائية،مستثمرا مرئياته و مرويات الآخرين المفعمة بالخرافات الخاصة بشعوب الكرايبي ذات الأثر الأفريقي،وحكي الواقع بطريقة موغلة في التضخيم و المبالغة،وحمل الواقع إلى حدود الخيال القصوى. ناقلا قريته "أراكاتاكا" من الواقع إلى "ماكوندو" العجائبية.
تلك القرية التي عاشت "مائة عام من العزلة"،ومن هنا الرهان الذي حاول الكثيرون السير على هديه،أي الوصول إلى العالمية من المحلية.لكن الأمر ليس بهذه السهولة،فليس كل من استلهم قريته،وصل إلى أركان العالم الأربعة.فنجاح غارسيا ماركيز لا يعود إليه وحده،صحيح أنه كان بمثابة" المحكوم عليه بالكتابة،لكن الأصح أن أعماله هي ثمرات تطور للجنسالروائي منذ العصور الغابرة إلى عصره.
ونقصد بذلك،أن الكاتب،الروائي في الحالة التي تخصنا،لا يكتب من عدم،فهو جزء من تاريخ،تاريخ محلي،وآخر عالمي،من منظومات رمزية قريبة و أخرى بعيدة،لا يشك في وجودها،وبل تتسرب إلى أعماله في غفلة منه،فإن نحن نظرنا إلى أعمال ماركيز في معظمها،نجد فيها الأسطورة الهوميروسية،و قصص النشأة و التكوين،فيها يلتقي الحكي الشفهي بالتاريخي،بألف ليلة و ليلة،فيها رواية البطولة والفروسية السرفانتيسية،فيها مبالغات رابليه و سخريته،فيها يحضر الدين والميتافيزيقا،وصف شخصيات دكتاتورية،فيها كلام المنجمين و السحرة،فيها دمج لكلام العامة والآلهة،ذكريات الشخصيات الحكائية وأحلامها،كلام الأفراد و كلام الأسطورة الجماعي،وبكل هذه العناصر مجتمعة،استطاع ماركيز الوصول إلى القراء في أصقاع العالم،والحصول عن جدارة و استحقاق على جائزة نوبل للآداب العام 1982؛
في هذا السياق،إذا كانت أمريكا اللاتينية قد أنجبت بورخيس،و كورثزار،ويوسا وأوصلتهم إلى العالمية،بل والتأثير ليس فقط في آداب بلدانهم،بل في آداب باقي بلاد العالم حتى اليوم،لماذا لم يفرز الوطن العربي،كتَّابا بهذا القدر والعدد،رغم الكثير من عوامل التشابه: الفكر الأسطوري،الخرافي،الماضي الاستعماري،الدولة الوطنية،نظم الحكم الاستبدادي في الكثير من الأقطار على امتداد القرن العشرين إلى اليوم؟قد نجد شيئا من التأسي في حالة نجيب محفوظ المفردة.
وفي هذا الصدد هناك الكثير من جوانب الشبه مع ماركيز،فضلا عن التتويج العالمي،فإن الكاتب المصري استطاع،بأسلوبه مع اختلاف في السياقات،الوصول إلى العالمية من المحلية،وبدوره جعل من القاهرة و غيرها من المدن المصرية،بمثابة عوالم خيالية مصغرة،فإذا كانت للكولومبي"مائة عام من العزلة" فإن لابن أرض الكنانة "أولاد حارتنا" التي في كثير من جوانبها،تنبني على حكاية النشأة و التكوين،وترصد بطريقتها،لنوع من الشخصية المستبدة،و الدكتاتورية.
وهذا ما أومأنا إليه سابقا بالحوارية الكبرى،فالأدب الجدير بها الاسم بحق،هو الذي يُكتب في العالم بلغات مختلفة،شأن الموسيقى الأركسترالية،أدوات موسيقية متنوعة،من أشكال ومواد مختلفة،لكنها متناغمة،قد يعزفها الياباني و المصري،ويؤلفها المغربي،في مثل هذا الاختيار الجماليلا يبدو غارسيا ماركيزفي ذكرى وفاته الأولىحالة منفردةبل هو إلى جانب غونتر غراس، أو كونديرا، أو اسماعيل كداري،أو عبد الرحمن منيف،أو ادريس الشرايبي،أو غيرهم،مواطنون مبدعون في " جمهورية الآداب العالمية" وفق توصيف باسكال كازانوفا.