القاهرة 10 يوليو 2018 الساعة 12:07 م
قراءة نقدية لـ ريم أبو الفضل
"فنّ الكتابة أن تقول كثيراً في كلمات قليلة"
مقولة للأديب الروسي "تشيكوف"
مثلت القصة القصيرة جدا معالم الثقافة الأدبية الجديدة الموائمة للعصر، والتي تميل للتكثيف والاختزال، ومن ثم تضع لنفسها أسسا وقواعد خاصة، وتفرض سبيلا مختلفا لقراءتها وتحليلها وفق خصائص تحدد نظامها السردي والدلالي.
امتلك طارق جابر في مجموعته القصصية " مصاصو الدماغ" قوة الرؤية مع حالة وعي ذاتي مكنته من اقتناص اللحظة وعمق الحدث،سيطر على المجموعة الهم الذاتي والإنساني حيث تناولت أغلب القصص أوجاع القلب وفواجعه، والصراع المجتمعي والإنساني مما خلق ازدحام دلالي بين عدد الكلمات المحدود الذي حجّم القصص.
كما نكأ جروح النفس والقلب والمجتمع في مستوياتها المتعددة اجتماعيا وأخلاقيا وسياسيا
فكل قصة في المجموعة تتضمن حالة أو حدثا يُحيلنا لمشهد أدق سواء على مستوى الخاص أو العام ثم يؤدي إلى بناء صورة للواقع المتخم بالفساد.
تناولت المجموعة تيمات الفقد والتيه والخيانة والفساد والانحراف بكل أشكاله السلوكي والفكري
ففي نص "بقايا" يقول
غافلتُ صور أولادي وهربت من دار المسنين ليلًا
معطفا مهلهلا يتكئ على عصا
خلق الكاتب زحام دلالي شديد بين إيجاز أشد، فكل مفردة تكتنز بحمولة شعورية ورمزية تعبر عن الوحدة والغدر، كما تتضمن النص حدثا سرديا لحظيا في وقوعه.. طويلا في صنعه عن المسن الذي لم يتبق له إلا صور أولاده كما لم يبق له الزمن إلا بقايا جسد يذوب بداخل المعطف الذي يتكئ عليه في دلالة على حالة التتشيئ المادي والمعنوي.
إن الزمن النفسي الذي يسيطر على هذا النص وعلى غيره من النصوص مثل نصوص "ناران..النرد..حظ..خفافيش" يكسب الأجواء حالة من القلق والانتظار، كما أن الصراع الذي يدور في نص شديد التكثيف والإيجاز يحدث نوعا من التوتر واليقظة لدى المتلقى مما يعد مزية في القصة القصيرة جدا حيث عامل الجذب لتشويق القارئ.
يعتمد الكاتب على التخييل بشكل جزئي حين يكون رافضا ذهنيا ونفسيا للحدث فيعتبر الخيال لمحة تجمع الحدث، وينسج الحكاية ليصل بالمتلقي إلى النهاية الصادمة.
فيقول في نص "طاحونة"
نزع ضميره، ألقاه بين حجري الرحى، وبدأ في الصعود
وعندما وصل إلى القمة، كان ضميره قد تحول إلى طحين
تضمن النص مستويين من القراءة المستوى المباشر الذي يتضمن خبرا سرديا عن رحلة الصعود والمستوى الثاني المتمثل في مقصد النص حيث التمثيل الرمزي للضميرولحجري الرحى في نظام اجتماعي أنتج لنا النص.
تجلت المفارقة كتقنية سردية لخلق مقابلة بين متناقضات الحياة، فخلقت مقابلة قيمية بين طريق الصعود للقمة، وبين نتائج أو نهاية رحلة الصعود عكست الواقع الاجتماعي المعطوب والمقابل المادي الذي يدفعه الفرد مشكلا في نزعه لضميره
ثم ينتقد المجتمع في حدث تواصلي ساخر محمل بالألم في حيلة بنائية حيث المفارقة التي تنضح بالسخرية الموجعة.
ففي نص"مسيرة"
بعدما جبت شوارع مدينتي بحثا عن عمل
توفي حذائي بالشيخوخة
كان أكثر مما يميز المجموعة الإيجاز والتكثيف في نصوص تحتمل التأويل ولها عدة أبعاد دلالية
ففي نص "منشور"
"اخترقت ألوان الطيف قلبه، تحولت للون الأسود"
نص مكثف يجتاحه حذف فيمنح القارئ معطيات أكبر لإعادة المحذوفات وإكمال المفارقة المدهشة بين متناقضات النص الملون.
في النهاية استطاع "طارق جابر" أن يخلق من الألم شاعرية في نصوصه، ويرسم شجنا محله القلب حيث كان للقلب وجود مكثف في النصوص والطرح، وكأن الكاتب يرى أن القلب هو المستقر ومنه الانطلاق فأكثر من 90% من نصوص المجموعة مثل " نبض- فقدان قلب- قالب الخس- معادن- خرابة--قلوب ممزقة- غشاوة- هجرة قلب متمرد- نزوة) وغيرها
كان من الأحرى أن تمنح المجموعة عنوانا منتخبا ليكون أكثر تعبيرا ودلالة عن محواها الذي انطلق من قلوب الأبطال، ونفد إلى قلب القارئ.