القاهرة 10 يوليو 2018 الساعة 12:02 م
أحمد فيصل
"ذهب الليل" ليست بأغنية أطفال عادية، هي عمر عاشوه قبلنا وعشناه نحن.. لكنه على ما يبدو رفض أن يواصل الحياة معنا في عصر التشوه الذي نعيشه الآن..!
في رمضان 2017 فوجئنا بإعلان رقيق، جميل، على أنغام ذهب الليل والزيلوفون يغنيه صوت حالم لامرأة سنعرف بعد قليل أنها أم لطفلة، يستدرجك الإعلان لتكتشف في نهايته أن الطفلة -جميلة- فد احترق وجهها في محاولة الأم لإدخال السعادة على قلبها..!
لا تتخيلوا يا حضرات الأفاضل كيف كان وقع الإعلان نفسيا على الأسر والأطفال والأمهات، وعلى شخص مثلي مهموم بالتراث يتأمل كيف تم استغلال أحد مصادر البهجة القليلة في حياتنا لتحويله إلى مصدر للرعب والتعاسة كما يفعلون في أفلام الرعب الأمريكية الشهيرة باستغلال تيمات الطفولة كمصدر لإخراج الرعب من العقل الباطن للمشاهد... لكن هنا يختلف الأمر كثيرا.
ليس في إعلان تلفزيوني، و يفترض أنه يهدف لجمع التبرعات لمستشفى خيري، وليس مع تراث الطفولة الذي "بمعدل الإنتاج الفني للأطفال حاليا" هو آخذ في الانقراض والانكماش وما "يحترق أو يشوه" منه لن يمكننا تعويضه بحال.. وليس مع ذهب الليل بالذات..
كتبت هذه السطور بعد عودة جميلة المحروقة بنفس الغناء ونفس النغمات في رمضان 2018، لكن هذه المرة مع صورة تلفزيونية لها! هذه المرة أجد نفسي في حل عن وصف رد الفعل الناتج عن هذا الإعلان.
لكني بحاجة إلى أن أفهم، ما هذا التشوه النفسي الذي أصابنا؟ كيف تحولت آلام الناس إلى تجارة وشهوة للآخرين؟
كيف تحولت أعراض وسمعة وحياة الناس الخاصة ومكالماتهم الحميمة إلى وجبة يومية يستمرؤها أغلب متابعي التوك شو في مصر؟ بل أكثر من ذلك، كيف صارت دماء الأعداء تبهجنا ومآسيهم تمتعنا وفينا نبي مقام لجنازة أحد من ينتمون لأعدائه؟
ما السبب في هذا الكانيبالزم، هذا التوحش البدائي لأكل لحم البشر؟ كيف ملك علينا حياتنا وتغلغل في كل أشكالها حتى صرنا نرعب الناس من المرض الذي يسببه الطعام الفاسد - كما يقنعهم إعلان آخر- ليشتروا ثلاجة جديدة، ومن الحروق والتشوه الأبدي ليتبرعوا لمستشفى!!
كيف أتى هذا الليل ومتى يذهب؟
وأين الفجر في وطن صار يأكل عصافيره..!؟
لا أجد خروجا آمنا من تيه الرعب هذا إلا ب"إدارة الخوف" أو الخوف العاقل، أو - بعبارة أوضح- الخوف الإنساني، أن نتعلم كيف نبقي على إنسانيتنا عندما نخاف.
صحيح أن الإنسانية لا تُعلَّم، لا يمكن أن يتعلم الإنسان كيف يصبح إنسانا، لكن عليه أن يتعلم على الأقل كيف يتمسك بإنسانيته وقت خوفه، حتى لا يصبح خوفه سلعة وتجارة ومتعة وثقوبا أبدية تضرب في جذور إنسانيته يستغلها الهاجع والناجع والكانيبال والتاجر والمستغل لترويض ذلك الكائن الخائف، "الذي كان إنسانا" ليستمتع بفضائحهم ويشتري سلعهم ويتبرع لمستشفياتهم، دافنا في أثناء ذلك كل معالم تراثه وحضارته وتعاطفه وقتما كان إنسانا..