القاهرة 10 يوليو 2018 الساعة 11:46 ص
فتحى بن معمر
على شفى شهوة عارمة، يركب صهوة عربة مترو يُطرق رأسه أزيزها، لا يعرف على وجه التحديد لمَ تذكر مترو الأنفاق بباريس، ذاك الذى لم يره عيانا، ولم يركبه واقعا ولكنه عرف حق المعرفة، معرفة دقيقة مفصلة من خلال ما سمعه من حديث والده فى خيلاء الرواة المتحدثين عن شيء موهوم لا يعرفه السامعون ولم يسبق لهم أن رأوه أو تخيلوه، هصرة جسم غليظ إلى السارية الحديدية الصلبة فتأوه وهو يحاول العبور، مالت العربة فمال ذات
اليمين وذات الشمال فارتكس مرفقه على نهض غض عفوا فعنوة بين المرة الأولى والثانية.
نزل كالمخبول من تلك العربيه التى ظل أزيزها يطارده حتى نهاية الزقاق الضيق الصادى، الممعن فى تعذيب ساكنيه ومرتاديه وعابريه بروائح تحملهم إلى أزمنة خالها ولت منذ الصبا، حيث كان أهل قريته يلقون بكل الفضلات فى مكان يطلقون عليه بلغتهم الأمازيغية "الخمرات" تلك التى تصدر عنها روائح لا يحتملها الا المرغمون، روائح الزقاق تعيد إلى ذاكرته، إلى أنفه رائحة مقرفة، أصابته بدوار ذات ليلة، وهو يعود من عرس مترنح الرأس ذات فجر ندى رائحة قيل له ساعتها: إنها رائحة صادرة عن مصب الفضلات المرسكل" الهضبة السحرية بين"قلالة" و" أورسغن" .
ينتابه القرف كلما توغل فى هذا الزقاق، يحث الخطى ليصل إلى مكتبه الفسيح الوضيع حيث ينتظره عمل جبار ينتظره ماراثون من الأعمال والأشغال والمهام، تنتظره مكالمات طويلة متشنجة وخصومات لن تنتهى وصياح وغضب وشد أعصاب. إنه يقترب بين الخطوة والأخرى إلى هذا الجحيم المنتظر، إلى يوم قاس لن تأتى نهايته قبل أن تأكل من الأعصاب والأحبال الصوتية. إنه المشرف الأول لقاعة العمليات لمنظمته التى تراقب سير العملية الانتخابية فى هذه الانتخابات البلدية ليوم الثلاثاء السادس من أى سنة ثمان عشرة وألفين. يقبل على هذا الجحيم وقد تلبست به شهوه عارمة فى أن يرى مدينته وحيه وقريته القابعة هناك فى ركن ما من ذكريات الطفولة الماردة تشرق نظافة وتبرق ألقا.
أمام المبنى الفخم يعترضه عمر الحارس، يحييه فى ابتسامة خبيثة تقول فى صمت حراس العمارات" أعرف كل شيء، وأسجل كل شيء، لا تخفى عنى خافية"، يكاد يجيبه:" لن تسمعها منى، هلك عنى سلطانى لن أهلك لن أجعلك تظفر بفرصة للشماتة وقد أمسكت على ذلة ولو كانت مجرد ذلة لسان " يحييه باحترام كبير يسأله عن الأولاد ويمضى .
فى البهو المفضى إلى المدارج الواقعة يمين المصعد الذى لا يفضل استعماله وهو الخمسينى الحريص على نحافته، زكمته رائحة عطر أنثوى أخاذ، ما كاد يصعد درجة أو اثنين حتى وصلت أنات مكتومة لجسدين يحترقان فى جنات الخلد وفردوس القبلات، لم يمعن النظر إليهما احتراما للبشرة المرمرية لفتاة فى العشرينات، لكنه سألهما فى خبث مبتسما "هل صوتما" لم يسمع إجابة لكنه شعر به يسحبها نحوه أكثر وأدرك دون عناء أنهما يدخلان غيبوبة تغنيهما عن الاهتمام بالانتخابات والأحياء والأموات.
لا يعرف لماذا تذكر بدقة على وجه التحديد وهو يهم بفتح باب المكتب الكعبين العاليين مغروسين فى البلور الأمامى لسيارة فى ليلة رذاذ خفيف وهو يعود من سهرة ليست أقل حميمية من الأجواء فى السيارة، تذكر وجه فتاة وهى تنظر إليه يعبر دون اكتراث ولا تدقيق يمين السيارة، وهى تعرفه حق المعرفة، تذكر كيف جاءته تلك التلميذة إلى المتجر بعد يومين ترجوه ألا يخبر والدها، وأن يبقى ما رأى سرا فى غنج يوحى باستعداداها لدفع الثمن فى سيارة أو فى الغرفة الخلفية للمتجر إن لزم الأمر، كما لا يدرك لم تذكر على وجه التحديد ما لا يريد أن يرويه لكم من المغامرات التى عاشها .
أدار المفتاح ولج المكتب، لم يكن به غيره، رفيقة فى المهمة فضل أن يأخذ معه الفتاتين المتطوعتين إلى محل الغلال الذى يملكه ليجعله غرفة عمليات لتسير عملية المراقبة والملاحظة متزودا بثلاثة هواتف وحاسوبين وطابعة وكثير من الصبر وبرود الدم، خطة العمل واضحة المراقبون ينتشرون فى أكثر من خمسة عشر ولاية وهم مكلفون تطوعا بزيارة المكاتب ومراقبة سير العملية الانتخابية فى أكثر ما يمكن من مكاتب الاقتراع وتقديم الملاحظات إلى غرفة العمليات بمحل البقالة، حيث تقوم الفتاتان بإشراف رفيقة بتصنيف المعطيات وإرسالها إليه لصياغة التقارير الأولية أو القيام بإعلام الجهات المعنية إذا كانت الخروقات خطيرة.
فتح الحاسوب وجد كما هائلا من الإرساليات والمعلومات والخروقات عاد إلى الجداول التى كان قد أعدها وبدأ يحبر بالأزرار دون كلل, بعد حوالى ساعة نهشه الصمت المطبق " تفكر فى مهجته فأقامه الفكر بين العجز والتعب" سأل نفسه آلاف المرات "لماذا كل هذا العشق لك" أغلق السؤال وعلقه دون إجابة، وعاد إلى ما كان فيه من عمل، أنهى ما تراكم قبل حضوره من معطيات فانتابه القلق والمعطيات بات تصله منجمه على فترات زمنية طويلة نسبيا أصابه الإحباط، لماذا تسير الأمور بهذه البرودة؟ حملة انتخابية باهتته، وأجواء معتمة بالية كعرس أرغم فيه العريس على الزواج بفتاه افتض بكارتها، لكأنما نتائج الاقتراع معلومة محسومة متفق عليها، فى إطار لعبة شطرنج حقيقية كبرى.
وضع هاتفه بيده، خرج يبحث عن مقهى
فى هذا الأحد الباهت الصفيق سار فى نهجين مختلفين فى المكان متشابهين فى المنظر وانتشار الأوساخ والروائح العطنة فى يوم الاقتراع للانتخابات البلدية، سأل نفسه وهو يركل علبة ورق مقوى: " ترانا نظفر بشوارع نظيفة وعربة مترو دون أزيز وحدائق مزهرة يمارس فيها العشاق عشقهم فى عش للحياة".
عاد إلى المكتب تكور أمام الحاسوب يسجل من حين إلى آخر ما يصله من معطيات ثم يتراجع إلى الخلف كمن ينتظر مكالمة أو إرسالية، مع منتصف النهار حبر التقرير الأولى الأول وختمه بإمضائه، إمضاء الرئيس، ثم أرسله إلى قاعة العمليات لتنشره وتعممه على وسائل الإعلام، ثم خرج يبحث عن شيء يأكله فى هذا الأحد الصلف الصفيق، عاد يحمل الخبز والجبن، جلس إلى مكتبه شاكس بعض الأصدقاء فى قاعات عمليات أسرية ، لكن الهاتف الأخرس لا يرن، حاول النوم ثم عاد ليحاور بعض الأصدقاء حول مجريات الأمور وأصابته معظم الإجابات بالإحباط أنهى عمله وحرر التقرير الأول الأخير الذى ورد فيه بعض الديباجة" الإقبال على مكاتب الاقتراع ضعيف" صفق الباب وهو يعلن "هذا الشعب لا يريد التغير" نزل الدرجات مسرعا كمن يهرب وقد تذكر الشابى وهو يصدح " أيها الشعب ليتنى كنت حطابا فأهوى على العروق بفأسى" كان الممر مظلما وقد غابت منه رائحة العطر الأنثوى والأنات والأنفاس الحرى.
خرج ألفى الحارس الأمين ينظر إليه بعينين ذئبويتين ويسأله أما زلت هنا؟ ولسان حاله يقول " كيف لم أتفطن لوجودك" صافحه مودعا ثم دخل الزقاق ذات الزقاق الصادى العفن، وعلى مسافة غير بعيدة بدأت تصله حشرجة العربيات وأزيز الحديد بصطك بالحديد سد أذنيه لم تبقى له يد ليسد أنفه، توقف قليلا نظر إلى هاتفه، دسه فى جيب السترة متأففا لم تتصل، لم تكلف نفسها عناء إرسال كلمة جر رجليه المتعبتين، استحضر طيفها وغازلها لكنها فى غفلة سألته" تراها البلاد كيف تكون بعد الانتخابات؟ أذعره السؤال لم يجب لكنه فكر بكل حزم أن يلتجئ إلى الحمار الوطنى عله يظفر بالإجابة.