القاهرة 29 يونيو 2018 الساعة 08:52 ص
موسم صيد اليمام
سمير الفيل
قبلة على الجبين ، ربما تكون آخر ما فكرت فيه ، وهي تودعه حيث محطة القطار ، يطل من النافذة ، ويلوح لها .
قالت لها السجانة : أنت الوحيدة بالعنبر ، التي ترسم يمامات على الحائط ، غيرك يقطع الوقت في الدندنة ، والغناء ، وتدخين السجائر ، ثم أنك وديعة ، لا تدخلين أي شجار .
كانت تعرف أن تهمتها تجعلها في مرتبة أعلى من زميلاتها لكنها لم تستغل ذلك، وقررت أن تعيش صامتة ، فلا ترد على أي سؤال ، ولا تقبل زيارة قريب أو صديق .
إنها تشعر أن عقابها يكمن في عزلتها، وهي فتاة السينما التي لعبت أدوار الخير دائما ، فتطابق الأصل مع الصورة .
حين طعنته بمدية في قلبه كانت كي تبعده عن غريمتها ، لكن النصل المسنون استقر في حنايا الصدر ، تسلل بين الخلايا ، فقطع الأورطي.
قبلتها وهي تودعه كانت ، وهي شاردة. ترى كيف تعيش تلك الأشهر بدونه ؟ رأته يخرج رأسه ويضحك فيما هي تمسح بأطراف أناملها دموعها المدرارة.
لم تكن تجيد العزف على البيانو لكنها تستمتع بالصوت الرنان ، وهي تنقل يديها فوق الأصابع البيضاء والسوداء. فكأنها تقفز برشاقة بين النقيضين .
كانت مغرمة به ، أوهمها أن الدنيا من غيرها لا معنى لها ، وفي غمامة الليل رأته يحتضن (س) ويعتصر خصرها رغم نحوله.
كانت تعرف انه يبكي عندما تغيب عنه ، وفي لحظة الانكشاف المروع وجدت قلبه يتقافز بين ضلوعه والأخرى تعتصر شفتيه ، وهو مستسلم لها تماما .
اللون الأبيض والشرود الذي سكن العينين ، وهي تجلس بمفردها عند حافة سريرها ، تستعد لنوبة التفتيش.
قال لها مأمور السجن ، وهو يتفقد العنبر بكل دقة : آخر ما كنت أتوقعه أن تكوني هنا.
قلبت عباراته في ذهنها ، شعرت بالضياع وهو يتأملها مثل فأر وقع في مصيدة ، وهو يقضي الوقت في نخسها بعصا رفيعة ، تنتظر أعواما من العزلة.
فتح البوابة الحديدية ، جاء بها إلى مكتبه ، أخرج المسدس من جرابه ، وضعه على مكتبه ، سألها أن تحكي الحكاية من أولها. أعطته ظهرها محتجة ، وأمعنت في الصمت.
نظر إلى جمالها الآسر ، وهو يكاد يضيع بعد أسابيع السجن الأولى ، أرسل الصول كي يحضرها ، فكررت الامتناع ، وحين مد يده كي يلمس صدرها ، عوت كذئبة جريحة ، لاحظ أن دموعها كانت متحجرة في المآقي.
كشافات الأضواء الملونة كانت ترهق عينيها ، والروائح الباريسية الثمينة تكاد تكتم أنفاسها .
بعد كل مشهد كانت تخرج من" البلاتوه " لتلتقط أنفاسها الهاربة ، والأثواب الحريرية التي ترتديها تشعرها أكثر بالعبودية ، لذا حين تنتهي تسرع كي ترتدي الثوب القطني الرقيق بلونه الفستقي الرائق.
حين كان يستعد للذهاب إلى الجبهة في قطار السويس تعلقت بعنقه ، أفلتته بصعوبة ، وكانت النجوم الثلاثة منسوجة من التيل الزيتي ، وليس من النحاس الأصفر.
ـ هل يوجد بالسويس سيارة تأخذني إلى جبل عتاقة؟
ـ اركبي وضعي حقيبتك حول عنقك.
ـ لماذا، والدار أمان؟
ـ في أي لحظة يمكن أن نتعرض لغارة معادية.
ـ لا تخف. لن تجدني منزعجة.
ـ أنت وكيفك.
السيارة تسير ومحركها يزمجر، وغراب المياه حوله عساكر بفانلات حمالة يملؤون الجراكن البلاستيك. عساكر خلعوا البيادات ، وبدوا بأرجل حافية .
لم تتمكن من مقابلته ، فقد منعتها سرايا الشرطة العسكرية ؛ لحرج الموقف ، وقد عادت في عربة جيب لقائد كتيبة كان ينزل إجازته الميدانية فأوصلها إلى حي المعادي.
خرج بعد انتهاء الحرب ، وفي قلبه ورع ، وتقوى لم تكن تتخيلها ، زهد النساء والشاي والمقهى.
عاش في البلكونة يتأمل السحب التي تمر فوق رأسه قادمة من أقصى الشمال .
لا تعرف كيف تمكنت ( س ) من الإيقاع به في شباكها. لم تكن جميلة بأي حال. لعلها كانت الممرضة المخلصة التي تقدم له الدواء في موعده. وقد خرج بعاهة ، ولم يكن قد بتر قدمه اليمنى بعد.
ربما اتكأ عليها ، وبتوالي الاقتراب الحثيث منها تعوّد سخونة جسدها فاستسلم للغواية : لم يعترف لي بذلك لكنني فهمته .
وقد فتكت به في اللحظة التي تصور فيها أنها قد ابتعدت عنه ، وبحثت عن خلاصها.
ـ دعني أقص عليك حكاية؟
ـ لا حاجة لحديث يحمل حكمة ما.
ـ ربما تندم لو لم تسمعني؟
ـ انتهى كل شيء.
كانت الحافة المسنونة داخل حقيبتها ، وخطاباته ملفوفة في شريط من الستان الأزرق . قال لها بعينيه : لم أعد لك.
هكذا انحنت مرة واحدة ، مدت يدها بالمدية ،دستها في المكان الذي تعرف ان به القلب. في يسار كل جسد يقبع القلب بغرفه الأربعة.
ـ آه.
حين انبثق الدم كانت حربها قد انتهت. جرت( س ) نحوها ، اشتبكت معها بعنف ، أسقطتها أرضا ، هجمت عليها مثل اللبؤة ومزقت شعرها.
قال لها المحقق وهو ينظر في عينيها بحدة : لماذا فعلت ذلك؟
ـ خانني.
ما مفهوم الخيانة ، وهي التي خانها حدسها فتسربت الأيام من بين أصابعها والرجل يعرج ، وقدمه تلامس أرضا كان يتحرك فيها بحرية قبل إصابته.
أرادت ( س ) أن تدس لها السم في الطعام فتنبه الحراس . وضعوا الطعام لكلب العيادة فأكله ، ونبح نباحا مخيفا قبل أن يسكن جسده.
ـ مات مسموما.
السحب الرمادية تبصرها خلال فترت الفسحة ، وهي ساعة واحدة في اليوم . تشبك أحلامها بكابوس يزورها كل ليلة حيث قنابل الألف رطل تدك حيها ، فيسقط عشرات القتلى فيما يتكدس الجرحى في العنابر .
تهب من نومها صارخة ، تسمع صوتا مبحوحا : تم الحكم عليك بالمؤبد.
ـ لكنه آثم .
ـ ما أنقذك أنك استعنت بمحام شاطر.
ـ حكم الإعدام يناسبني أكثر.
ـ لديك فرصة للاستئناف والنقض.
ـ أشياء لا تهمني.
ـ فكري بهدوء.
عندما وقفت على رصيف طفولتها رأت نفسها تغني بصوت مرح وبريء :" يمامة بيضا.. ومنين أجيبها.. طارت يا نينة.. عند صاحبها".
ياه. موسم صيد اليمام قد بدأ منذ وقت مبكر، واليمام لا يكف عن الطيران ، ولا الدوران ، والفخاخ في الأركان الأربعة.
قالت ( س ) وهي تتشفى فيها بجلستها الخليعة في مكتب المأمور: كنت أريد أن أراك قاتلة.
لماذا كانت تشعر شعورا متزايدا أن القبلة على الجبين كانت فاترة ، وبلا أي معنى ولا حرارة؟
ـ يطير اليمام بلا أفق. وتسقط قطرة دم من الجناحين المفرودين في السماء المبرقشة بالغيوم .