القاهرة 26 يونيو 2018 الساعة 09:50 ص
كتب: أحمد مصطفى الغـر
"تاكسي الناس الغلابة" من الهند وصولاً إلى مصر
عبارات التوك توك تعبر عن المجهول والحسد، الفضائل، والسينما والتلفزيون
البشر فلاسفة، خاصة وأن الفلسفة وليدة الدهشة والتجربة, كما قال الفيلسوف العظيم أرسطو، وفى مصر تتعدد وسائل المواصلات وتتنوع، ومعها نبعت ظاهرة الكتابة على وسائل المواصلات باختلاف أنواعها، وخاصة "التوك توك"، وعندما تتحد فلسفة المصريين مع هذا النمط الكتابي، تخرج أكثر العبارات سخرية وطرافة إلى الوجود، هذه العبارات اعتبرها البعض امتداداً لعادة المصري القديم فى تسجيل فلسفته فى الحياة على جدران المعابد وصفحات البردى، وبالتالي فالأمر ما هو إلا استمرارية لعادة قديمة.
التوك توك .. تاكسي الناس الغلابة
منذ ست سنوات ظهر"التوك توك" في مصر، وأصبح وسيلة انتقال مهمّة لا يُمكن الاستغناء عنها في مختلف المحافظات المصرية، إلى الحدّ الذي أصبح من النادر أن يخلو أيّ شارع فى مصر منه، وبحسب التقديرات فإن عدد مركباته في الشوارع المصرية قد تجاوز 2 مليون مركبة، انتشاره الكبير هذا جعله وسيلة انتقال لمعظم السكان، والتوك توك أو كما يسمى ببعض البلدان المجاورة "البجاج" أو"الركشة"، هى مركبة نارية ذات ثلاث عجلات، وهو تطور لمركبة الريكاشة اليابانية القديمة التي كان يجرها سائقها والتي كانت تجري علي عجلتين، وينتشر بكثرة في البلاد الآسيوية، حيث بدأ انتشاره فى الهند مع بداية الستينيات، وقبل أعوام وصل إلى بعض البلدان العربية وخصوصاً في مصر والسودان. ويتميز بصغر حجمه، وهو الأمر الذي يُتيح له السير عبر الممرات الضيّقة، أو حتى على الأرصفة، وأحيانا عكس السير!، كما أنه بلا ترخيص، فليس له رخصة سير، ولا لسائقه رخصة قيادة، وإن كانت بعض المحافظات قد عملت على تقنين وضعه وإصدار تراخيص له، وليس له تعريفة محدّدة للأجرة، أيضاً لا يوجد به أبواب أو أحزمة أمان، ونظراً لرخص ثمنه فإن كثيرين قد لجأوا إلى شرائه، وأصبح مصدر دخل للآلاف من الشباب، ارتفاع نسبة الإقبال عليه دفعت رجال الأعمال إلى استيراده وتجميعه في مصر، حتى أصبحت السوق المصرية أحد أكبر الأسواق الجاذبة لهذه العربة العجيبة.
يطلق عليه البعض "تاكسي الناس الغلابة" ،أولئك الذين لا يملكون ثمن سيارة خاصّة، ولا طاقة لهم بأجرة التاكسي، وليس بإمكان وسائل المواصلات الأخرى أن تدخل إلى حواريهم الضيّقة. تحول التوك توك مع الوقت إلي ثقافة بالمعنى الحرفي للكلمة، فى عرباته تنطلق الأغاني من الكاسيت البدائي بأعلى الأصوات، تعاقب ظهوره فى المسلسلات والأفلام السينمائية كوسيلة مواصلات رئيسية للمناطق العشوائية، إستخدمه الكتّاب الساخرون فى كتبهم وأشعارهم العامية، صار أمراً واقعاً مفروضاً على الجميع بالرغم من أن هيئة المفوّضين بمجلس الدولة المصري طالبت سابقا بإصدار حكم قضائي يلزم الدولة بوقف استيراد التوك توك ومنع دخوله إلى مصر، وذلك نظراً لأنه يُمثل خطرًا أمنيًّا لاستغلاله من قِبل الخارجين عن القانون، فضلاً عن أن تلك المركبة لا تمثل الحدّ الأدنى من اشتراطات الأمن والأمان ومعايير السلامة.
شعارات وسائل المواصلات!
العبارات التى يكتبها السائقون عموما، وسائقو التوك توك وسيارات النقل خصوصاً، تعكس ثقافة الإنسان المصرى وتعكس نشأته وأسلوب حياته البسيط، هذه العبارات ممنوعة تماما فى كثير من الدول، لكنها موجودة لدينا، وقد تشكل انعكاساً لحالة من الثقافة الشعبية، فشعارات وسائل المواصلات تعد خلاصة فلسفة شعبية، وعصير حضارة ممتدة عبر السنين امتزجت بتطورات العصر، وخرج من هذا الامتزاج أرقى وأعمق ظاهرة معاصرة، الكتابة على هياكل سيارات النقل والأجرة والميكروباص، ومؤخراً التوك توك، وهى الظاهرة التى أطلق عليها عالم الاجتماع الكبير "د. سيد عويس" منذ أربعين عاما مصطلحه الشهير "هتاف الصامتين"، قبل أن يجمعها فى كتاب تحت عنوان "هتاف الصامتين: ظاهرة الكتابة على هياكل المركبات فى المجتمع المصرى المعاصر"، والذي يقع في 177 صفحة من القطع الكبير، ويضم مقدمة و7 فصول وخاتمة، وإستمر فى جمع مادته على مدى ثلاث سنوات (سبتمبر 1967 - أغسطس 1970). ولم يكن التوك توك قد ظهر فى مصر حينها، ولم تتوسع العبارت وتنتشر مثلما هو الحال اليوم، لكن بأي حال فإن الكتاب قد شكل عينة ممتازة لهذه العبارات، كما أنه أول من لفت النظر إلى هذه الظاهرة، ومنذ فترة ظهر كتاب آخر عنوانه "مكتوب على جدران التوك توك"، من تأليف كمال سالم عوض، والذى يمكن اعتباره تحديثاً للكتاب الأول، تحديث يناسب العصر ويواكب التطور الذى حدث فى عالم عبارات وسائل المواصلات، وخاصة التوك توك.
الكلمات والعبارات على هياكل المركبات تتميز بتنوُّعها وتكرارها وتباين أشكالها ومعانيها، لا تتعلق فقط بأسلوبهم في مواجهة المجهول والحسد، بل هى تتعدى ذلك إلى آفاق أوسع تمسّ المناخ الاجتماعى والثقافى لهذا المجتمع، فالبعض يستخدم العبارات الدينية والآيات القرآنية للطمأنة ومباركة وسيلة المواصلات، مثل كتابة الآية القرآنية: "إِنَّ مَعَ الْعُسْر يُسْرًا", "فالله خير حافظ وهو أرحم الراحمين"، "ولسوف يعطيك ربك فترضي" ،"يا رب سترك"، "الستار موجود"، "توكلت على الله"، "المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين"، "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا". ومنها ما يُكتب لمنع الحسد والستر من العين، مثل: الأية الكريمة "قل أعوذ برب الفلق"، أو عبارات مثل:"العين صابتني ورب العرش نجاني"، "الستار موجود"، "يا ناس يا شر كفاية قر"، "طلبنا من ربنا وادانا وعين الناس مش سايبانا"، "عين العبد غدارة وعين الرب ستارة"، وأحدهم كان أكثر فكاهة، فكتب على ظهر التوك التوك الخاص به : " للبيع عشان ترتاحوا"، " طلبنا من ربنا ادانا وعيون الناس مش سايبانا"، " الحلوة خوخة ،جت بعد دوخة"، " قصة كفاح مش جايه على المرتاح"، وكتب آخر: "ما تبحلقش كده يا لوح، دي جت بطلوع الروح".
ومن العبارت ما يعين على الفضائل مثل الصبر والأمانة، فتجد بعضهم وقد كتب على ظهر التوك توك الخاص به: "الصبر مفتاح الفرج أو "من آمنك لم تخونه ولو كنت خاين"، " العمر قصير والبخت مصير"، "تحت الوش فيه كدب و غش". وهناك عبارات تدور حول الحب والحياة، فنجد من كتب "الحب فعل ماضى كله كلام فاضى"، وكتب آخر"عشان تعيش الحياة متصاحبش أى فتاة"، "حب إيه يا جاهل مفيش بنت تستاهل"، "الدنيا بتلهي الناس وبتبعد ناس عن ناس"، "بحب كل الناس وبكره كلامهم"، "حبيبك فين يا قلبي سابك مجروح يا قلبي"، "كان مستحيل أنساك دلوقتي حب ومات"، خلعت دبلتي وبعت دنيتي"، "اتنين ما لهمش أمان: البشر والزمان". وهناك عبارات ذات إرتباط جغرافي ومكاني، مثل ما هو مكتوب على تاكسي بمدينة الاسكندرية الساحلية: "البحر واحد والسمك أنواع" ،أو "عاصفة الصحراء" على سيارة نقل على الطريق الصحراوي، وعلى ميكروباص فى منطقة حلوان بجنوب القاهرة "الحلوة من حلوان وصاحبها راجل غلبان"، ومن شعارات المناطق الاخرى: "الحلوة من دمياط وعليها أقساط"، وبعضهم ذهب لإظهار المديح فى مركبته، مثل:" الأسفلت بيضحك ليه, السنيورة ماشية عليه"، "لو عشت هازلكم ولو مت الله يسهل لكم"، "مهما الدنيا تتغير أنا ما اتغير". وكثير من العبارات يدور حول الصداقة وخيانة الأصحاب، مثل:"الصاحب الناقص بناقص"، "لو صاحبك خانك اعتبره دخانك"، "صاحبك مصلحتك"، "مش هيصعب علينا حد علشان ماصعبناش على حد"، "لو فيه غراب أبيض يبقي فيه صاحب بيتصاحب"، "لما كنت عصفور كلونى، ولما بقيت اسد صاحبونى"، "ملقتش اصحاب في مصر بعت أجيب من الصين".
بعض العبارات تأخذ منحى سينمائي وتلفزيونى، مثل: "خارج عن القانون"، "روتانا توك توك مش هتقدر تمشي على رجليك"، "سينما الحياة فاتحة البيبان"، والبعض اتجه إلى إسداء النصح والمواعظ، فرأينا عبارات مثل:"عايز تعيش وتشوف ..وشك يكون مكشوف"، "عشم مات.. المعاملة دلوقت خد وهات"، "خلى بالك من الطارة دا العجلة دوارة"، ومن العبارات الكوميدية: "خدي بالك من الواد .. أنا نازل يا سعاد"، "هدفي الوحيد فى الحياة.. طلع تسلل"، "ماشى على رجليك ليه دا التوك توك بقى بجنيه". وللأسف يتمادى البعض في استخدام مثل هذه الشعارات والعبارات، فأخذت مساراً غير أخلاقي، في حين أن بعض السائقين يتخلى عن فكرة الشعارات، ويكتبون أسماء شهرتهم، وألقابهم، وأرقام هواتفهم، مع وضع بعض اللمسات على الألقاب والأسماء مثل: العاشق ،البروفسير، الطيار، الرايق، الدلوعة، عميد كلية الحب قسم الرومانسية، وغيرها. عالم وسائل المواصلات فى مصر يعدّ عالما ثريا بالتفاصيل، تفاصيل جديرة بالرصد، خاصة تلك الوسيلة الصغيرة والعجيبة المسماة "التوك توك"، فهى وسيلة المواصلات الوحيدة التى فى متناول يد البسطاء، والوحيدة القادرة على اختراق الشوارع الضيقة والعشوائيات، وعباراتها المكتوبة تعطى طابعاً فكاهياً لا ينفصل عن طبيعة الروح الجميلة للمصريين.