القاهرة 12 يونيو 2018 الساعة 12:25 ص
فيصل رشدي، باحث من المغرب
رحلة متخيلة
وصلتني رسالة اليوم وأنا في مقر عملي من مدير المعرض الدولي للكتاب بجمهورية مصر العربية، فتحت الرسالة وفيها" سيدي المحترم: إننا نقدر حبك لمصر، ولهذا فمصر وأبناؤها، يطيب لهم أن يتشرفوا بحضوركم المعرض الدولي للكتاب بالقاهرة أيام 5، 6 ،7 شهر مايو، العام 2018 وشكرا لك"
فقلت في نفسي سأقبل الدعوة مهما كلفني ذلك، فرحت كثيرا، فالفرصة تأتي مرة واحدة في العام، وعلي أن أستغلها، وإلا فالروتين اليومي سيقتلني، الإنسان عندما يسافر بعيدا، يروح عن نفسه، ويعود للحياة من جديد، فالحياة هي تجديد للذات. لكن خطر في ذهني أن أيام 5، 6 ،7، لدي عمل، ورئيسي في العمل لا يتهاون في مسألة غياب الموظفين، ومن تغيب يوما واحدا، فعليه تبرير ذلك، لكن ليس بالكلام بل بالشهادات. من مرض من الموظفين فعليه أن يدلي بشهادة المرض، ومن توفي له أحد أقاربه فعليه أن يبلغ الرئيس من أجل أن يحضر بشخصه في مراسيم الجنازة، ليتأكد بنفسه بأن الأمر ليس فيه كذب ولا بهتان. والحق يقال إن رئيسنا في العمل رجل صارم في هذه الأمور، لا يرحم.
أكملت عملي وعدت إلى المنزل، وقد بدا علي الأرق، وبدأت أحدث نفسي، مصر التي أريد أن أزورها أحرم منها، أيعقل أن أضيع فرصة لقائي بأصدقائي المصريين، أناس ربطتني بهم محبة وصداقة طويلة، وكلهم يتمنون حضوري. جلست على الأريكة، فأخذت وردة حمراء، فبدأت أقطعها: فأقول: أسافر، لن أسافر، أسافر لن أسافر. فإذا بزوجتي أمل تحملق في، قائلة:
- يا فيصل، هل جننت؟ وضعت يدها على خدها، فبدأت تلطم وجهها قائلة:
- فيصل جن، فيصل جن، أصبح مجنونا يا عالم، أصبح يكلم نفسه. التفت إليها فصرخت في وجهها:
- اصمتي يا امرأة، أنا لست مجنونا، ولا يحزنون، لدي مشكلة كبيرة، أريد حلها. وهنا تنهدت وكأنني أطفت نار غضبها، اقتربت مني فقالت:
- ما هي مشكلتك؟
- فقلت لها: مشكلتي فيها هي( مصر)؟
- اه أنت لديك امرأة ثانية، إذن قلها وانهي الموضوع. فقلت لها: اصمتي يا امرأة. وصمتت حتى أنا لزمت الصمت، لحظة فإذا بزوجتي تقترب مني وكأن ضميرها أنبها.
- فقالت لي معذرة: يا زوجي فيصل، والله لا أريد أن أزعجك، لكنك اليوم لست طبيعيا، هل جرى لك شىء، هل أنت مريض؟
رأيت كيف انقلبت زوجتي من حالة الغضب إلى الطمأنينة، في لحظة أطفأت غضبها، وكأن شيئا لم يكن.
- أجبتها وأنا ابتسم: هل يمكنني أن أسافر إليها؟ أم لا؟ بدا الغضب على وجه أمل من جديد.
- فقالت لي: من هي التي سستافر إليها؟
- فقلت لها مصر؟
-مصر مين؟
- بلد مصر، وهنا تنهدت وقالت لي:
- إن كان بلد مصر، فسافر إليها بسلامة، لكن أن تكون هناك امرأة في مصر، والله العظيم سأدخلك كتاب التاريخ وأكتب عليك خائن، لا تنسى أن تجلب لي هدية من هناك.
- فقلت لها: لا تقلقي هي فقط ندوة لا أقل ولا أكثر، وسأجلب لك هدية.
دخلت السفارة المصرية في المغرب، فهي تقع في حي حسان بالعاصمة الرباط، فرأيت رجلا مسنا، ذا عينين كبيريتين وحاجبين ملتصقين، حليق الذقن، يضع نظارة طبية على عينيه، كان الوحيد في مكان الانتظار.
ما إن رأيت الموظف المصري مصطفى عبد الدايم، حتى رحب بي.
- فقال لي: أكمل مع الأستاذ يقصد الشخص الجالس بجانبي آنذاك أنادي عليك.
ما هي إلا لحظات حتى أنهى مصطفى عبد الدايم مع الرجل أشغاله، فرحب بي لأنني كنت أعرفه منذ كان في المركز الثقافي المصري، فقدمت له جواز سفري، ومبلغا ماليا قدره ست مائة درهم.
فقال لي:
- عد بعد أسبوع، تجد التأشيرة جاهزة.
عدت بعد أسبوع، فأخذت التأشيرة من السفارة، لكني بقيت مترددا في سفري إلى مصر. بسبب صرامة رئيسي في العمل، وكانت مسألة السفر بدأت تتراجع شيئا فشيئا. ذات ليلة لن أنساها ما حييت كنت أشاهد التلفاز فإذا بأغنية الفنان المصري الكينج محمد منير" يا عروسة النيل يا حته من السماء" وكان صوت الفنان محمد منير مؤثرا على القلب، كانت كلماته جميلة وغاية في الروعة. فقررت أن أتحدى رئيسي في العمل وأسافر. فتساءلت: هل يمنعني هذا الشخص من مصر وحبي لها وأصدقائي هناك؟ سأسافر مهما جرى.
وصلت القاهرة يوم 5 مايو، مع الساعة التاسعة صباحا، أخذت تاكسي.
- فقلت للسائق: حي الأزبكية يا باشا. وهناك يمكنني أن أسأل عن مكان المعرض. ما هي إلا نصف ساعة حتى وصلت الأزبكية، وهناك رأيت جمال الأزبكية، ورأيت محال الكتب، الرائعة الممتلئة عن آخرها بكنوز العلم، سألت عن بعضها، فكانت رخيصة الثمن، سعدت بالوجوه التي تبيع الكتب هناك، التقيت شخصا بدا من ملامحه إنني رأيته في مكان ما؟ لكن سألته: بعد إلقاء التحية عليه، أين يقع معرض الكتاب.
-فقال لي: أنا أيضا ذاهب إليه، والمكان ليس بالبعيد من هنا.
وصلنا بعد دقائق إلى المعرض، فإذا بي أدخل المكان المخصص للندوة التي سألقي فيها محاضرتي.
دخلت إليها فوجدت حضورا كبيرا، شبابا وشابات، رجالا ونساءً لفت انتباهي: الأستاذ سعيد نوح، الأستاذ مصطفى سليم، الأستاذ عاطف عبيد، الأستاذ إدريس سلطان الهدهودي.
بدأت محاضرتي بعنوان" المشهد الثقافي المصري في الألفية الثالثة: الأستاذ سعيد نوح، الأستاذ مصطفى سليم، الأستاذ عاطف عبيد، الأستاذ إدريس سلطان الهدهودي" نموذجا.
فبدأت المحاضرة قدمني الأستاذ أحمد اللاوندي الشاعر المصري الكبير للجمهور ، تقديما رائعا.
بدأت محاضرتي: أيها الحضور الكريم، يسرني حضوركم، فهو تشريف لي، واحترام للثقافة المصرية بشكل خاص والعربية بشكل عام، فالثقافة في مصر أعلت الأدب من خلال كتابها الكبار. أنني سعيد، بوجود هذه الشخصيات الرفعية اليوم معنا.
بدأت برواية الأستاذ سعيد نوح" كتاب الحكايا الذي هو" والحق أقول لكم أيها الحضور المحترم، وليس من باب المجاملة لكن من باب النقد: إن اللغة التي يكتب بها الأستاذ سعيد روايته التي سلف ذكرها، لغة راقية قل نظيرها اليوم، وأسلوبه مميز، فيها أيضا عوالم اليقظة وطرح التساؤل، أقتطف مقطعا من رواية الأستاذ سعيد " فأفضل الروائيين فقط هم من جعلونا ننام بسهولة ويسر على مر التاريخ"، هذه العبارة تحتاج الكثير من التأمل واليقظة، لأن الكاتب الحقيقي هو الذي يغير القارئ فكرا ولغة وأسلوبا، وهنا أضرب المثل برواية" مدام بوفاري" لجوستاف فلوبير. أنتقل إلى الأستاذ مصطفى سليم الناقد والكاتب المصري صاحب رواية "سفر المرايا" الفائزة برواية دبي. إني أراه كاتبا يكتب بعمق وتأمل في كل ما يجري من حوله، وأقول له إن طريق الإبداع طويل، يحتاج إلى نفس طويل. أشرت بأصبعي مباشرة اتجاه الأستاذ مصطفى سليم فقلت له:
- اكتب ولا تهتم بالذين يقفون في طريقك. المهم أن الابداع حرية والنقد سجن بمفهومه الإيجابي، فالنقد صارم لأن له قواعد يلتزم بها الناقد. استمر والله الموفق. والآن ننتقل إلى الأستاذ عاطف عبيد.
الأستاذ عاطف عبيد أهم شيء في العالم العربي الآن هو كل ما ينشر في تلك البلدان، فدار النشر يجب أن تكون دارا وازنة، ومحترمة، تنشر الكتب التي تستحق النشر وأضرب هنا مثالا حيا بدار النشر جاليمار بفرنسا. وأنا أرى ما قلته في دار النشر بتانة، إنها مؤسسة محترمة، تنشر الأعمال الجيدة سواءً أكانت إبداعية أو علمية، نتمنى أن تكون باقي دور النشر مثل دار بتانة للنشر التوزيع. والآن سننتقل إلى أستاذ وباحث كبير وهو:
الأستاذ إدريس سلطان الهدهودي، ياه: باحث كبير، وأنا مهتم بكتبك، ولك دراية بالمناهج وهذا شيء يسر النفس كثيرا، ولأهلك تاريخ ضارب في القدم، أتمنى أن تنجز بحثا عنهم، بحثا مفصلا من المكان الذين جاؤوا منه والمكان الذي وصلوا إليه، فأكيد أن البحث طويل لكن ما أجمل أن نقرأ سيرة الهداهيد، إنها سيرة تشبه سيرة أبي زيد الهلالي.
أنهيت المحاضرة، وأنا أرى وجوه الحاضرين، فطارت بي ذاكرتي إلى العام الماضي، فتذكرت أصدقائي: الأستاذ وليد علاء الدين أين هو؟ فقد اشتقت إليه، فأنا أراه الآن ناقدا، وقارئا نهما للكتب، تذكرت أيضا مختار سعد شحاته وحديثه عن صديقه البرازيلي جواو نيلسون وحب مختار للأدب الإفريقي. فتساءلت أين هو؟ وأين هو محمد شحاته العمدة، أريد أن أبارك له فوزه بجائزة الشارقة صنف الرواية، وتذكرت أيضا الأستاذ محمد زين العابدين شاعرنا وصديقنا الأصيل، فتساءلت أين هي الاستاذة هويدا صالح؟ هل أكملت حلمها الثقافي في مصر أم لاتزال؟
غادرت المعرض، واتجهت مباشرة إلى شارع طلعت حرب، لأرى عمارة يعقوبيان، تذكرت تلك الليلة الرائعة الجميلة بين الأصدقاء، فبكيت كثيرا، وقلت في نفسي ليلة لا تتكرر رغم مرور عام.
يوم 8 مايو عدت إلى المغرب، وفي اليوم التالى، استأنفت عملي، دخلت مكتبي، وما هي إلا لحظات، حتى جاءني الفراش: قائلا :
- السيد الرئيس ينتظرك في مكتبه.