القاهرة 17 مايو 2018 الساعة 05:48 م
د/ شعيب خلف
( بهاء السيد ) واحد من الأدباء الذين أصطلح علي تسميتهم أدباء الأقاليم في زمن رواج هذا المصطلح، يكتب من بداية الستينيات حيث كتب أول قصصه ( علبة ألوان ) عام 1962 ونشرت لأول مرة في الثقافة عام 1964، معني ذلك أن الرجل يكتب من بداية الستينيات، تعددت فيها مراحل تجربته، وأخلص لفن القصة القصيرة الذي أحبه كثيرًا، وأخرج لنا أربع مجموعات قصصية .
بهاء السيد واحد من هؤلاء الذين آثروا البقاء في أماكنهم الأولي، يعانون فيكتبون، يقهرون فيزدادون جرأة علي إدانة هذا القهر، متطلعين إلي رموز الخلاص حين لا يكون لليد حيلة .
القهر :
إذا كنا كما يقول (أندريه لاند) " لدينا أمكنة بقدر ما لدينا من عضلات، أو إن شئت الدقة .. هناك أمكنة بقدر ما لدينا من أنظمة عصبية تتيح لنا الوصول بحركات معينة متفاوتة المدى إلي كثرة من الإحساسات التي يمكن التعرف عليها "( ) فهذا بالطبع يتيح للإنسان قدرًا كبيرًا من الأمكنة الصالحة للكتابة ، لكن المهم قدرة المبدع علي صنع الألفة معها، لتكون حين استدعائها قادرة علي صناعة الخصوصية له وحده، وذلك لاستخدامها وتوظفيها سرديًا ما يخدم نصه، إننا الآن أمام ائتلاف بين عنصري الشخصية والمكان، فبقدر حركات الإنسان، بقدر ما أصبح لديه مخزون مكاني متعدد، ومن هنا كان ربط (أدورين موير) بين الشخصية والمكان في الرواية، أو بين رواية الشخصية وعلاقتها بالمكان " إن العالم الخيالي للرواية الدرامية يقع في الزمان، وإن العالم الخيالي لرواية الشخصية يقع في المكان، ففي الأولي باختصار يقدم لنا الكاتب تحديدًا عابرًا للمكان و يبني حدثه في نطاق " الزمان " وفي الثانية يفترض الزمان فيكون الحدث إطارًا زمانيًا ثابتًا يوزع دائمًا ويعدل مرة بعد أخري في نطاق المكان " ( )
المكان الأول عند بهاء السيد هو مكانه الليف الذي لم يتركه ليقطن غيره ، وهو مخزونه الحي الواعي الذي يصنع فيه شخصياته ، خاصة شخصياته المقهورة التي عاندتها الظروف ، ووضعت أمامها المتاريس والسدود، إننا هنا أمام شخصيات مقهورة، يتعدد القهر الواقع عليها بتعدد الأماكن التي تطأها، شخصية مقهورة في قريتها، في مكانها الأليف، تتركه وتنزح لمكان آخر بغية الخلاص من هذا القهر، فتفاجأ أن هذا المكان / الخلاص صار هو الآخر مكانًا لقهر متعدد فلا تجد أمامها سوي التطلع إلي رموز الخلاص في موروثها العقلي، ولما كانت هذه الرموز تمنح الشخصية القصصية المقهورة راحة نفسية وقيمية مهمة تستنجد بها في وقت قهرها كان اللجوء إليها والاحتماء بها؛ لكنها في الوقت ذاته ليست حلاً عمليًا للتخلص من هذا القهر، فتؤثر الموت لتولد من جديد ولادة ثانية خلال تاريخها من القهر نقية منعمة بالحرية .
في أول قصص الكاتب ( علبة ألوان ) ( ) تحكي قصة مدرس يتنقل بين قريته وبين مدرسته التي يعمل فيها، حيث ينفق نصف راتبه الشهري علي (الأتوبيسات)، وعربات الأجرة، ناهيك عن الطريق الشاق الوعر الذي يحتم عليه ضيقه أن يقطعه بمفرده كل يوم حتى يتفصد جبينه عرقًا، هذا لون من المعاناة والجهد يصاحب الشخصية المقهورة التي تلاقيه، أو يلاقيه( الراوي / البطل ) مما يجعله يستدعي قهرًا مثيلاً، إنه الطفل المثيل الذي يلاقي قهرًا شديدًا، ويتساءل ما ذنب هذا الطفل ؟ الطفل لم يستطع شراء علبة ألوان، ولما سأله أجاب إنه ابن لأب مدمن لا يدخل بيته إلا حينما يريد نقودًا من أمه " إنه يأخذ ثمنها من أمي بالقوة والضرب " إننا أمام نموذج للقهر سيطر علي عقل الكاتب منذ البداية، حيث لا حيلة للمقهور أمام سطوة وجبروت وتعنت القاهر، لقد استدعي قهر( سمير ) قهر الراوي نفسه حينما كان في سنه، حيث الأب الهارب، والأم غير القادرة علي دفع مصاريف المدرسة، والجد العجوز، فباعت سريرها ليكمل ابنها مشواره .
في قصة ( عندما تأتي الغازية ) ( ) نلاحظ للقهر أثرًا مباشرًا وغير مباشر في تهميش العقول، إن القرية التي ينتظر كبيرها وصغيرها ( غازية ) في الوقت الذي يتفشي فيه القهر، وتتعاقب المصائب، وتتعدد المتاعب، كان يجب أن يسعي الجميع لانتظار الخلاص من مصائب جاثمة علي قلوب الكثيرين، ينشغل الناس بأمر تافه لا قيمة له فهاهو العرقان يصرخ وكله ثقة " أقطع الدراع ده لو جت غازية"(ص133)، ويصبح رد فعل القرية كلها هذا الانفجار الهائل، والغضب غير المبرر "وانفجرت القرية صار الجميع مخالب مسنونة كانوا يرفضونه بغل وقرف يزومون بغيظ وشراسة "( ص133)، والحوار يتردد بين الجميع يحمل في طياته تعظيمًا لما لا يري ، تقديسًا للخفي البعيد " لم يكن منتظرًا أن تنزل قريتنا واحدة من بتوع مصر ممن يحسن استعمال التلاوين الحمرا و البيضا وتفوح منهن رائحة العنبر"( 133/134) . في قصة " كدمات داكنة في جسد مسجي " ( ) وهي من قصص المرحلة الأولي ، والتي تتخذ من البيئة الأولي أيضًا مكانًا لها، تمارس الأم قهرها علي ابنها " في الصباح كوتني أمي فوق عجيزتي مباشرة بقطعة من الحديد الساخن لتضمن سكوتي ... ولم أصرخ .. في الأيام التالية كنت هائمًا علي وجهي في كل غيط وكل زرعه .. باحثًا عن الليمون وثمار الخيار المهشمة " (ص67) ثم يقول بعد ذلك أحس ليلًا بحركة غريبة أظل أرقب وصول الرجال الثلاثة في كل لحظة ليحملوني داخل الجوال وكنت مقتنعًا تمامًا أنهم سيحضرون لكنهم فقط ينتظرون اختفاء القمر " (ص 67) .
حين يداهم القهر الشخصية الرئيسة ينظر للمدينة وهو ابن القرية علي أنها حلمًا للخلاص، حينما يسيطر العجز، وترتفع وتيرة القهر نراه يقول في قصة " النازح و القديس وبائعة المشوي " ( ) .. " في الوقت الذي كان يقرأ فيه كتابًا ( عن الثورة العرابية ) كان قد فر إلي المدينة محتميًا بأضرحتها وبعجزه الذي لا يقاوم " ص77. ولما تبينت له حقيقة هذه المدينة قال لنفسه في قصة " الذباب لا يلفظ عصافير " ( ) "أنت يا شاعر الغبرا .. لم تصمد طويلًا إلي مدينة هوائية فررت من الساحة .. رمالها البيضاء لا تملأ سوي رأسك وحدك حتى وهم يحشرون بنبابيتهم في عجيزتك كنت تضحك .. تجوب عوالم وهمية مضببة فوق حصان أبيض فاقع .. حشوت جوفه بالقش و الفراغ سعيدًا كطفل " (ص22 ).
لم تكن المدينة أبدًا مكانًا أليفًا للشخصية الرئيسة في معظم القصص، وهي المكان الحلم الذي تسعي إليه الشخصية الرئيسة طلبًا للخلاص، صار يلاقي التربص به، وقهره في مكانه الجديد، في قصة ( عين الشمس ) ( ) ينتقل المدرس السالف الذكر المقهور – في قريته – إلي المدينة الخلاص، فإذا بالقهر يتبعه ويشهد زملاؤه ضده، وتربصوا به عندما حول للنيابة الإدارية ليشهدوا زورًا وبهتانًا عليه " عندما واجهه وكيل النيابة قال بكل ثقة أجل هذا ما حدث تمامًا .. ولم يعقب ... رآهم يقفون وأفواههم مليئة بالسخرية ... جميعًا كانوا وهم يدلون بالشهادة ضده يرتدون أزياء مختلفة .. لاحظ هذا للمرة الأولي .. وعندما اصطفوا أمامه كجدار قلعة .. بكل شجاعة اخترق صفهم الحجري ميممًا وجهه شطر المدرسة وهو يقنع نفسه بنصر أكيد "( ص 30 ) وتساوره الرغبة في مجابهتهم، أو البعد عنهم، لأنهم جمع غفير، وهو وحده أعزل في بلد لا أخ فيها ولا صديق " أنت تعرف عنهم الكثير عرفت كل هذا فكان يجب أن تستسلم " (ص31 ) ويعاوده اليأس مرة أخري " يقتلونك بسيوفهم وأنت أعزل رغم أنك تعلم أن سيوفهم اللامعة مجرد قطع خشبية " (ص31).
( حمدية حمدان ) في القصة ذاتها هاربة من القهر الذي لاقته في قريتها إلي المدينة الخلاص أيضًا، حيث الزحام الذي ينسي الخطيئة، وحيث الستر، والخلاص من العيون التي تعرف أو لا تعرف فتفضح، والضمائر التي لم تشاهد أو تشاهد لكنها بالباطل تشهد " هاربة من إحدى وعشرين سنة لتغوص في أعماق المدينة ... ويومها لم يسأل أحدهم عن السبب في هروب الطفلة ذات الإثنى عشر ربيعًا (قالوا فقط اقتلوا بنت الفاجرة وامحوا العار) ولم يقولوا زوجة الأب هي السبب " (ص32) ، إن واحدًا وعشرين عامًا في المدينة دون أن تمتلك مكانًا يحوي وجودها ويستر عريها؛ بل كل يوم يزداد القهر افتراسًا، الخدمة في بيوت الناس لم تجعل ( حمدية ) تمتلك أدمية تعيش بها، أو تمتلك مكانًا تحيا فيه، لذا نراها تربط بين الآدمية وبين امتلاك المكان " ياريت نشتري قطعة أرض ونتحول إلي آدميين ... آدميين يا أمي .... ماذا يمنع ؟ أنا أعلم جيدًا أن محمد علي بجبروته لم يستطع أن يجرد أحدًا من آدميته " (32).
إن القهر الواقع عليه من زملائه، ومن الناظر أقوي من أن يحتمله وهو الأعزل " بحركة لا إرادية ارتفعت يده تريد أن تحول دون سقوط يد غليظة تهوي .. كانت الصفعة أشد من أن يحتملها .. وأكلته دمعة تركها تنزلق منهارة .. أحس بالضيق وهو يقف مكانه تحت الشجرة اليتيمة .. لم أر في حياتي أبًا يصفعني حتى يفعلها هو معي .. عيني عينك أمام الجميع هل كانت مدرسة أبيه يا ناس ؟... وفي الصباح في الغرفة المكيفة بالهواء ... قال سامي وأحمد بصوت واحد لم نر شيئًا ولم يحدث شيء كلاب ... كلاب ... يا وكيل النيابة " ( ص 33 ) .
في قصة ( رتوش في حديقة الصمت ) ( ) يتحول القهر الفردي السابق إلي قهر جمعي متعدد المصدر، هنا تتسع النظرة، فلم يعد ذلك المدرس المقهور من ناظره وزملائه، ولم يعد قهرهم هو القهر الوحيد الواقع عليه، ولم يكن قهرهم هو كل القهر، بل صار القهر عامًا " آدميون .. خلق ..عالم كلهم جاءوا يجرجرون أفئدة مرعوبة ليلحقوا بالقطار قبل أن يشق لنفسه طريقًا في الزحام " (ص 70 ). ويستمر هذا المقطع الذي يمثل القهر الجمعي " آدميون .. خلق .. كثيرون تاهوا .. بعضهم أنكفأ علي وجهه داخل صومعة .. و البعض سقط في أعماق فوهة سوداء غامقة .. جميعنا تاه في حديقة الصمت " (ص 71/ 72 ).
إذا كان الفرد المقهور في قصة ( عين شمس ) قد وقف وواجه وجابه متصديًا لقوي قهره – الناظر والزملاء – فإن الموقف المقابل للقهر الجمعي يتصف بسلبية أصحابه " البعض أبتلع
خاتمه ليسد حلقه .. ابتلعت أنا كمية كبيرة من السأم حتى لا يكتشفوا الحقيقة، طاردتني كثيرًا
صور الكثير ... تدور حول دائرة مقفلة .. دائمًا الثيران كانت تدور وتدور وكنا معها ندور " (ص72) ، بعد أن كان القهر يسيطر فقط علي الشخصية الرئيسة بشكل فردي أو جماعي صار القهر يسيطر علي الجماعة كلها بشكل فردي أو جماعي أيضًا، بل وفي ازدياد دائم " وسرنا طابورًا طويلًا عرايا كما لفظتنا الأمهات .. ثم بدءوا في رصد الأرقام المطلية بالقار .. كنا أرقامًا محفورة فوق سطح أملس نصبوا مقاصلهم في الميدان الفسيح .. كانت المقاصل شامخة في لحظة تهيب ... كنا ندور باحثين عن المربط بلا جدوى صرخت في صدورنا حيوانات مفترسة منشوبة المخالب ولكن المشاعل اللعينة كانت أسرع فانقلبت الحيوانات إلي سهام ترتد في الصدور ... " (ص 73 )
في قصة " لصوص من نوع آخر " ( ) نجد تيمة العري التي تمتهن كرامة صاحبها كأقصى درجات القهر والمذلة وفضح الآدمية .. هذا القهر الذي جعل الأب يمتهن السرقة واللصوصية والقهر كذلك الذي جعل الابن يرث مهنة أبيه " إن أبي لم يكن لصًا هاويًا مثلك، أمي كانت تقول أنه كان محترفًا عظيمًا "(ص116 ).
إن العري أعظم درجات القهر، فالله ( سبحانه وتعالي ) يستحي أن يجعل عري عباده مفضوحًا أمام بعضهم يوم الحشر الأعظم، كما أن آدم يداري عريه بعد غضب الله عليه، وطرده إلي الأرض ليصنع من وجوده هنا لحظة الميلاد الأولي . لقد ارتبط العري بالخطيئة كما ارتبط أيضًا بالتطهير " أنا لص الملابس تتساقط .. تتساقط كأوراق الخريف من فوق جسدي يا للخجل ! أيها الرجل لا تنظر إلي ..إن عينيك رهيبتان لقد صيرتني عاريًا كما ولدتني أمي .. يا للعار! أريد أن أبكي ولو قليلًا" (ص120) ويزداد العري كلما ازدادت الخطيئة " لقد بدأت ملابس الرجل تتمزق صوتها يعلو زيق .. زيق صوت التمزيق يذكرني " بساطور أمي الذي كانت تعالج به رقاب النعاج يوم مولد سيدي " التوني " أرجوك ألا تمزق ملابسك وأبك كيف شئت ولكن صوت التمزيق يقلقني ... يدمغني باللصوصية " (ص 122 ).
في قصة " الحلم " ( ) يستمر القهر وفقدان الأمل مستمرًا في المدينة التي كانت بالنسبة له محطة للخلاص، إن ما رأيناه من قبل في قصة " رتوش في حديقة الصمت " نراه هنا حيث " الطريق طويل ومترب .. يبخ الصهد والغبار والغربة، البناء العريق يتداعي يهتز مع الخواطر المذبوحة .. يبتلع الدموع في صمت .. حمل كبده المسجي في صدره ملفوفًا في قطع الشاش البيضاء .. يرقب بحذر المدينة الغول .. والذباب و الصراصير بلا رحمة " ص 40، ثم يتابع في نفس القصة صورة هذه المدينة، وتعدد صور وأشكال قهره فيها" جيوب بقرتها الحاجة وسوء الطالع في مدينة شنقوا فيها الأخ و الصديق دار حول نفسه بلا وجهه أو هدف ما يشوي كبده نار لتحرقه تؤرقه تنهكه زفرات الرضوخ اليأس بعد أن عاش حياته يحلم بشد الهامة والرأس والأنف وسط كتل صماء مرصوصة للحوم بشرية في جوف طابور المكلومين " (ص 41) .
في قصة ( كدمات داكنة في جسد مسجي ) نجد زهران عبد السلام يهرب من قهر مديره، ليصل إلي يكلم فيها نفسه ( أنا الهمام الشجاع الذي لا يهاب ( أجعص ) مدير فالمقهى علبة دخان حشروها أمثالنا مرتدي الطرابيش .. أنا سيجار لا ليس صحيحًا أني اهتز قرفًا لرؤية ظل سعادة البك المدير " (ص60 ) وزهران حين هرب من قهر مديره، ظن أن في المدينة خلاصًا، حتى علي المستويات التي تتماثل معه؛ لكنه يري البواب بكل ما يمتلك من مكانة اجتماعية امتدادًا لذلك المدير " رأي السلم الذي هبط منه البواب فتش جيوبه وذعر ليس سوي هذا البواب الذي أجهضه ... لابد أنه انتهز فرصة سقوطك المفاجئ اخص علي هذا كم أنا احتقرك إنه يحمل قوسًا هو الآخر فهو لا يكف عن التهام الطعام لحظة " (ص63)
في قصة " جسد معلق في فراغ " ( ) "... أجاب الحارس المكلف بحراسة المدينة وهو يتنهد بحرقة جاء البربر في الصباح الباكر لم يكن أحدهم مطلقًا يتوقع مجيئهم كنا نعلم أنهم لن يجيئوا لكنهم جاءوا في الصباح الباكر ... وقتها الشمس كانت تبعث الضياء و النماء ... فحرقوا القصر ... وخطفوا الأميرة .. كانوا يجرونها من شعرها بوحشية وخسة أمام العالم لكن أحدهم لم يجرؤ حتى هذه اللحظة أن يواجه البربر الذين خطفوا الأميرة وحرقوا القصر واستباحوا ما فيه " (ص97/98) إن الأميرة المدينة الحلم سيطر عليها البرابرة فلم يتركوا لمثله من المقهورين مكانًا يستر عريهم أو ينقذ عقولهم من الغياب، ثم يقول واصفًا هذه المدينة أيضًا وغدرها للقلوب البكر التي تتعامل معها للمرة الأولي " المدينة الكبيرة خفير مريض يسعي ببلاهة كي يغزو قلبك البكر بطريقة مهينه ملوحًا لك بكسرة خبز جافة .. الناظر صفعك وركلك أمام الأطفال ليرهبهم ( المدينة شجرة ضخمة ) تتمطى يتدلي منها حبل ذو عقد كثيرة " (ص99 ) ولا تزال السلبية من الجماعة التي تعيش داخل المكان المقهور " إن البربر مازالوا يجرون الأميرة الحلوة من شعرها وهي تزعق و تناديه تلوح له بذراعيها تهد رأسها الصغير وقد عجزت عن المقاومة تمامًا دموعه أحس بها أحجار تهوي فوق رأسه " (ص 100 ) .
في قصة ( تداعيات شاعر عجوز ) ( ) نجد هذا القهر الذي يلاحق الشخصية الرئيسة " جيوش الديدان السوداء تهجم عليه من الداخل .. تتسلل تمتزج بلحمه تسير تحت جلده مباشرة شعر بعروقه تبخ الحقد و الغيرة فوق صدره ود في قرارة نفسه أن يشبع الجمع المحتشد في الميدان ركلا وصفعًا "(ص 102 / 103) .
لقد قدم بهاء السيد نماذج متعددة لقهر الشخصية سواء علي مستوي الفرد، أوعلي مستوي الجماعة، كما قدم نماذج لقهر المكان أيضًا سواء علي مستوي( القرية) أو علي مستوي (المدينة) وكل هذه النماذج تجمع في النهاية علي سلبية الفرد، كما تجمع علي سلبية الجماعة كما لم يسلم المكان والزمان من أن يكون باثًا مهمًا للخنوع والسلبية .
الهوامش والتعليقات :
- أندريه لاند العقل و المعايير ترجمة د / نظمي لوقا القاهرة الهيئة المصرية العامة للكتاب 1979 ص25 .
- ادوين موير بناء الرواية ت د / إبراهيم الصيرفي م د / عبد القادر القط القاهرة المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر 1965 ص62 .
- علبة ألوان أول قصص بهاء السيد كتبت عام 1962 ونشرت في الثقافة لأول مرة عام 1964 ثم نشرت مرات عديدة بعد ذلك في الدوريات أخرها معين اليمنية 1981 وهي ضمن مجموعة ثلاثية للوجع الهيئة العامة لقصور الثقافة سلسلة أصوات أدبية نوفمبر1998 .
- بهاء السيد عندما تأتي الغازية نشرت لأول مرة في التعاون عام 1966 وهي ضمن مجموعة ثلاثية للوجع السابق وأرقام الصفحات في المتن .
- كدمات داكنة في جسد مسجي مجموعة الذباب لا يلفظ عصافير الهيئة العامة للكتاب 1992 . والصفحات في المتن.
- النازح والقديس وبائعة المشوي الذباب لا يلقط عصافير السابق .
- مجموعة الذباب لا يلفظ عصافير والصفحات في المتن .
- بهاء السيد عين الشمس ضمن مجموعة السفر في الليل ( بالاشتراك ) الهيئة المصرية العامة للتأليف و النشر 1970 والصفحات في المتن .
- رتوش في حديقة الصمت ضمن مجموعة السفر في الليل وأرقام الصفحات في المتن .
- لصوص من نوع آخر ضمن السفر في الليل السابق.
- الحلم ضمن الذباب لا يلفظ عصافير السابق .
- جسد معلق في فراغ ضمن الذباب لا يلقط عصافير السابق .
- تداعيات شاعر عجوز ضمن مجموعة الذباب لا يلقط عصافير السابق .