القاهرة 15 مايو 2018 الساعة 10:44 ص
حسين عبد العزيز
إن عالم فكرى عمر الإبداعي هو أحد تجليات عالم ألف ليله وليله هذا العالم الذى وقع فى سحره كتاب كبار على مستوى العالم ..هذا العالم الذى يطلق عليه الواقعية السحرية التي تأثر بها من يخلص لها ..فيبدع نصوص مميزة للغاية ..لا تهتم بضخامة الحدث بقدر ما تهتم ببناء الحدث والتكثيف الذى يجعلك تسأل هل هذا خيال أم واقعى كما في نص الباص وتراب النخل العالي.
والاَن إلى متن الحوار الذى كان بين مصر المحروسة وهذا الأديب الشاب.
هل تأثرت بما حدث فى قريتكم من أحداث جسام منها الإقطاع؟
طبعًا جزء كبير من حكايات الأهل فى الطفولة، والصبا كانت عن الإقطاع فى بهوت، وعن تمرد بعض الأهالى فى 1951م، وما نتج عنه من تطويق الشرطة للقرية، وقبضهم على كثير من رجالها، وإرسالهم البرابرة لتأديب القرية. كان البرابرة إناسًا يطوفون شوارع بهوت وهم يركبون الجِمال، فى أيديهم كرابيج، وفى عيونهم نذير لكل من يخالف حظر التجوال الذى فرضته الداخلية من بعد آذان المغرب.
جاءت الحكاية عندي فى روايتين، واحدة بصيغة خيالية فى روايتى الأولى (محاولة التقاط صورة)، والثانية تستلهم روح الحكاية وأثرها الممتد على البلدة فى رواية جديدة تحت الطبع.
هل الأجيال الجديدة تعلم وتفهم تلك الأحداث؟
أعتقد أن كثيرًا من أصحاب الحكايات، والتجربة أنفسهم تغيرت قناعاتهم عبر الزمن. ربما يحكى أحدهم الحكاية وهو متعاطف مع الفلاحين الذين تمردوا على الإقطاع ممثلًا فى هجومهم على سرايا عائلة البدرواى عاشور، وفى المرة الثانية تراه على العكس من ذلك، لكن باستثناءات قليلة. أنت تكتشف مع الوقت أن الأمر خاضع للحالة المزاجية الآنية لمن يحكى، أو موقفه الإيدلوجى، لذلك لدى قناعة بأن جمع الحقائق القديمة من أفواه الناس فقط أمر يعوزه الدقة، فالأجيال الجديدة وأنا واحد منها أمامها حكاية مشوشة من أفواه أصحابها، وسطور كثيرة فى الكتب تحتاج إلى التفكير، والتحليل خصوصًا وأن هذا الحدث كان له أثر كبير فيما تلاه من أحداث سياسية فى مصر، كما كان هناك أعمال إبداعية تناولته من زوايا متعددة مثل مسرحية (ياسين وبهية) لـ"نجيب سرور"، وقصائد لـ"صلاح جاهين"، وأفلام سينمائية استلهمت روح ثورة الفلاحين فى بهوت فى ذلك العصر.
من يقرأ إبداع "فكرى عمر" يرى ويشعر بعالم ألف ليلة مثل غيره ممن تأثروا بهذا العالم، اشرح لنا مدى الاستفادة من التراث فى أعمالك الأدبية؟
الحقيقة أن قراءتى لـ"ألف ليلة وليلة" جاءت متأخرة. ربما منذ خمس سنوات مضت تقريبًا، وهذا لا يمنع تأثرى الكبير بها، وإعجابى بخيالها المدهش، وقدرتها على تجسيد أحلام الناس الذين أبدعوها وصاغوها.
كانت طفولتى متاهة من الحكايات الغريبة والخيالات المخيفة فى ريف تنقطع عنه الكهرباء أكثر الوقت، وينتشر بين ناسه تفسير خرافى للحوادث، وتخويف لنا نحن من الخروج إلى الطرقات البعيدة ليلًا، ورغم عدم تصديقى لأكثرها، لكننى لم أستطع أن أمنع نفسى عن الخوف من تصورها.
كنز الطفولة من الحكايات الرائعة التى استمر تأثرى بها كانت قصصًا تحكيها لنا مُدرستنا فى الصف الثالث الابتدائى ما زلت أذكر أكثرها حتى الآن، وكتبًا كنا ورثناها عن جدى القارئ النهم ومنها كتب شغفت بها فى طفولتى، وصباى. مع الحواديت الإذاعية، وأساطير من الشرق والغرب فى الإذاعة. المذياع فى الطفولة كان وسيلة التواصل والترفيه بدلًا من التليفزيون الذى قاوم أبى دخوله بيتنا فترة طويلة.
ما هى الشروط التى يجب توافرها فى كاتب الرواية؟
كل فن فى رأيي هو استيعاب لشروط البدايات مع التجريب للخروج عليها. أما شروط البداية فى الرواية فهى الشغف بالحكايات، والبراعة فى رؤيتها من زوايا مبتكرة، والقدرة على تقديمها شكلًا وأسلوبًا من هذه الزوايا الجديدة، بالإضافة إلى امتلاك ذائقة تستطيع تمييز الجيد من الردىء.
أنت مشهور بالقصة والرواية، فهل لك تجربة فى إبداع الشعر؟
الشعر أحد المتون الكبرى فى التجربة الإنسانية، وعلى المستوى الشخصى تروق لى رفقته قراءة. رفقة عذبة ساحرة ممتدة، لكننى لم أكتب شعرًا دون أن أعرف أسباب ذلك.
ترى ما الذى أفسد المشهد الإبداعى: هل هى سهولة النشر، أم الفيس بوك، أم ماذا؟
النشر الخاص، والفيسبوك هما مجرد وسائل. ربما نجحا فى إيجاد حلٍ لمشاكل كثيرة فى النشر، وشخصيًا أحب أن يحكى كل إنسان حكايته، أن يبدع، وأن يبرع، ويتحقق. ما يفسد المشهد الإبداعى، أو بالأدق ما يُشوش على الإبداعات الجيدة هو ما يشوش على كل شىء جيد فى مصر. لا يمكن بحال فصل الجزء عن الكل. هناك محاولات متعمدة لصنع نجوم أدبية بمقاييس محددة، وكثرة الطباعين لا الناشرين، واستسهال الصحافة الثقافية أحيانًا.
ظاهرة (الأكثر توزيعا، الأكثر انتشارًا) هل أفسدت الإبداع، وكيف يمكن التغلب عليها؟
فى كل زمن كانت هناك كتابات الأكثر رواجا والأكثر توزيعًا، وبتتبع الظاهرة تكتشف أنها غالبًا كانت أعمال غازلت مشاعر الجماهير، أو أنها كانت بنت الذائقة السائدة، وتكتشف على العكس من ذلك أن الكتابات والفنون التى صارت عنوانًا لعصورها بعد وفاة كُتَّابها هى كتابات كانت تحمل رؤى عابرة لأزمنتها، أو تجريبًا مبتكرًا. وليس هذا الأمر بقانون، ولكنه مجرد ملاحظة. أنا مع فكرة أن يكتب الإنسان بأقصى الموهبة، والجد، والطاقة، والتجويد، وليترك أمر الانتشار والشهرة جانبًا؛ لأنى أؤمن بأنه لا شىء يضيع هدرًا.
هل أضرت الجوائز الأدبية التى يصعب حصرها بالعملية الإبداعية؟
دائمًا ما تُعبر الجائزة عن ذائقة لجنة تحكيمها، وتوجهات مانحها، وإن لم تكن التوجهات معلنة، فهى كامنة فى اختيار لجنة التحكيم، وفى الرقيب الداخلى الذى يضع المحاذير أمام مواضيع بعينها لكل جائزة. المهم أن يدرك الكاتب ذلك سواء فاز بجائزة، أم لم يفز، أم لم يتقدم إلى الجوائز من الأساس.
هل لك أنت تحدثنا عن النشاط الأدبى الذى تعج به المنصورة، وأنت كنت أحد مؤسسى مختبر سرديات المنصورة؟
مختبر سرديات المنصورة والتسمية للصديق القاص "أيمن باتع فهمى" كان وما زال حالة ثقافية، وجمالية كبيرة حاولت أن تضيف للمشهد الثقافى الإبداعى فى المنصورة ومصر وللإبداع العربى بشكل عام. ربما نجح ذلك لوقت طويل، لكن النشاط الأدبى، أى نشاط، يرتبط دائمًا بمن يقومون به، وبمدى وضوح الأهداف التى يريدون تحققها. أتمنى أن تستمر هذه الروح الجميلة القوية لفترة طويلة. هناك أنشطة أخرى وصالونات أدبية، لكننى مع ذلك وبشكل عام لا أستطيع فصل الجزء عن الكل. ثمة روح مكسورة أثرها فى كل مكان. أدرك أن هذا العصر هو عصر إبداع، وأن الظروف مهما بلغت قسوتها وعجائبيتها لا توقف المبدع عن الحلم والكتابة، لكنى أتكلم هنا عن النشاط الثقافى فى الصالونات والأندية والجماعات الثقافية.
نداهة الكتابة، هل أصبحت تنادى على الجميع حتى صار الكتاب أكثر من القراء؟
كثرة الكُتَّاب والكتابة لا تقلق إطلاقًا. ما يقلق هو العكس. كل قارئ جيد أصلًا تتشكل لديه رؤية ورغبة فى المشاركة. ليت الناس كلها تحب الفن، وتؤمن بأثره، وقدرته على الارتقاء بالحياة الإنسانية.. ستكون حياتنا بالتأكيد أفضل آلاف المرات.
من يقرأ نص (الباص) يحس أنه عاش الحدث، ويحس أنه يعيشه كل يوم، هل لك أن تحدثنا عن هذا النص القصصى؟
لا اريد أن أقطع هذا الخط الدقيق بين الفن والواقع، ولكن هذه القصة قريبة جدًا من واقعى اليومى. عشت أحداثها تقريبًا أكثر من مرة. يراها بعض الناس قصة رمزية، ربما يكون لنظرتهم مبرراتها، ووجاهتها فلو كتبت قصة واقعية عن موقف يحدث فى مكان عام فى مصر فكأنك تصف ما يحدث فى مصر كلها، لأنى أعتقد أن علاقات الجزء تمثل بطريقة ما علاقات الكل، والعكس بالعكس.
قصة (تراب النخل العالى).. نص به الكثير، ويقول الأكثر، فهل يمكن أن تقرأه لنا؟
(تُراب النخل العالى) بها علاقات كثيرة، وتفسيرات متنوعة بتنوع الناس وأفكارهم. ثمة مصيبة عصية على التفسير. ربما لو تفاهمت حارة الملَّاح بشأن طريق محدد لتفسير الكارثة، والتعامل معها لانتهت نهاية أخرى، لكن هذا ما حدث. كثير من الأصدقاء الذين قرءوا القصة كان لهم نفس التعليق. قالوا لى إن بها مادة رواية، لماذا لم تكتبها رواية؟ أظن أننى لو كنت فعلت ذلك فسأكسر إحكامها وكثافتها ومساحة المسكوت عنه والتى سمحت بهذا التنوع فى التعامل معها.
هل يمكن لك أن تحدثنا لك عن أعز إبداعاتك؟
كل كتابة تعبر عنى فى لحظة ما أحبها، أحب معظم ما كتبته، ما يؤرقنى فى بعضها فقط هو أننى حين أقرأها بعد زمن طويل أحس أنها لم تنقل ما أردته بالضبط. ربما ينجح ذلك فى ما يكتب بعد ذلك.
وأخير.. ما أخبار النشر؟
لدي تحت الطبع مجموعة قصصية عنوانها (مقهى الشجرة الزرقاء)، ورواية (عيسى)، أتمنى أن أرى كلا منهما قريبًا فى كتاب.