القاهرة 15 مايو 2018 الساعة 10:32 ص
حسين عبد البصير
في سنوات عقد السبعينيات من القرن العشرين، خرجت الصين من عزلتها الإجبارية التي فرضتها على نفسها بعض الشيء، وانفتحت على الغرب، فأتيح لمشاهدي التليفزيون في العالم أجمع أن يتابعوا مشهدًا خارقًا للعادة، تتكون تفاصيله المثيرة التي لا تتكرر كثيرًا من جيش قوامه حوالي 8000 جندي من الطمي المحروق (التراكوتا)، وكل جندي بالحجم الطبيعي ولا يشبه أحدهم الآخر على الإطلاق. ويرجع تاريخ الاكتشاف إلى 2200 عام مضى. وكان هؤلاء الجنود في مهمة مقدسة ألا وهي حراسة المقبرة الفخمة لإمبراطور الصين العظيم الأول "جين شيهاونج".
وفي مقبرة هذا الإمبراطور الصيني العظيم، أول أباطرة الصين، وجد هذا الجيش الجرار، على أهبة الاستعداد للدفاع عن مجد الإمبراطورية الصينية الممتدة الأرجاء، والذود عن سيده الإمبراطور من أية أخطار قد تحدق به. وحكم هذا الإمبراطور الصين بين الأعوام 221- 210 ق.م.، أي حوالي 11 عامًا. ويقف جنوده منذ عام 210 ق.م.، عام موت الإمبراطور، صامتين في 11 صفًا، ويبلغ امتداد هذه الصفوف أكثر من مائتي متر في الحجرة السفلية من المقبرة التي قسمت إلى سلسلة من الممرات المتوازية.
واستمرت أسرة هذا الإمبراطور تخلفه في الحكم، وبعد سنوات قليلة من وفاته؛ حدثت حركة تمرد قام بها الفلاحون واقتحموا مقبرته، وانتقموا من جيشه الجرار الذي لم يحرك ساكنًا وأصبح لا حول له ولا قوة، بل زادوا أن سرقوا الأسلحة البرونزية الخاصة بهؤلاء الموتى، أهل العالم الآخر، واستخدموها في حروبهم الدنيوية ضد الأحياء فوق سطح الأرض.
وسوف تأخذ هذه المقبرة، عقودًا طويلة من الأثريين لتُكتشف كلية؛ فكل جندي، وكل حصان، وكل عربة حربية بالحجم الطبيعي. ووجد المكتشفون، الجنود ساقطين على الأرض نتيجة ثورة الفلاحين على المقبرة. وصُممت أساليب تصفيف الشعر بشكل متقن، وطُليت الوجوه بلون أحمر شديد الدموية، ونُفذت الأسلحة والسراويل بأسلوب رائع. وصُنع كل تمثال من الطمي المحروق، وشكل في نمط فريد حتى لا يشبه الآخر؛ فهو عضو مستقل يرمز إلى أحد أرجاء الإمبراطورية الفسيحة. وقد طلب هذا الإمبراطور جيشًا ليضع حدًا العصر التاريخ الصيني المعروف بـ "دويلات الحرب". وأحضر العديد من الأشياء المطلوبة لفن الحرب: السهام البرونزية التي تقتل على بعد مائتي متر، والعربات الحربية التي يقودها زوجان من الخيول والفرسان بأساليب تصفيف شعورهم الفائقة وأردية رؤوسهم المميزة، ورماة السهام، والمشاة، واحتفظ الإمبراطور بكل هذه القوات لحاجته إليها في العالم الاّخر. واحتوت إحدى الحفر، الحيوانات المفضلة لدى عظمة الإمبراطور، ونسخة طبق الأصل من عربته الحربية الفريدة ذات الخيول الأربعة المنفذة بنصف الحجم الطبيعي.
ولعل أهم ما عُثر عليه في هذه المقبرة، هو الهرم غير المكتشف كاملاً الذي يغطي المقبرة نفسها. وصنعت هذه المقبرة الإمبراطورية من البرونز. وتأخذ شكل مملكة السماء الخاصة بالصين القديمة؛ وفقًا لمعتقداتهم، التي تجري فيها الأنهار والبحار، بل المحيطات. واحتوت المقبرة أيضًا ثروة من المصابيح المملوءة بالزيت وعددًا كبيرًا من متعلقات الإمبراطور الشخصية المثيرة والبالغة الأهمية.
وعندما انتهى العمل في هذه المقبرة، وأصبحت معدة أحسن إعداد لاستقبال جثمان عظمة الإمبراطور المهيب، اُدخل جسد الإمبراطور إليها وثوى فيها، ودفنت إلى جواره خليلاته الجميلات العديدات اللواتي لم تنجبن أولادًا على الإطلاق. وهكذا قُدر لهذا الإمبراطور أن يدفن محاطًا بنسائه وجيشه وعربته الحربية وحيواناته الأليفة. وعمل في بناء وإتمام هذه المقبرة حوالي 700000 عامل طيلة فترة حكم هذا الإمبراطور!
وهذا ما كشف عنه الأثريون من سطح "مدينة الموتى"، ودون شك. وكما قال مكتشف مقبرة الفرعون الذهبي الأشهر "توت عنخ آمون" الإنجليزي "هوارد كارتر"؛ فإن هناك "أشياء رائعة" ما تزال تنتظر من يكتشفها. وطيرت وكالات الأنباء العالمية منذ فترة خبرًا يخص هذا الأثر الفريد ويرفع الراية الحمراء للفت أنظار الجميع إلى الخطر الذي يتهدد جنود الجيش الحارس الباسل؛ فقد بدأ العفن المكون من 40 سلالة، العدو الحقيقي للتماثيل، ينخر في 1400 منها، في هجمة شرسة تثير الخوف على مصير هذه التماثيل وغيرها من جنود الجيش العديدين والإمبراطور نفسه ونسائه وعربته وحيواناته الأليفة. وعلى الفور تنبه المسؤولون الصينيون إلى فداحة هذا الخطر؛ فطلبت سلطات مدينة "شيان"، شمال غرب الصين حيث يوجد أثرنا الفريد، معونة شركة "جانسن فارماكوتيكال" البلجيكية المتخصصة في أبحاث معالجة الفطر للتخلص من العفن الذي يهدد التمثايل الأثرية. وأعلن مؤسسة الشركة "بول جانسن": "أن 90% من العفن يمكن معالجته باستخدام الكيماويات". ونتمنى أن تنجو هذه التماثيل الفريدة من الخطر الذي يتههدها حتى لا تفنى مثلها مثل غيرها من آثار البشرية الكثيرة التي كان مصيرها الفناء.